لا توجد كلمة فاجرة أشد لؤماً في وصف مشهد حمص اليوم من كلمة انتصرنا…. يطلقها إعلام النظام اليوم، ويقوم فلاسفته وأجراؤه بتزيين طعم النصر على أنغام موسيقا الموت الرهيبة التي تعزف بلؤم على مسرح الموت.
ولا يعدم المعارضون أيضاً من يستخدم المصطلح إياه، ويسمي الكارثة الماحقة نصراً، حيث ماتت المدينة وبقي السلاح، ولا زلنا نصرخ سيهزم الجمع ويولون الدبر، والساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر.
دمار كامل للحياة والأحياء، أكثر من عشرين ألف شهيد مسجل في حمص، ضعف هذا الرقم يصنفون اليوم ضحايا الحرب من معاقين ومأزومين وبائسين والجميع يمارس رسالته في الموت والأسى… ومع ذلك فهناك من هو مستعد أن يحمل البسطار العسكري على رأسه ويقول انتصرنا؟
إنها حكاية الهوان الذي نكرره منذ أكثر من ستين عاماً، منذ خرج جيل النكبة الأول، والخطاب العربي الإعلامي لا يزال يمارس العهر إياه انتصرنا في النكبة وانتصرنا في النكسة وانتصرنا في الاجتياح وانتصرنا في الغزو وفي كل أسماء الهزائم التي عاناها العرب بسبب سياسات الاستبداد كنا نطل على الشعب المنكوب ونقول له الانتصارات مستمرة والعدو مندحر!! واستمر الخطاب الإعلامي العربي يتحدث عن انتصارات، وكان دليل هذه الانتصارات دوماً هو بقاء الحاكم على كرسيه!!.
اليوم يطل على الاعلام السوري فلاسفة دجالون يطرحون الماساة الإنسانية والكارثة المدمرة التي حاقت بالشام على أنها انتصار للرجل الذي رفض مغادرة الكرسي، بغض النظر عما أصاب الوطن من دمار ليس له أي شبيه لا في تاريخ الامم اللاحقة ولا الامم الآتية.
الانتصار تحقق ……. والأرمة خلصت,….. صحيح أن سوريا دمرت بالكامل، وصحيح أن الوحدة الوطنية تم تدميرها بالكامل على مذبح الطائفية، وأن الملايين التسعة المشردين في الأرض اليوم، لن يجدوا بيوتهم التي كانوا يسكنونها حين تنتهي المعارك، وصحيح أنه لا توجد قوة في الدنيا تستطيع العودة بربع مليون ضحية وفق الرقم الذي قدمته المستشارة الرئاسية وأضعاف هذا الرقم من المفقودين والمنكوبين، وصحيح أن أحياء حمص أصبحت كالعصف المأكول وفي ركامها أرواح بريئة وطاهرة ماتت ألف مرة قبل أن تذوق الموت … ولكن الانتصار تحقق لأن الرئيس استمر في الجلوس على الكرسي..
قد أستطيع أن أفهم مثل هذا التعنت المجنون لدى العائلة الحاكمة التي وجدت نفسها في خانة الاستهداف وتصرفت على منطق (علي وعلى أعدائي) ولكن كيف يكون هذا مبرراً بلسان كثير من المنظرين والسياسيين والمثقفين الذين ليسوا في العير ولا في النفير، والذين لا يراهم النظام إلا بيادق ولا يراهم الناس إلا أبواقاً، والذين لا يبدو الوطن بالنسبة لهم إلا كنافذة للظهور الإعلامي لتقديم ما يرضي المستبد من ثقافة الموت الأسود.
حين قامت إسرائيل بغزو لبنان وحطمت البنية التحتية للعاصمة المنكوبة في ضاحيتها الجنوبية، ودفعت انقسام اللبنانيين واحتقانهم إلى الغاية وأعادت وضعهم على شفير الحرب الأهلية الدامية ودمرت أحياء كاملة على رؤس أهلها، واستشهد نحو ألف وثلاثمائة من خيرة المقاومين يومذاك قبل أن تنخرط المقاومة في لعبة السياسة والطائفية وتخسر ما كان لها من رصيد، ظل الإعلام العربي المقاوم يتغنى بهذه الانتصارات شهوراً طويلة على انه الوعد الإلهي الصادق.
