ما هو الفيلم الأشد إساءة للإسلام؟
هل هو الصورة الطائشة التي نشرتها الصحيفة قبل أربعة أشهر واعتبرت سخافة سمجة مغمورة؟ أم مشهد القتل الدموي الذي تم تنفيذه أمام كاميرات العالم كله تحت صيحات الله أكبر؟
لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن صحيفة في فرنسا رسمت صورا مسيئة للرسول والإسلام فكيف سيكون رده؟
وفق المظاهرات الغاضبة التي ملأت العالم الإسلامي قبل سنين، أو الهجوم المسلح الذي نفذه شبان طائشون في باريس وأدى إلى مقتل اثني عشر رجلاً فإننا نتصور أن الرد ينبغي أن يكون مزلزلاً وأن الأمة ستغضب غضبة مضرية تهتك حجاب الشمس وتمطر الدم…..
ويتصورون أن الرسول الكريم سيعلن الجهاد المقدس ضد الغرب، وينادي يا خيل الله اركبي.. وسيحتل فرنسا ويروي خيله من نهر السين، وسيجعل الصحيفة المذكورة للناس نكالاً، وإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيدهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
ولا أريد أن أسترسل في المخيلة الشعبية التي باتت ترسم للناس صورة الإسلام على هيئة فارس غاضب يشق غبار النقع لا يغمد سيفه ولا يكل حصانه ويعلق على أسوار المدن رؤوس أعدائه نكالاً للناس وإرغاماً لمن حارب الله ورسوله.
وهذه المخيلة تم التعبير عنها في مظاهرات غاضبة عصفت بالعالم الإسلامي كله إبان الحملة الأولى من الصور المسيئة التي تبنتها صحيفة دنمركية مغمورة، أصبحت عبر أسلوبها الدنيء من أشهر الصحف، وهدمت في يوم واحد ما بني من جسور الوفاق والحوار والإخاء بين الإسلام وبين الغرب المتقدم.
واليوم يتحول هذ التظاهر إلى قتل مباشر يمارس فيه شباب طائشون قتل الناس بدون تمييز، وبدون فقه، ويحسبون أن ذلك من الجهاد في سبيل الله.
هكذا يتصورون رسول الله.. ويعتبرون أن سلوكاً كهذا هو حمية لله ورسوله ودفاع عن الإيمان وشعائر الدين ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
ولكن قراءة متأنية لسلوك هذا النبي الكريم تجعلني أقول بيقين أن رسول الله لا يشبه هذا الوهم في شيء، وأنه كان يتلقى المستهزئين بروح مختلفة تماماً تقوم على مبدأ: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
لقد كان يقرأ في القرآن الكريم كل ما اتهمه به أعداؤه وخصومه … كذاب وساحر ومجنون ومفتري، ويرتل ذلك ترتيلاً ولكنه لم يزد أن يقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
وسياق حياته الكريمة تجعلنا على يقين بأنه لم يقم يومأً بتشكيل عصابات مسلحة لاغتيال معارضيه، وقد كان قادراً أن يمارس ذلك على نطاق واسع، وكان يستمع استهزاءهم واستفزازهم ولا يزيد أن يقول: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون.
وحين وقعت رقابهم بين يديه بعد عشرين عاماً من الكراهية والبغضاء وقام فيهم مقام العزيز من الذليل قال لهم بشحاعة وثقة: اذهبوا فأنتم الطلقاء..
إنه الرسول الذي لخص رسالته بآية قرآنية واحدة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
ادفع بالتبي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
وفي رواية ذات دلالة فقد جاءه من يخبره بأن قريشاً باتت سائر ليلتها تشتم الرسول الكريم بأقذع الألفاظ، وكانوا ينبزونه بالألقاب ويقولون انه ليس محمد انه مذمم… وصمت الرسول هنيهة، وظن الواشي أنه سيأمر من فوره بتشكيل فرق اغتيال صارمة توقف هذه المهزلة من السخرية بالأنبياء… ولكن الرسول ابتسم ببراءة واكتفى بالقول: ألم تروا كيف صرف الله اسمي عن شتائمهم؟ إنهم يشتمون مذمماً وأنا محمد!! وانتهت الحكاية.
