Uncategorized

وداعش تصلب أسيرا. دعوة لمراجعة تطبيق الحدود

ويستنكر الشرق والغرب والأزهر والكنيسة ورابطة العالم الإسلامي والمفتي ورئيس الجامعة الإسلامية والفقيه والخطيب والواعظ …. ولكن لا أحد يسأل السؤال الكبير….. من منحهم هذه المشروعية ومن أقنعهم بهذا اللون من العقاب القاسي المرير؟
لعل أول ما يجب الاعتراف به هو ان النصوص التي تعتمدها داعش في تنفيذ هذه الأحكام القاسية هي الأدلة التي نعلمها لطلابنا بمنتهى الدقة والموضوعية.

عقوبة الصلب وردت في نص قرآني، في سورة المائدة، وحين يحفظه أطفالنا في معاهد القرآن فإننا نهتم بإظهار الإخفاء والإدغام والمد والإمالة والقلقلة والجهر في نطق هذه الحروف، دون أن نقدم أي تحفظ ضروري في التأويل إزاء هذه النصوص الخطيرة والتي تتحكم في الدماء.

إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

ويتولى الفريق المؤيد لداعش تنفيذ الصلب ويعتبرون الحكم تطبيقاً دقيقا لتوجيهات القرآن، وأمنية للمجاهدين الأحرار الذين يريدون تطبيق شرع الله، وأن إقامة حد واحد أحب إلى الله من صلاة أربعين عاماً!!!!

فيما يتولى المعارضون لسلوك داعش رفض هذا السلوك بضراوة، ومهاجمة داعش المارقة الخارجية الكافرة المرتدة، واعتبار سلوكها افتئاتاً على الحاكم الشرعي الذي انعقدت له بيعة صحيحة في أعناق المسلمين، وداعش ليس لها بيعة صحيحة وأحكامها باطلة….

ولكنهم لا يقولون شيئاً عن طبيعة هذا الحكم القاسية، وسرعان ما تستخلص من فتاويهم الاعتراض الشخصاني، فيما يقول لسان الحال: عليكم أن تنتظروا قيام الحكم الإسلامي الرشيد وإمساكه البلد بحزم وعزم وعند ذلك سننصب للناس خشبات الصلب العادلة، ونقطع أيدي المحاربين وأرجلهم من خلاف، وعند ذلك سيدخل الناس في دين الله أفواجاً!!

قد تكون هذه الصراحة مستفزة لبعض الأصدقاء الذين لا يريدون أي تطوير في الشريعة، ويعتقدون أن تطبيق السلف للشريعة صالح لكل زمان ومكان، ولكننا نحتاج للصراحة والمكاشفة والأمر لا يحتمل والموضوع موضوع دماء وأرواح، والأمر قد أصبح على سدة التنفيذ وليس مجرد جدل فقهي على الصفحات الصفراء.

ويبقي السوال هل تريد الشريعة بالفعل تنفيذ أحكام كهذه وهل يؤيد القران بالفعل قطع أيدي الناس وأرجلهم من خلاف؟

الجواب التقليدي نعم وهذا جزاء وفاق لإجرامهم، ويزيد المتحمسون لو أن هذه الأحكام طبقت لانتهى الشر منذ زمن بعيد وما ظهور الشر إلا نتيحة لتهاوننا في تنفيذ هذا اللون من الأحكام.
وقبل أيام كتب أحد الأصدقاء معززاً هذه القناعة: إن رسول الله قطع يد سارق رداء صفوان بن أمية وقطع يداً في ثلاثة دراهم!!!
ويضيف بعض الرواة أن صفوان توسل إلى النبي بالعفو عن سارق ثوبه ولكن الرسول أصر على قطع يده!!

كيف يمكن تصديق هذه الرواية وفي الوقت نفسه تصديق قول الله تعالى في وصف نبيه الكريم: بالمؤمنين رؤوف رحيم، وهل ضاعت الحكمة والرحمة في الأمة حتى لم يجد ثلاثة دراهم ترد عن خاطئ عابث سرق ثوبا أو ثلاثة دراهم، إن هذه الأسئلة بسيطة وبريئة وهي من النوع الذي يسأله كل قارئ، ولو لم يكن فقيها ولا متخصصاً.
ويقول بعضهم إن المجتمع قد طهر برمته ولم يتبق إلا هذا السارق ولذلك كانت العقوبة رادعة وأوقفت الشر كله!!