إنني ما أبرئ نفسي، فقد شاركنا في الفرح بهذا الانتصار، وكنا نغلف ذلك بالرغبة في رفع الروح المعنوية للأمة ومنع الانكسار، ولم نجرؤ على قول الحقيقة، إن مشاعر أهل الشهداء والضحايا لا تحتمل هذا الفرج الفاجر الذي يرقصون فيه على أشلائهم، وبيوتهم المدمرة وجثث الشهداء من أبنائهم الذين ماتوا في غير هدف عقلاني، وكان علينا أن نقول إننا أسأنا إلى أهالي الشهداء ومارسنا مع ذلك الفرح بالنكبة ومارسنا الشماتة الكاذبة باسرائيل المغرورة المهزومة المأزومة المحطمة المدمرة المنهكة البالية المتهالكة، إلى آخر الألقاب المنحوسة!!!.
منذ النكبة لا يمكنك أن تقرأ الواقع العربي إلا على حد القول المأثور ما من يوم إلا والذي بعده شر منه، ويمكنك أن تقرأ الواقع الإسرائيلي ما من يوم إلا والذي بعده أحسن منه، ومع ذلك، فإننا نجيد زخرفة القفص والرقص في الوهم واصطناع عنتريات النصر الفاجرة.
لقد استطاع الإعلام المحترف أن يقدم على الشاشة عدداً من ذوي الشهداء وهم يفتخرون بالنصر الذي حققه المحاربون، ولكن هذا الإعلام أغمض العين والكاميرا عن تلك الدموع الحرى التي كان الآباء والأمهات أنفسهم يذرفونها قبل المقابلة القاسية وبعدها، وهم يدركون أن الأحبة الذين ولوا لن يعودوا، وأن النصر الذين يهزون رؤوسهم للتعبير عنه ليس إلا ركاما من المآسي والأحزان.
نحتاج في هذه اللحظة إلى صراحة اليابانيين وتواضعهم، ويتذكر العالم موقف الامبراطور هيروهيتو الذي قال بملئ شفتيه لقد انهزمنا، ولم نتمكن من مواجهة العنف بالعنف، وعلينا أن نعترف بوضوح، وأقدم بشجاعة على حل هذا الجيش المجنون الذي كان سبب هذا الخراب، والعنتريات التي كانت تترافق مع طبول الحرب الفارغة، وعلى الرغم من البطولات الأسطورية المقدسة لرجال الكوميكاز فإن الامبراطور كان واضحاً بان علينا أن نتخلى عن الجيش الذي جرنا إلى أوهام القوة الدامية، وأقال حكومة سوزوكي الحربية وأسس حكماً مدنيا برئاسة ناروهيكو ثم قام بدعم سوغارو يوشيدا الليبرالي الذي أطلق حكومة مدنية لا تتعاطى مطلقاً الشأن العسكري، واكتفى باتفاقات أمنية مع الأمريكيين، وانصرف بالكلية إلى صناعة المعجزة اليابانية عن طريق العلم والعمل، بعيداً عن غبار الحروب، وصنع المعجزة، وجلس يراقب أكهيتو يقود الجيل الجديد، وهو يعيد بناء هيروشيما بدون ركام من الثأر والجنون!!
أتصور لو أن اليابان رزقت قيادات فذة كقياداتنا وانطلقت تعلن انتصاراتها الصدامية الجوفاء، وتعلن حرب التحرير على انقاض هيروشيما وناغازاكي (المنتصرتين) وانطلقت تستأنف انتصاراتها في المدن اليابانية الأخرى,,,, ببساطة فإن اليابان كانت اليوم بعد ستين عاماً أكبر صومال في العالم، يعيش فيها مائة وثلاثون مليون متحارب ومتحازب وستستمر تراجيديا الموت على جماجم الناس.
سيتساءل أطفال حمص أين هو الانتصار الكاذب؟ بعد أن تحول ذووهم وأقاربهم وأصدقاؤهم وأحبتهم ومنازلهم وألعابهم ومدارسهم وأمانيهم وأحلامهم ومستقبلهم إلى رماد…..
ببراءتهم وفطرتهم فإن أطفال حمص اليوم لن يفهموا أين هو هذا النصر الموعود، وأتمنى أن لا نتكلف خداعهم من جديد ونرسم لهم انتصارات زائفة حفاظاً على معنوباتهم الذبيحة، لقد حان الوقت لنقول لهم بشجاعة وصراحة: نحن آباؤكم فلا تشبهونا، نحن أصنامكم فلا تعبدونا…
previous post