هكذا رددنا هذا الشعار في مدارسنا منذ كنا أطفالاً كل يوم، وقرأناه على الجدران في مدراسنا وجامعاتنا وفي البلديات والساحات العامة والشوارع والحارات والمخابز والمشافي ومكاتب دفن الموتى ومحطات المازوت ومكتب المختار الهائم عادة على رصيف متكسر، وأصبحت هذه العبارة أشهر عبارة جاء بها البعث العظيم.
وكان خطاب المدرسة لا يتخلف أبداً عن هذا الشعار، فالعرب أمة أمجاد وتاريخ، وتعلمنا كيف نتغنى بالعرب وتاريخهم وأمجادهم منذ عهد ذي قار وفيرون الآشورية وزنوبيا التدمرية وفيليب العربي وشمر ملك التتابعة الذي بلغ ملكه أوزبكستان وبنى حاضرة شمر فيها وسماها شمرقند!! وصارت عاصمة العرب على تخوم الصين.
وكتبنا عن العرب والإسلام، وعن الجسد العربي والروح الإسلامي، والعلاقة بين العرب والإسلام، وأضاء لنا مفكرو البعث الطريق الطويل من ساطع الحصري إلى ميشيل عفلق الى سليم بركات الذي كان يدرسنا في التدريب الجامعي مكانة العروبة وفضلها وتاريخها وأوائلها وأواخرها، ولم يكتف بالقول إن كل الأنبياء عرب، بل ذهب إلى حد القول بأن الله نفسه عربي!!
وامتلات كتب الثقافة والمناهج المدرسية بعبارت المديح والثناء على الأمة العربية والشهامة العربية والكرامة العربية والمروءة والنجدة والوفاء والأصالة والتضحية العربية.
وقريباً من هذا السياق نشرت كتابي الصغير الذي اخترت عنوانه: أنبياء على أرض العرب، وهو توسع في مقال نشرته ببنوان عروبة الأنبياء، وأنا سعيد بجوهر الفكرة التي نشرتها حول الأصل العربي للأنبياء الذين ذكروا في القرآن الكريم من ولد إبراهيم.
وحين كان القوميون السوريون يكتبون في الوطن السوري التام كان النظام يزبد ويرعد ويعتبر ذلك خيانة للوحدة العربية والمشروع القومي ورضوخاً لأوهام سايكس بيكو الذي كرس التجزئة القطرية، وكاونوا يرددون دوماً لا معنى لسوريا بدون رباطها القومي، ولا معنى لدمشق بدون تطوان وبغدان، وسنحطم الحواجز المصطنعة ولو في وجهنا وقفت دهاة الإنس والجان!!
ولكن هذه الأدبيات المجيدة عن العرب والعروبة إنما تتصل في فقه النظام السوري فقط بالتاريخ الآفل والماضي الغابر، حتى إذا خطوت خطوتين إلى الأمام وسألت عن هذه القيم العربية أين رجالها وأبطالها وقديسوها وأنبياؤها وفلاسفتها، لم تجد في أدبيات النظام إلا مناحات وأحزان ومراثي عن سقوط هذه الأمة وانهيارها، وزوالها بالكامل واندثارها، وبدلا من تلك العناوين البراقة التي تعودنا عليها ستجد الآن وصف العرب بأنهم: كلاب الصحراء، وثقافة العهر والنفط والبترودولار، وأحذية أمريكا وعملاء بريطانيا، وهم في الخليج شيوخ النفط والعهر والعار، وفي العراق صنيعة المحتل الأمريكي، وفي الأردن وكلاء مكماهون ولورنس العرب، وفي لبنان عملاء بندر ووكلاء فرنسا، وفي مصر لعبة الإخوان المسلمين وفي ليبيا أفراخ الناتو، وفي تونس ثوار القاعدة وكلابها، وفي المغرب صنائع شيراك وساركوزي، وفي موريتانيا سفراء إسرائيل، حتى الشعب الفلسطيني وثواره فهم بالأمس عملاء فتح واليوم إخونجية حماس، وحتى اللاجئون الفلسطينيون أصبحوا في العرف الدبلوماسي السوري مجرد ضيوف لا يلتزمون حدود الأدب ومن واجب الدولة تأديبهم وتربيتهم وردهم إلى جادة الصواب عن طريق قصف مخيم اليرموك بالطائرات الحربية!!!
واليوم يكفي في الإعلام السوري أن تصف مفكراً ما بأنه يعيش في الخليج حتى يمنحه الإعلام السوري صفة عبد الدولار والدينار، وإن كان يعيش في مصر فهو حتماً إخونجي مستتر، وإن عاش في الأردن فهو عميل سري لبريطانيا، مع أن هذا النظام لا يكلف نفسه أبداً عناء السؤال الكبير: من الذي دفع هؤلاء الأحرار للبحث عن بديل لوطنهم في تراب هذا العالم الهائم؟ وهو سؤال يعرفه كل ذي عينين: إنها المنافي القسرية البديل الموضوعي للإقامة في سجون النظام أو في قبوره!!.
