جاء نيروزهذا العام في الحسكة دامياً مريراً أحمر كما هو تاريخ العذاب الذي طبع حياة الكرد إخوتنا في الوطن منذ أن أطلق جمشيد بن طهمورث الفارسي حملته لاستئصال الكرد قبل أكثر من ألفي عام، كما تذكر اسطورة الفردوسي في شاهنامه، واختلاط الرواية عن الملك الضحاك الذي جاء منجداً للكرد من جمشيد الميدي ولكن بعد انتصاره على جمشيد وقتله وزواجه بابنتيه شهرناز وإرنواز تحول الضحاك نفسه إلى علقة شقاء بحق الكرد، و كان يطبخ كل يوم رأس اثنين من شباب الكرد ليعالج من مرضه، إلى أن نجح كاوه الحداد الفتى الكردي الثائر مع الشهيد أفرودين بالانتقام لأهله وإخوانه وقتل الضحاك في يوم النيروز الذي صار رمز الحرية والربيع والحياة.
لست هنا من أجل أن اكتب في التراث الكردي، وأنصحك أن تقرأ مم وزين كما جرت في قلم جان دوست لتفهم عمق حكمة الكرد من خلال الرواية الكبرى التي يعتمدها التراث الكردي لتقديم أبطاله ورجاله وتراثه.
ولكن الذي دفعني للكتابة هو تساؤلات كثيرة قرأتها على صفحتي وصفحات أخرى تتساءل: هل يجوز إقرار الكرد في احتفالهم بالنيروز خاصة أن هذا العيد قديم تشارك فيه الديانات الشرقية من زراشيتية وبهائية ومزدكية وأن الأصل أن العيد هو الفطر والأضحى ما سوى ذلك فهو بدعة في الدين وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وهذه الأسئلة تأتي عادة في سياق وجوب البراءة من المشركين وتحريم تقليدهم أو إقرارهم في عاداتهم وأعيادهم واعتبار ذلك كله وهنا ً في الدين وضعفاً في اليقين.
ومع أن معظم الكرد مؤمنون موحدون، ولكن الولع بتكفير الناس أصبح اليوم سمة الشارع الانفعالي الذي يختار التكفير قبل أن يبدأ بالتفكير.
لست أدري كيف تسللت هذه الفكرة الملعونة إلى تراثنا، وجعلت المسلم يتعبد الله بمخالفته للآخرين، بحيث يكفي القول إن هذا من عادات النصارى أو من شعائرهم حتى يتعين تركه ولعنه ومطاردته ومحاربته على أساس أنه من شعائر المشركين.
ويتم في هذا السياق استحضار نصوص كثيرة من التراث مثل: قاتل الله اليهود والنصارى، لعن الله اليهود والنصارى، وصلوا بنعالكم وخالفوا المجوس، وفي مسند أحمد يا معشر الأنصار حمروا أو صفروا وخالفوا أهل الكتاب، وقصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب، وهي نصوص أطلقت في سياق مواجهات حربية مؤقتة ولا تشبه في شيء روح الإسلام في احترام الآخر المختلف دينيا وتقدير ثقافته ومقدساته.
والقرآن الكريم طافح بنصوص كريمة واضحة تدعو بوضوح إلى احترام قيم الشعوب وتراثها وتاريخها، وحتى النص التشريعي نفسه تم تقديمه للناس على أنه مصدق لما بين يديه، وقد تكررت هذه العبارة المقدسة في القران أربع عشرة مرة، والتصديق لما بين يديه يشمل النبوة السابقة والحكمة اللاحقة، ويؤسس لمناخ من التعاون والتكامل بين الحضارات والشعوب واحترام المقدس الديني لدى كل أمة.
