إنه ليس مصطلحاً بيولوجيا على نمط إنسان نياندرثال وإنسان بكين، ولكنها صورة حظيت خلال التاريخ بصفة الاعتدال والتسامح، حيث احتضنت الإسلام والمسيحية، ومنها انطلق المبشر السوري المسيحي إلى أوربا التي اعتنقت هديه ورسالته، ثم كررت الموقف نفسه مع الإسلام، وقدمت نسختها الفريدة وزرعت الحضارة في بلاد تمتد نظرياً من طليطلة إلى الأندلس.
الإنسان السوري يتحرك مسكوناً بستين قرناً من الأداء الحضاري أدهشت العالم، وأصبح لدى كثير من الناقدين في العالم تصور للإنسان السوري المختلف في فهمه للأديان والحضارة والعيش المشترك والتكيف مع الحياة وابتكار السعادة في جو يفتقر إلى أدنى مقوماتها.
ولكن مصطلح الإنسان السوري يتحول اليوم إلى ذلك الإنسان المزروع بثقافة الكراهية والمسكون بنزعة الإلغاء والاستئصال، وهو سلوك بدأه النظام بأصحاب النياشين العسكرية الذين قاموا عن عمد بتصوير وحشيتهم في المعتقلات انطلاقا من موقف: بدكن حرية .. عطيهم حرية…. إلى البراميل المتفجرة والمدن المدمرة وفي منعكس شرطي بدهي ظهرت الوحشية نفسها في الجانب الآخر بدءاً من مشاهد الجلد والصلب والقطع إلى مدافع جهنم السابحة في الفضاء ما تدري نفس بأي أرض تنفجر.
فمن هو الإنسان السوري؟ قد يقتضي هذا المقال الاعتذار من الإنسان الأفغاني والصومالي والشيشاني الذي قدمه الإعلام طويلاً كائناً متوحشاً يمارس القتل والتعذيب بدافع من إيديولوجيات ظلامية وانتقام مريض، وصارت صورة الأفغاني الهائم في الأرض تتبعها تحذيرات وتنبيهات لئيمة من الوحشية المتأصلة في هذا الكائن العجيب المسكون بالرغبة في الموت والتفجير الانتحاري، وخلال ربع قرن ارتبطت أسماء الأفغان بوجوه من نوع حكمتيار وعبد رب الرسول سياف وشاه مسعود وبابراك كارمل وملا عمر وبن لادن وكرزاي، ولم يتسن للعالم أن يسمع شيئاً عن شعراء أفغانستان وأدبائها وحكمائها، وكأن ليس فيها سهول تتدفق فيها الجداول، وفراشات ترقص في الحقول حول الغانيات، وقمم يكسوها الثلج الطاهر.
نسي العالم أن فيلسوف الحب والإشراق الأشهر في العالم جلال الدين الرومي ولد في بلخ بأفغانستان، وأن مؤذن النهضة في هذا الشرق هو جمال الدين الأفغاني المثقف الثائر العابر للقارات، ولم يعد العالم يسمع شيئاً عن رموز الحكمة والشعر الأفغان مثل رحمن بابا ولا حتى عن المعاصرين منهم مثل زاهدة خاني وفوزية رهزكر وصبا شكيب ومطي الله توراب، وربما تمكنت الطفلة ملالا يوسف زاي من تنبيه العالم أن هناك وراء الخنادق الدامية المسكونة بصوت الموت والرصاص وخلف الوجوه الغاضبة المنتقمة المتمردة على كل جميل ، هناك أيضاً مكان للحب والإشراق والسلام في بلاد الأفعان.
ولو ترك للقلم عنانه لراح يكتب في لوحة الإشراق الأفغاني والصومالي والسشيشاني ما يمتع قلوب العاشقين للجمال والسلام في الأرض ويثري قلم كل فيلسوف وريشة كل فنان وناي كل عازف.
يتذكر العالم صورة السوري الحضاري الذي أتقن منذ فجر التاريخ ثقافة الإيمان بالآخر واحترام مقدسه منذ قال الحكيم السوري العتيق لا تحقر إلهاً يعبده غيرك، وهي ثقافة عاشت فيها الكنائس والمساجد والكنس متجاورة مئات السنين، وظلت مكتبات الكنائس حافلة بالكتب والرموز الدينية المرفوضة تماما في العقيدة الاسلامية ولكنها لم تكن لتجد أي عناء في الانتقال بالحفظ والصون من جيل لجيل، وتمارس العيش المشترك في ظل كل الدول التي تقلبت في الحكم أموية وعباسية وفاطمية وسلجوقية وأيوبية وعثمانية ووطنية، وحتى نكون دقيقين فإنه كان يصيبهم بالضبط ما يصيب إخوانهم من المسلمين أيام المحن والشدائد.