ولكن سرعان ما تقرأ بعد قليل ان العرب قد ارتدت عن قوس واحدة وشرع الالاف بممارسة القتال والسرقة والحرابة ولم يردعهم من ذلك شيء!!

قناعتي ان هذه الحدود شكل من أشكال اقامة العدالة وهي منسجمة تماما مكع كان سائداً من العقاب في ذلك العصر البعيد القاسي، وبإمكاننا أن نجد في التشريعات الرومانية والفارسية عقوبات مماثلة، ولكن العالم كله تغير، وتطورت هذه العقوبات جذريا في العالم كله باتجاه العقوبات الإصلاحية وتقتصر اليوم العقوبات البدنية على عدد من البلدان الأفريقية الغارقة في التخلف كبوتسوانا وموزامبيق وكذلك لا تزال في بلاد كاليمن والسعودية وأفغانستان والمحاكم الشرعية في الصومال، فيما تجاوز العالم الإسلامي كله تقريباً هذه المواد في تشريعاته وتحول إلى العقوبات الإصلاحية، وتوقف عن ممارسة التعذيب على السجناء بالجلد والبتر، على الأقل في سياق خطابه القانوني والتشريعي.

ولا شك أن الدول الإسلامية التي ألغت آلة الجلد والصلب والرجم لديها فقهاؤها وعلماؤها ومفكروها، وإن كبار فقهائها شاركوا بشكل أو آخر في تأييد قوانين العقوبات الجديدة القائمة على الالتزام بروح النص القرآني وتحريم حدود الله، ووجوب اتباع أمره ونهيه.
وقناعني أن الإسلام وشريعته الواقعية أقدر على تحقيق هذا التطور الجدي في الشأن الحقوقي، وأن الفقه الإسلامي حقق إنجازات كثيرة في هذا السبيل في الدول الناجحة خلال التاريخ الإسلامي.

ان آية الصلب والقطع لا تختلف عن ايات كثيرة اعتبرها الفقهاء محكومة باسباب النزول والورود ولم يترددوا في وقف العمل بها عندما تغيرت الظروف، تحت قاعدة كبيرة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

ومع أنني جمعت لتقرير هذه الحقيقة 1400 مثال عملي لتطبيقات الفقهاء الراشدين، ولكنني أكتفي هنا بمثال واحد أتمنى أن يكون واضحاً في تقرير جواز الانتقال من العقوبة البدنية إلى العقوبة الإصلاحية، ووجوب التوقف عن الصلب والقطع والتعذيب في العقوبات واستعمال آلات أخرى رادعة تلتزم المعايير الإنسانية التي اتفقت عليها الأمم، مع النأكيد على تجريم كل ما أكد القرآن الكريم أنه جريمة وخطيئة، وبهذا يكون الجدل فقط في الأسلوب والأداة وليس في جوهر تحريم الموبقات والكبائر من القتل والزنا والقذف والسرقة والحرابة التي لم تحل أصلاً في أي دين.

في مثال قريب علي ذلك فان سورة كبيرة في القرآن نزلت تحت عنوان سورة الانفال، والأنفال هي الأموال التي يغنهما المتحاربون من أعدائهم، وكانت هذه السورة صريحة في توزيع الاموال التي يغنمها المقاتلون في ساحات الحرب، ونص الاية واعلموا انما غنمتم من شيء فإن لله خمسه، ومقتضي ذلك ان كل ما يكسبه الجيش المحارب يوزع بين المتقاتلين وتاخذ الدولة منه الخمس.