يقوم خطابنا الانفعالي بتشويه اعتقاد الآخرين والاستهزاء به على أساس أن هذه أفضل طريقة لتخليص الناس من الشرك والدخول في التوحيد، وفي فترة ما انتشرت بشكل جارف أشرطة الشيخ ديدات الواعظ الأفريقي الذي قام بحوارات صاخبة مع القس جيمي سواغارت كانت تنتهي دوما بالسخرية والاحتقار لكل ما يدين به الطرفان ولكل ما يقدسانه، ومن المؤلم أن هذا اللون من الأشرطة كان يحظى بشعبية كبيرة ولا زال، لدى جمهور كبير من شبابنا المتحمس، كما لدى المسيحيين المتعصبين، وكانت هذه الحوارات تنتج ثقافة انفعالية هوجاء من نوع: ألقمه حجراً.. مسح به الأرض…. قام بتعريته وفضحه.. دمغه وأسكته وأخرسه …. وتؤدي رسالة واحدة وهي زيادة البغضاء والكراهية بين المسلم وبين الأديان الأخرى في العالم، والإعداد لموجات تحقير ديني تمهد لمنازعات وحروب، يخوضها شباب متحمس في سبيل الدفاع عن التوحيد، وشعارات أخرى…. فإلى أي مدى تصدق هذه الرؤية وفق قيم الإسلام؟
قناعتي أن القرآن الكريم طافح بخطاب التواصل والتكامل، والاحترام للمقدس الديني للآخر المسالم، وبسرعة يمكننا أن نقرأ نصوصاً كريمة في القرآن الكريم:
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور…
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه…
ورسلاً قد قصصناهم عليك ورسلاً لم نقصصهم عليك….
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك…
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً….
وعلى الرغم من أن جمهور الفقهاء على أن التوراة والإنجيل كتب منسوحة لا يحل العلم بها ولكن احترامها وتقديسها نص قرآني حكيم وكريم، والقرآن يدعو صراحة إلى العمل بما أنزل الله في الإنجيل من الحكمة والخير، وهو موقف مسؤول لا يشبه في شيء خطابنا الانفعالي الغرائزي القائم على تسفيه مقدسات الشعوب وازدراء أعيادها وتقاليدها.
وفي النص الأخير يعزز القرآن مسؤولية المسلم في حماية المعابد كلها، من صوامع وبيع ومساجد وصلوات، وهي معابد الأديان كلها، وفي الآية إقرار بأن ما يجري فيها هو ذكر الله، على الرغم من أن الصوامع معابد النصارى والبيع معابد اليهود والصلوات معابد الأديان الأخرى وتشمل البوذية والزرداشتية وغيرها.
ولا تقل النصوص الواردة في هذا السياق عن مائة نص قرآني، كلها تعزز ثقافة الحوار والتواصل واحترام المقدس الديني للشعوب، ودعوتهم للحكم بأجود ما فيه واتباع أحسنه.
المسلم جزء من هذا الكوكب، وإخوانه في الإنسانية أهله وجيرانه، والناس من جهة نسبهم أكفاء، أبوهم آدم والأم حواء، وقدر كل امرئ ما كان يحسنه، والجاهلون لأهل العلم أعداء.
النيروز (اليوم الجديد) كما هو في لغة الكرد ولغة فارس، يطل من جديد ويمنح الأمل والعمل لأبناء الشعب الكردي، بعد أن مارس نظام البعث تهميش الكرد وتهجيرهم وإلغاء ثقافتهم نصف قرن من الزمان، تحت شعارات النضال القومي ومواجهة المشروع الامبريالي وغيرها من الدعاوى الفارغة المخصصة لتبرير الاستبداد والقهر.
جاء النيروز هذا العام مريراً دامياً، ودفع شباب الكرد نحو مائتي شهيد على المروج الخضراء التي كانوا يمارسون فيها الفرح والأمل، ولكنها صورة لنضال مستمر لا يمكن أن يمحوه الظلم والإلغاء والتهميش، يعيد لأذهان شباب الكرد شجاعة كاوه، وبسالة فرهاد وعشق مم وزين….
ممكن غنى أبروير يشرى….. وجراح فرهاد هيهات تشرى
والذي يجعل القلندر حرا ….. أنه لا يطيـــــــق للسر نشرا