لست أدري هل كان يجب على أهل دوما أن يضعوا أطفالهم في اقفاص من حديد وان يلبسوهم أردية حمراء ويستعيروا مخرجين ومصورين من هوليود حتى يصدق العالم مأساتهم وعذاباتهم؟
لم تبق في الدنيا صحيفة ولا قناة اخبارية ولا محلل سياسي الا أفرغ طاقاته وقدراته في فهم ما عاناه الكساسبة في محرقه الشهير… ولكن ماذا عن أطفال دوما؟
أكثر من ثلاثمائة روح طاهرة من نساء ورجال وأطفال وشيوخ كانوا قوافل الشهداء من دوما إلى رغد الجنة بعد أيام من الحقد الأسود الذي صبه الاستبداد على البلدة الطاهرة دوما…
من المؤلم ان يكون وهمنا هذا حقيقة، وأن المأساة لا تبلغ الضمير العالمي إلا على اساس من مراكب الإعلام الفاجر.
إنها أعدل قضية وأفشل محامي…. هكذا هي حقيقة الثورة السورية.
دوما مدينة سورية مقدسة وهي كسائر التراب السوري أرض أنبياء وأولياء وصالحين، ويتردد فيها ما يتردد في معظم التراب السوري اخلع نعليك انك بواد مقدس، فقد مر هنا الأنبياء والأولياء والصالحون، واشتهرت دوما بأنها أرض النبي إلياس الذي جاء مبشرا ونذيراً وهادياً ولكن اسم دوما ظل لغزاً على الناس، ولكنه لا يخفي دلالته على الشكر الموصول دوما لله، والخير المبثوث في أرض دوما، والماء الجارية في بساتينها وأشجارها دوما، ودوام النعمة ودوام الشكر المتلازمين كانا من أهم أسباب اختيار هذه التسمية لتلك الأرض الخضراء التي هي عاصمة الغوطة الشرقية وأولى بقاع الدنيا بتسمية الرسول الكريم فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى في الشام في أرض يقال لها دمشق في غوطتها هي خير مدائن الله يومئذ.
ولكن الجانب الذي تميزت فيه دوما عن سائر المدن السورية هو المذهب الحنبلي، وهي منذ عدة قرون عاصمة هذا الفقه في بلاد الشام، وفيها يقيم مفتي الحنابلة، ولا زال أهل دوما يذكرون إمامهم وشيخهم أحمد الشامي مفتي الحنابلة الذي ملأ بعلمه وفضله بلاد الشام.
دوما اختارت مذهبها من فقه الإمام أحمد بن حنبل، وتتابع فقهاؤها وأئمتها على نهج الإمام أحمد بن حنبل في ثباته وصدقه وصبره، وأخبار الإمام أحمد ناصر السنة تملأ قلوب الناس وأفئدتهم، ولا يوجد دوماني إلا وهو يتذكر ذلك الإمام الكبير الذي اختار السجن المرير على أن يقول كلمة لا يؤمن بها.
كان أحمد بن حنبل من أشهر أئمة الهدى في مطلع العصر العباسي، وقال الشافعي ما خلفت ببغداد أعلم ولا أزهد ولا أتقى من أحمد بن حنبل، ولكن عظيم علمه واشتهار صلاحه لم يشفع له عند أشرار الاستبداد، وحين أراد المأمون حمل الناس على القول بخلق القرآن، لم يقبل الإمام أحمد أن يقول خلاف ما يعتقد، مع أن الأمر كان جدلاً مصطلحياً من الممكن أن يعالج ببعض المجاملة أو باختيار الألفاظ الواسعة التي ترضي غرور السلطان وتكف بطشه، ولكن أحمد بن حنبل جهر برأيه في رفض القول بخلق القرآن بشكل لا لبس فيه، وتناول بالنقد المباشر شخص الخليفة المأمون ومن بعده المعتصم، وكل من يرغم الناس على خلاف ما يعتقدون، ودفع ثمن ذلك عناء ثمانية وعشرين شهراً في سجون المعتصم، وتولى محاكمته وتعذيبه بالأصفاد ضابط مخابرات بلا فلب يقال له اسحق بن ابراهيم، وخلعت كتفه تحت التعذيب، ولكنه لم يغير شيئاً من رأيه واختار أن يمضي إلى الغاية في كلمة الحق، في رفض القول بخلق القرآن، وقناعتي أن القول بخلق القرآن ليس كارثة في الإيمان، ولكن الإمام أحمد رأى أن إرغام الناس على هذا الفهم إهانة للكرامة الإنسانية، وتمهيد ليبسط الاستبداد إرادته على ضمائر الناس وعقولهم.