هذا الهدي النبوي لا يشبه في شيء ذلك الغضب الجنوني الذي يعصف اليوم بغرائز المتحمسين فيعتبرون أن رسالتهم هدم الدنيا انتقاماً لرسول الله، وفي سياق هذا الفهم خرجت مظاهرات الغضب العارم وتوجهت إلى سفارات الغرب لتهشم وتحطم دون تمييز بين العدو والصديق وتعلن غضبها الهائج تحت عنوان: إلا رسول الله.
ولا يشبه كذلك الروايات الأثيمة التي ذكرت أن الرسول الكريم أمر بقتل امرأة لأنها نالت منه، وهي أحاديث مناقضة لروح القرآن ورسالة الإسلام.
إن التعامل بعقلانية مع الإساءات المتكررة للإسلام على الصحف الغربية لا يعني تبرير السخرية المشينة التي تمارسها، بل إن المطلوب مواجهتها بشجاعة وبصيرة، والتوجه إلى المنصات الحقوقية للرد على هذه الإساءات ومعاقبة المسيئين وفق ما يقتضيه القانون، فالاعتداء على المقدس الديني بالتحقير والتشهير ليس حرية شخصية ولا هو من حرية التعبير والصحافة في شيء.
ما نحتاجه في الواقع هو النضال الحقوقي على منصات القضاء الدولي والمؤسسات الحقوقية العالمية المختلفة من أجل أن يدرك العالم أن احترام المقدس الديني هو مطلب عادل تجاد البشرية تعزيزه وحمايته، وهذا النضال ينبغي أن ينتج صكوكاً حقوقية واضحة تعاقب المخالفين…
ولكن كل ذلك لم يحصل واكتفى المسلمون بالغضب والمظاهرات والاشتباك مع الشرطة المحلية في بلادهم، وقد قدر عدد الذين سقطوا في مظاهرات الغضب قبل سنوات بمائة وأربعين شهيداً كلهم بلا استثناء من المسليمن
ما يبلغ الأعداء من جاهل … ما يبلغ الجاهل من نفسه
قبل عشرين سنة كان انتقاد المحرقة والتشكيك بالهولوكوست يعتبر حرية تعبير، ولكن اللوبي اليهودي الناشط في أوربا كان يعمل بالليل والنهار، على المستوى الحقوقي حتى تمكن من الحصول على صكوك تشريعية تجرم التشكيك بالمحرقة، وتعاقب من يشكك بهذه الأرقام، ومع أن الدول التي طبقت هذا القانون لا تزيد عن أصابع اليدين ولكن اليهود استطاعوا أن يجعلوه فزاعة في حق كل من يشكك بأرقام الهولوكوست.
نستطيع فعل الشيء نفسه، وهو ما أسميه الجهاد الحقوقي، وفي ذلك احترام الشعوب وإنصاف الأنبياء، ولكن المطلوب أن نكف عن الغضب الأهوج الذي يسيء إلى الإسلام كما يسيء إلى المسلمين، ولا نجني منه شيئاً، وهو بالضبط ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم.
أما ما يرتكب من جرائم بحجة الدفاع عن رسول الله فليس له إلا اسم واحد وهو القتل الحرام، ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.
بقي أمر واحد لا بد من الإشارة إليه، وهو هذا الاهتمام العالمي بشارلي أبيدو، ورغم بشاعة الحريمة ولكن الموقف الدولي الذي يبكي ويلطم لهذه الواقعة يتناسى ويتغاقل الجرائم التي يكابدها الشعب السوري من قهر وإذلال وعذاب زادت ضحاياه عن نصف مليون ضحية بين شهيد ومعتقل ومفقود، وبينما يتحد مجلس الأمن ويعلن الحداد على ضحايا شارلي فإنه لا يزال يراوغ ويمكر في توحد موقفه ضد أنظمة الموت التي تمارس إبادة الوطن المنكوب من الوريد إلى الوريد.
حين يمارس الكبار موقفاً لا أخلاقياً تجاه مآسي الشعوب فإنه يجب توقع ردات فعل طائشة مثل هذه وأشد…. إنني لا أبرر الإرهاب، ولكنني أفسره، وهذه هي الحقيقة.