الخليج العربي يوصف رسمياً بأنه بلاد الوهابيين والتكفيريين والظلاميين والمتخلفين، وبلاد القتل والجلد وقطع الأيدي والرجم بالحجارة وتكفير حلق اللحى وسوق الناس للصلاة بالعصا، وغير ذلك من المظاهر السلبية التي نعترض عليها دوماً، ويعترض عليها مئات المفكرين الخليجيين الأحرار من اتجاهات دينية وعلمانية على أنها سلبيات هامشية يمكن تجاوزها، فيما يرسمها لنا الإعلام السوري أنها سمة المجتمع وصورته وهويته.
لا يشير الاعلام السوري أدنى إشارة إلى ما حققته هذه البلاد لشعوبها من ازدهار وتنمية، وفرت لهم أعلى دخل في العالم!! ولا يشير إلى حملات الإغاثة التي لا تتوقف في هذه البلاد لمساعدة السوريين على وجه الخصوص، ومساعدة منكوبي العالم (لقد صرنا نذكر دوماً مع المنكوبين والمذبوحين بفضل هذا النظام!) ولا يشير إلى جامعات العالم الكبرى التي افتتحت فروعها في عواصم الخليج الصحراوية اللاهبة، ولا يشير أدنى إشارة إلى مئات الآلاف من السوريين الذين شردهم النظام سياسياً أو اقتصادياً وحققوا ذاتهم في هذه العواصم، يتحسرون على رفاقهم من دعاة الحرية الذين لم تتوفر لهم هذه الفيزا فأمضوا بقية عمرهم في سجون البعث الصامدة.
مع أنني شخصياً أمضيت عمري وأنا أناقش الفكر الوهابي، وأجتهد في رد كثير من سياقاته الفكرية وأعترض أشد الاعتراض على فكر ابن تيمية وخاصة فيما يتصل بالطوائف، وفتاويه الشهيرة في حق مخالفيه وهي فتاوى لا زلت أنكرها بالمطلق، ولكنني أعترف لك بأن التكفير والفكر الظلامي والجلد والسحل والرجم بالحجارة وصواريخ سترنغر وقذائف الهاون ليس هذه الأيام شأناً وهابياً ولا هو أمر يختص بنجد أو القصيم بل إنه صار اليوم شأناً بعثياً معلناً، تتبناه حكومة البعث في عاصمة التنوير العربي، في بلاد الكواكبي والأرسوزي والحصري وعفلق والبيطار، حيث تتم دراسة الفتوى اليوم في مكتب الأمن القومي، ويتم الحكم بكفر مدينة بحالها كحمص وإدلب وحلب!! ويتم من الغد اجتياحها بالدبابات ودكها بالراجمات، دون تفريق بين صالحيها وطالحيها، وبين السكان الأبرياء وبين الثوار النشطاء على منطق إنهم جالسوهم وواكلوهم وناكحوهم وصاروا بذلك هدفاً مشروعاً لفرسان العروبة الأشاوس على منصات الراجمات، ولا يشفع للأطفال أنهم لا ذنب لهم فقد كانوا في الحولة والقبير ودوما ويلدا وجديدة عرطوز ومئات المدن الأخرى مشروع إرهابيين وإنك إن تذرهم لا يلدوا إلا فاجراً كفاراً!!
السوري كما تريده قيادته اليوم شتام لعان لكل جلد عربي من المحيط إلى الخليج، وجامعة الدول العربية هي جامعة العهر والكفر، والربيع العربي هو ربيع إسرائيلي خالص، وأوروبا مشطوبة والدول الإسلامية غبية مأجورة لا يهتم بها السوريون ولا يبالونها بالاَ، ودولها السبعة والخمسون بالكامل كما دول أوروبا بالكامل كما دول العرب بالكامل كما دول الجمعية العامة للأمم المتحدة مباعة بفواتير حمد القطري، وبندر السعودي ضمن سياق المؤامرة الكونية على سوريا!!
لمصلحة من هذا التشويه الثقافي اللئيم الذي تمت ممارسته على العقل السوري؟؟ حتى أصيب برهاب الحاضر ورعاب المستقبل، وأصبحت ثقافته وآماله تماماً كما يقدمها إعلامه تتمثل في الانكفاء على الذات ورفض العالم كله، ولعن حضارته وقيمه وعواصمه ومصارفه وجامعاته وقنواته وسفاراته (مؤقتاً الاكتفاء بروسيا وإيران) والبحث في كرملين موسكو عن المجد العربي الغارب، والذي لم يعد يجد من يعبر اليوم عن أصالته وموضوعيته إلا شيخ عشائر كنده وطي وشمر وعنزة حضرة الوزير لافروف!!.
previous post
next post