انتهت اليوم حوارات البحر الميت تحت عنوان المسألة الطائفية وصناعة الأقليات، وشارك فيها سبعون باحثا وأكاديميا من مختلف البلاد العربية بدعوة من المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات.
وليس هذا المؤتمر بالطبع صلة بأي حوارات موهومة بين السلطة والمعارضة، أو أصجاب الطريق الثالث، أو أي من العناوين التي اعتدنا أن نواحهها كلما حاولنا أن نفعل شيئا لإنقاذ بلادنا من المصير الأسود الذي تكابده في هذا الصراع المرير.
إنها محاولة أخرى يقوم بها أصحاب الفكر والقلم ليحددوا تماما سبل مواجهة الطائفية … هذا السرطان الإيبولي الذي ضرب الأمة خلال العقد الأخير وأحال وحدتها وآمالها إلى ركام.
كانت الحوارات إلى جانب البحر الميت مناسبة للتأمل، حيث مدينة أريحا مبسوطة أمام عينيك على بعد عشرة كيلومترات، وجبل الزيتون في القدس وأنواره الساطعة من الاقصى على بعد ثلاثين كيلومتراً ترغم الباحثين أن يجيبوا على سؤال لم يطرحه أحد على المايكروفون ولكنه عصف بصوت هادر في ضمائر الباحثين، وهو لماذا فشلنا خمسين سنة في الوصول إلى بيت المقدس على الرغم من النضال الذي لم يتوقف على المستوى السياسي والحربي والدبلوماسي.
الجواب بالطبع لا يحتمل الأسرار، إنها أمة ضائعة ذبحتها مشارط الصراع الطائفي والسياسي، فتاهت بين المحاور المتشظية، وأوهنت قوتها وأصبح أعجز من أن تحوض حرب تحرير حقيقية.
كانت ورقتي في هذه الحوارات تركز حول سبب قيام هذا الطوفان الطائفي الرهيب، وخاصة في لونه السني والشيعي، الذي يعصف اليوم بالعراق وبلاد الشام واليمن وشرق الخليج، ويطبع بالدم أجويته الصاعقة على كل مستوى.
لم يكن لهذا العنوان ما يبرره قبل أربعة عقود، وعلى الرغم من الحروب الصفوية العثمانية ذات الطابع الطائفي التي ألهبت المنطقة خلال حكم الدولة الصفوية، ولكن المنطقة شهدت تعايشاً معقولاً منذ انتهاء حكم الشاه حسين 1722 وظلت الخلافات السنية الشيعية نحو قرنين من الزمان لا تتعدى الجوانب الفقهية والعقدية، ولم يكن في المنطقة مشروعان متقابلان يتكئان على مرجعية مذهبية كما هو الحال اليوم.
ومنذ قيام الحرب العراقية الإيرانية قفز هذا العنوان بشكل مريع للواجهة، ويمكن القول إنه يزداد قسوة كل يوم، وقد استمر ذلك الانقسام بعد انتهاء الحرب، حيث مارس صدام حسين انتقاماً جماعياً من الشيعة بعد الحرب، وقد انتهت تلك المظلوميات بالاحتلال الأمريكي الذي تبنى إلى حد كبير الدفاع عن المظلومية الشيعية وزاد من أوار الحرب اشتعالاً واستعاراً، ولا يزال إلى اليوم يفرز القيادات الطائفية المتكررة ويتسبب في اندلاع المواجهات المريرة والأعمال الانتقامية التي تقوم على أساس الغضب الايديولوجي، وتتم عبر عمليات انتحارية دامية، لا يفرق فيها المحارب بين بريء ومدان، بحيث يبدو القتل طائفياً بالمطلق، بالمعنى القبيح للكلمة.
وإذا كانت المشكلة في العراق مفهومة وواضحة، نظرا لتقارب عدد السنة والشيعة وانخراط القيادات الدينية مباشرة في إدارة الصراع، ولكن هذا الصراع الذي عرفه العراقيون ظل في الحالة السورية نحو قرن من الزمن غامضاً ومبهماً، ولم يظهر في صورة نزاع سياسي، حيث غلبت على المشهد السياسي ثقافة الدين لله والوطن للجميع، منذ سقط مشروع التقسيم 1920وبدا أن المشكلة الطائفية في سوريا غير منتجة بالمعنى الفلسفي، ولم يبرز إلى الواجهة السياسية في سوريا زعماء دينيون سياسيون من الأقليات حتى انفجرت المسألة في النهاية خلال العامين الماضيين، ورأى السوريون لأول مرة زعماء دينيين للطوائف يحملون البنادق ويطالبون الجمهور الديني بالقتال لحماية الطائفة، حيث قامت لتأييد الثورة مجالس العلماء والفقهاء والخطباء الثائرين ثم تشكيلات الكتائب الإسلامية والألوية المقاتلة، وأعلنت بياناتهم عن وجوب الدفاع عن السنة وقتال الباطنيين والصفويين والرافضة، وبرزت في جانب النظام أيضاً صور غير مألوفة على الإطلاق لكهنة ومطارنة ومعممين علويين وشيعة وشيوخ عقل يرتدون الزي العسكري ويحملون البنادق، وتم تسريب أشرطة كثيرة من الطرفين تدعو إلى الاستئضال في أجواء دموية محمومة، ورفعت الأقليات عموماً صور زعيم حزب الله بخلفيته المتعممة ودلالاتها المذهبية الصارخة للمعنى إياه.