ومن هنا قال العلماء: لو أن أحمد ما بذل ما بذل لضاع الإسلام، وكان بشر بن الحارث إذا سئل عن الامام أحمد يقول: أدخل الكير ( السجن) فخرج منه ذهباً أحمر!.
ومن المؤلم أن الخلفاء الذين لا زلنا نتغنى بحضارتهم واحترامهم للعلم سقطوا في مستنقع الاستبداد، ومارسوا قمع الناس في أفكارهم وآرائهم، على الرغم من أنهم كانوا دعاة تنوير، يريدون عقلنة الخطاب الديني، ومنح النص القرآني سياقاً تاريخانياً يمكن من خلاله الاستنارة بنوره دون الانحباس في ظروفه.
ولكن التنوير القادم على مراكب الاستبداد هو شر مطلق، فالعقول لا تفتح بالسياط، والفكر لا يحاور في السجون، ولكنه الاستبداد .. لغة واحدة في كل زمان ومكان، وهذا بالضبط ما أراد أحمد بن حنبل أن يواجهه بالكلمة والبرهان، ودفع ثمنه سجناً وجلداً وشراداً، ولكنه حين رحل في السابعة والسبعين من عمره كان قد رسخ معالم الثبات على الحق وثمن كلمة الحقيقة، وهذا في اعتقادي هو الموقف الذي اعتقده أهل دوما الصابرون من سيرة الإمام الكبير أحمد بن حنبل.
لقد عرفت المنبر أول ما عرفته في دوما، وكنت خطيب جامع المنفوش الذي تحول اليوم إلى ركام، ولم يبق له أثر بعد أن سوي الحي كله بالأرض ولم يبق شيء من ذكرى أبي سعيد الريحان وأبي صياح خضير وآخرين من عيون المجتمع الدومي الذي كانوا يمتلؤون سماحة وبراً وحباً.
هنا ف دوما وقف أهل الحق يرفعون أصواتهم في زمن حنعت فيه الرؤوس وطاطأت الأعناق، ولكن أهل دوما أصروا أن يمسكوا بالأرض بكل يقين وأن يقولوا للعالم هذه أرضنا، أرض الإمام أحمد، فخر من دخل السحون في سبيل كلمة الحق، ونحن على خطاه العظيمة رسالة هدى ورشد ونور.
كم هو مضنٍ ومرير أن تحاول استخراج الأمل من هذه الأرض المحروقة، وأن يمضي جيشك الوطني الذي خدمت فيه وخدم فيه أولادك يحطم كل آمالك وأحلامك ومستقبلك فوق رأسك ورأس أسرتك، ويلقيك شريداً في الأرض مسكوناً بأتعس الذكريات التي تطاردك في كل مكان.
على أنقاض الدمار الوحشي قام الدوميون مساء الثلاثاء الأسود بتسجيل شريط فيديو عجيب لأعجب مظاهرة جريئة في العالم، خرجت على أنقاض المدينة المدمرة يغني فيها الأطفال والشباب والشيوخ أغنية واحدة:
سوف نبقى هنا…. كي يزول الألم
previous post