ولكن مشهد الحرب قام بتغيير كل شيء ولم تعد صورة السوري اليوم هي صورة الشاعر الساحر الذي لا يستطيع أن يكتب عن دمشق دون أن يعرش الياسمين على أصابعه، لقد صارت صورته اليوم هي صورة البروموشن المضرج بالصراخ والأسى والدم والموت الذي يطل كل يوم عشرين مرة عبر الفضائيات الإعلامية كلما فتح الملف السوري.
إن الإنسان السوري ليس كائناً بيولوجياً مسكوناً بجينات الحضارة، إنه صورة من تفاعل الإنسان الطبيعي حين تكتب الأقدار تزاحم الحضارات والثقافات على أرضه، وحين يتوفر حد أدنى من الحكمة في السياسة والخوف من الله في تدبير أمر الوطن، وهذا ما كان خلال التاريخ كافياً لجعل هذا التنوع صورة الحياة الرائعة التي عاشها الناس على ضفاف بردى وحول قلعة حلب وفي جبال الجمال والسحر والقباب الخضراء على امتداد سوريا.
من المؤلم ان النظام يتخيل أن الإخاء السوري هو منحة بعثية جاءت في غمار منجزات الحركة التصحيحية وكأن سلطان باشا الأطرش وفارس الخوري وصالح العلي ويوسف العظمة وابراهيم هنانو كانوا رواداً في طلائع البعث ثم رفاقا شبيبيين، وكأن سوريا كانت في لجة من الجاهلية يحكمها التكفيريون الظلاميون بالذبح والجلد والصلب حتى جاءهم المنقذ الحضاري البعثي، وأنها اليوم ترتد إلى جاهليتها الأولى ما لم نوافق على كل جرائم الجيش والمخابرات والشبيحة التي ترتكب في طول البلاد وعرضها تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
إن المشهد الرهيب للإنسان السوري الذي يتولد اليوم على أرض سوريا في صيغتي داعش وحالش وما بينهما هو سيناريو لا مستقبل له في سوريا وذلك ببساطة لأنه ليس لديه هنا ماض ولا تاريخ، فمتى كانت سوريا تحكم بهذا اللون الهمجي؟ وهل في تاريخ سوريا حكم متوحش بهذه الطريقة؟ كل الدول التي تقلبت على حكم سوريا كانت تلتزم ثقافة الناس وعاداتهم، ولم يحصل أن دولة حكمت سوريا في أي مرحلة من التاريخ بمنطق أمراء الحرب القساة وربما كان آخر ظهور لهذا النوع من الحكم قبل ستمائة عام في الغزو الهمجي لتيمورلنك 1400 م حين قام بإحراق حلب ودمشق واستباحة أهلها ونسائها وأطفالها، ومن المؤلم أنه على الرغم مما ارتكب فيها من جرائم وضحايا في الأرواح، ولكن الدمار الذي أصاب حلب اليوم هو أقسى مما كتبه التاريخ عن تيمورلنك.
من حقنا أن نشعر بالريب والشك حول الجهة القادرة على صنع حركات التطرف الظلامي وازدهارها في سوريا، وقد لا يكون من العقل أن نفترض قدرة النظام على صنع جماعات بهذه القسوة والايديولوجيا، ولكنه في النهاية لا يستطيع أن يتهرب من مسؤوليته في قيام هذه التيارات، وقناعتي أن المسؤولية الكاملة في ظهور هكذا تيارات هي مسؤولية النظام الذي احتكر السلطة والمعارضة في سوريا خمسين عاماً، وهو وحده من وضع البلاد أمام صيغة: هذا أو الطوفان، أنا أو الإرهاب.
إنها كلمات نرسمها برسم الأمل للسوري المعذب التائه في الأرض، لقد كتب الله على السوريين أقسى أشكال المحنة منذ ستمائة عام، ولكن الصورة المستمرة للروح السورية هي صورة الإخاء والعيش المشترك، والوسطية والاعتدال وهي وحدها التي سوف تستمر على هذه الأرض الطيبة، وهي تاريخها الآفل ووعدها الآمل.
previous post