وهكذا فإنه لا يمكن دراسة المسألة الطائفية في سوريا منفصلة عن محيطها، فقد بدأت الحرب بين السوريين على مبادئ سياسية وطنية، وكان المنطق أن ينقسم المجتمع إلى موالين وعارضين، ولكن سرعان ما قام المحاربون بكسر الحدود ودخل أنصار الفريقين عبر الحدود، فزعات لإخوانهم في الدين، وإذا كان المقاتلون في الداخل قد تحركوا لرفع الظلم ونشدان الحرية والمطالبة بالعدالة والديمقراطية، فإن هذه المطالب الوردية من الحرية وحقوق الإنسان هي آخر ما يفكر فيه الغرباء القادمون من الخارج سنة أو شيعة على السواء حيث يتحركون بدافع مباشر من التعصب للطائفة وفق رؤية سوداء قاتمة عن الآخر الكافر والذي لا يجوز مهادنته ولا التعايش معه.
ومع أن النظام يرفع شعاراً علمانياً، وكذلك فإن المعارضة رفعت شعارات ديمقراطية ليبرالية في قيامها، ولكن بعد الانخراط في المواجهة المسلحة، وحضور التأييد العسكري من الخارج فقد صدم المراقبون بأن كل من حضر لنصرة النظام كان شيعياً وكل من حضر لنصرة المعارصة الثائرة كان سنياً، ولم تعد بحاجة لأي تكهنات في قراءة الواقع المتشظي وهو يفرض ظلاله الطائفية على المشهد بشكل لا يترك أي مجال لحسن النية.
قراءة ديموغرافية لواقع الانقسام الطائفي في المشرق العربي:
ومع أن منطق الحقوق المتحضر لا يحتمل تقديم الدراسات الجيوبوليتيكية على أساس طائفي ولكننا مدعوون هنا إلى ملامسة الموضوع بدقة، واقتحام التابو الطائفي للحديث بصراحة وبالأرقام الدقيقة، فاكتشاف الحل جزء من تصوره، وعلينا أن ندرك شكل الصراع الحقيقي وراء البيانات السياسية الرسمية.
الأحواض البشرية الأربعة:
في العراق وبلاد الشام يعيش قرابة 82 مليون إنسان، يزيد عدد الشيعة فيهم عن 36% وإذا استثنينا الكرد الذين لهم هم قومي وليس مذهبياً، فالشيعة هنا تقارب نصف الناس، هذا إذا لم نتحدث عن الامتداد جنوب العراق صوب الكويت والاحساء والبحرين والاهواز والامتداد العلوي في تركيا العلمانية بواقع يزيد عن عشرة ملايين تركي، وهذا يعني أن الصراع المذهبي سيكون صراعاً ماحقاً، وأنه لا أمل في انتصار أحد فيه.
ومع أن التركيبة الطائفية في سوريا ليست بهذه الصورة، ويرى البعض أن قياس العراقي على السوري واللبناني غير مستقيم، ولكن الأحداث أثبتت خلاف ذلك، فقد كسر اللبنانيون من حزب الله والمقاتلون من العراق حاجز الحدود واقتحموا سوريا بكتائبهم المقاتلة، والأمر نفسه قام به محاربو القاعدة من السنة، هازئين بحدود سايكس بيكو وأعلن المحاربون صراحة أنهم لا يؤمنون أصلا بالدولة الوطنية بل بدولة الخلافة كما لدى مقاتلي السنة، أو ولاية الفقيه كما لدى المحارب الشيعي.