أورد أبو يوسف في كتاب الخراج أنه لما أنجز الصحابة فتح العراق طالبوا سعداً بقسمة الغنائم وفق النص القرآني الذي خصصت له سورة كاملة في القرآن الكريم اسمها سورة الأنفال، ولم يتمكن سعد من تلبية طلبهم وأحال الأمر إلى عمر بن الخطاب وهو في الواقع أشهر وأشجع فقيه في تاريخ الإسلام.
وحين عرضت القضية على عمر بن الخطاب كان بلال بن رباح وهو أشد المتحمسين لقسمة غنائم العراق يملك أدلة نصية أوضح من ضوء الشمس، أن الغنائم للمحاربين وهذا أمر منصوص عليه في القرآن الكريم في سورة طويلة سميت باسم سورة الأنفال، وكذلك آيات ظاهرة في سورية الحشر.

ولكن عمر بن الخطاب الذي كان يمثل حالة تنوير فريدة في تلك المرحلة، تناول الأمر من حالة أخرى، لقد تبدلت الظروف خلال هذه السنوات الخمس بين موت الرسول وفتح العراق، وإن قسمة غنائم العراق بين المحاربين لا تشبه أبداً قسمة غنائم بني النضير أو هوازن وغطفان يوم حنين، حيث كان المحاربون قد جلبوا هذه الغنائم معهم إلى القتال ليثيروا حماس المقاتلين ليشتدوا في القتال، وهو بذلك لا يشبه في شيء قسمة غنائم العراق من أرض ومال.

جادلوه طويلاً ولكنه وقف صارماً ينفخ ويفتل شاربيه، وكان إذا غضب فتل شاربيه وقال:
كيف أقسم الغنائم فيكم، وأدع أهل العراق والشام؟
أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام – كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر – لابد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إِذا قسمت الأرضون والعلوج؟؟

وفي خطاب مسؤول يتحدث الرجل الذي حقق أروع أشكال المساواة في الناس بقوله: لقد أشرك الله من بعدكم بهذا الفيء، والله ليصيبن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء.

لم تمر المسألة بهذه السهولة واستمر الجدل طويلاً، وتمسك عدد من الصحابة بظاهر النص القرآني وأصر عمر على تنفيذ روح النص ومقاصده، وبقيت خيرات العراق في العراق، وتم استخدامها في التنمية والشأن العام، وفق ما قرأ عمر في روح النص القرآني، وليس وفق ما طالب به الصحابة من ظاهر النص القرآني.

إنه محض مثال من عشرات الأمثلة التي حققها عمر بن الخطاب بوصفه أشهر الفقهاء المتنورين في الإسلام، نسميها في الفقه الإسلامي موافقات عمر، وهي مطالبه العقلانية المشروعة التي كانت في معظم الأحيان مخالفة لرأي الرسول نفسه أو لظاهر القرآن الكريم، ولكن القرآن في النهاية كان يستجيب لرأي عمر، وقناعتي أن ذلك لم يكن محاباة لشخص عمر بقدر ما كان استجابة لمصلحة حقيقية استجدت في الأمة وأوجبت تطوير التشريع.

إنني أعتقد أن من أوجب الواجبات اليوم دراسة فقيه عظيم كعمر بن الخطاب وقدراته التشريعية الكبيرة، وفهم مدرسة العقل والمصلحة التي كانت دوماً قوية ومؤثرة في عصر الازدهار الإسلامي، وأن يدرك المسلم أن تطبيق الشريعة لا يستلزم ضرورة الالتزام بأدوات التطبيق القديمة، بل يمكن تطويرها وتحديثها وفق سياق التطور الحضاري، وأن تطور آلة الحدود من القطع والرجم والجلد والصلب إلى العقاب الإصلاحي الحديث، هو تماماً كتطور آلة الأذان من صعود المآذن إلى الميكروفونات، وكتطور آلة الحج من الناقة إلى الطائرة، وكتطور آلة الدعوة والبلاغ من الصوت الجهوري إلى المذياع والتلفاز، وكتطور آلة الجهاد من الخيل والرماح إلى السلاح الحديث.

Related posts

كفاح قلم…الأعمال العلمية المنشورة للدكتور محمد حبش…

drmohammad

الإيمان والربيع

drmohammad

د.محمد حبش- مقاومة بقيادة بوتين…تشرين أول 2016

drmohammad

Leave a Comment