وتأتي فزعة النظم الشيعية في العراق وإيران ولبنان للنظام السوري على الرغم من الخلاف الكبير فقهياً وأصولياً بين الشيعة والعلوية، وهناك فتاوى تكفير مشهورة من مراجع الشيعة بحق أتباع محمد بن نصير مؤسس الفرقة العلوية في القرن الثالث الهجري، ولكن كل هذه الفروق تنصهر في ساعات المخاطر المشتركة، ويلتف الناس حول المحارب المنقذ، وخلال أسابيع قليلة من الصراع صار الجميع شيعة، النصيرية والدروز والاسماعيلية وحتى المرشدية أيضاً!!
وإلى جانب إقليم العراق والشام الذي يشكل حوضاً بشرياً مشتركاً في التاريخ والجغرافيا فإنه يجب الربط بالأحواض الثلاثة المحيطة بهذا الحوض وهي إيران وتركيا والجزيرة العربية، ويقيم في هذه الأقاليم الأربعة نحو ثلاثمائة مليون مسلم تقريباً، وهو يعيش في المخيلة الشعبية لأكثر من مليار مسلم عاصمة روحية وعرفانية، وبذلك نكون أمام كتلة بشرية تبلغ 318 مليون إنسان وهكذا فإن هذه الكتلة البشرية الهائلة تتألف تقليديا من 178 مليون سني ونحو 123 شيعي وستة ملايين مسيحي ونحو ستة ملايين من اليهود.
هناك إذن أربعة أحواض بشرية متجاورة ومتساوية تقريباً تعيش في هذه المنطقة:
الاقليم نسبة الشيعة من المسلمين نسبة السنة من المسلمين السنة الشيعة الأديان الأخرى المجموع
بلادالشام والعراق 36% 64% 45 25 12 82
الجزيرة العربية 22% 78% 56 17 1 74
إيران 87 % 13% 8 70 1 81
تركيا 15% 85% 68 12 1 81
المجموع 41% 59% 178 123 15 318
ويتركز الشيعة في إيران كما يتركز السنة في تركيا، فيما يشكلون أقلية هامة في الجزيرة العربية وبوجه خاص في اليمن حيث تتبع الأغلبية المذهب الزيدي وعلى الرغم من قرب المذهب الزيدي من مذاهب أهل السنة واحترامهم للصحابة وطبيعة التسامح بين المذاهب في اليمن، ولكن ثورة الحوثيين ودخول إيران إلى جانبهم في الصراع ضد نظام صنعاء فرض شكلاً جديداً للمشهد الطائفي، وأسهم في ربط الزيدية بالكتلة الشيعية الدولية التي تدعمها إيران التي تطرح نفسها حامياً لمذاهب أهل البيت في العالم الإسلامي.
وبمقاربة الكتل الأربعة فسندرك تقارب الهم وتشابه المشكلات في المنطقة، ووجوب الاعتراف بهذا الواقع التاريخي والمعاصر في هذه المنطقة الهامة التي تضم 318 مليون من السكان
ومن الواضح أن تنامي الشعور بالانتماء المذهبي يتزايد لدى الأقليات بنسبة أعلى منه لدى السنة، وهذه نتيجة طبيعية لدى المجموعات التي تشعر أنها مهددة، فيما لا تشعر الأكثرية عادة بهذا الخطر، سواء كانت الأكثرية حقيقية أو متوهمة.
إن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن المنطقة منقسمة بالمعنى الطائفي للكلمة، وأن هذا الانقسام حقيقي وحاد، والنسب متقاربة، ومن غير الوارد أن نفرض على أي من الطيفين الكبيرين ضرورة الانكفاء في زاوية من الوطن، والدخول في رغبات الجماعة، لقد تم حسم هذه الحقائق بالدم، وأصبح للتضحية فلاسفتها وزعرانها وصار للحرب أمراؤها وأبطالها، ولكن واجب المثقف أصبح أكثر أهمية من قبل، وأصبحت دعوات الإخاء الديني وحوار الطوائف فريضة وجودية لازبة لا محيد عنها، بعد أن كانت في الماضي شأناً ثقافياً يعده كثيرون من ترف القول.
هل وصلت حوارات البحر الميت لأمراء الحرب، وهل قرروا التوقف عن القتال والذهاب إلى موائد الحوار على أساس منطق: نتعاون في المتفق ونتعاذر في المختلف؟
لست من البساطة بحيث أطرح هذا السؤال، ولا أعتقد أن ذلك قد خطر ببال أحد من المشاركين، ولكن رسالة الكلمة تتعاظم تأثيراً ومسؤولية، وتفرض علينا العمل المشترك لإعادة الخلاف المذهبي إلى مكانه في الحوزات والمعاهد الشرعية وتحييده تماما عن بناء الأوطان، والإصرار على الدعوة إلى المواطنة الصحيحة التي تذوب فيها الكيانات الطائفية بكل أشكالها، وتقوم دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان.