خرجت أمريكا من العراق، وعاد الجنود الأمريكيون إلى بيوتهم قبل وقت مناسب من الانتخابات الأمريكية، وصار بإمكان الرئيس أوباما أن يتقدم لفترة رئاسية جديدة بعنوان الرجل الذي يقول ويفعل، وأنه قادر على تنفيذ وعوده مهما بلغت التحديات.
ولكن كيف تمكن أوباما من إقناع الأمريكيين بالانسحاب من العراق؟ وهل هي صحوة أفلاطونية للضمير الأمريكي؟ اختار فيها التوبة إلى الله والاعتذار من الشعب العراقي وشعوب المنطقة بعد أن دخلت المنطقة في البرنامج الأمريكي للفوضى الخلاقة تماماً كما رسمتها إدارة الرئيس بوش.
في برنامج السناتور ماكين فإن من حق أمريكا أن تبقى في العراق سبعين عاماً على أساس أن الأمريكيين دفعوا من دم أبنائهم من أجل تحرير العراق من الدكتاتورية ومن حقهم أن يستثمروا المزرعة العراقية لمدة قرن قادم.
ولكن كيف تمكن أوباما من إقناع صقور إدارته بأن يتركوا العراق؟ وهل من الواقعي أن نتصور أن مقدرته الخطابية وفصاحته أقنعت الأمريكيين فاختاروا الإيثار والتضحية من أجل عيون الشعب العراقي وأنهم أرادوا أن يقدموا خدماتهم للعراقيين ابتغاء الدار الآخرة، وأنهم كانوا ينفقون أموالهم للعراقيين لا رياء ولا سمعة إنما نحرركم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً، وأنهم فعلوا ذلك كله بدون رياء ولا مجاملة على منطق أن لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؟
الحقيقة أن العالم ليس جمعية خيرية، ولا مكان فيه للطوباوية الأفلوطينية الحالمة، وسياسات الدول الكبرى لا تحركها اليوتوبيا الفاضلة، فكيف إذن تم إقناع الأمريكيين أن يوافقوا على الانسحاب من العراق؟
تقوم اليوم في بغداد أكبر سفارة أمريكية في العالم، ويتم في هذه السفارة إصدار النسخة النهائية من الرؤية الأمريكية لمستقبل الشرق الأوسط على أساس المصالح الأمريكية، وعبر علاقة أخطبوطبة فإن شبكة العلاقات بهذه السفارة تشتمل على دبلوماسيين وصحافيين ومحللين وحكام عرب، يعلمون تماماً أن المطبخ الأمريكي للسياسة في الشرق الأوسط أصبح في بغداد.
ويشير موقع هندسة نت في دراسة دقيقة لهندسة السفارة الأمريكية في بغداد أنه بلغت كلفة إنشاء السفارة الأمريكية في العراق أكثر من بليون (1.3) دولار، تقاسمتها شركات يهودية وكويتية، وتم دفع المبلغ من الأموال التي نهبت من العراق، مناصفة بين حكومة المنطقة الخضراء والأمريكان, وبدلاً من أن يتم إعمار العراق وتوفير أبسط مستلزمات الحياة وإعادة البُنى التحتية المخرَّبة فيه، عمد الاحتلال إلى تشييد أكبر سفارة أمريكية في العالم، بينما لا تتجاوز مساحة السفارة الأمريكية في روسيا أو الصين أو ألمانيا أو فرنسا الدونم أو الدونمين بأحسن الحالات، ورغم أن العراق أصغر من كل تلك الدول ـ حيث لا يتجاوز سكانه 25 مليونًا، من ضمنهم خمسة ملايين مهجر ومليون شهيد، ومساحته 437.072 كيلومترًا مربعًا ـ تبلغ مساحة السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء 42 هكتارًا؛ أي ما يعادل 80 ملعب كرة قدم، ويزيد على مساحة دولة الفاتيكان ومجمع الأمم المتحدة في نيويورك، وهو الذي يمثل العالم كله هناك.
أما عدد الموظفين في السفارة الأمريكية بالعراق، فبالإضافة إلى السفير وكبار الموظفين هناك أعداد أخرى من الموظفين الذين يتجاوز عددهم ألف موظف وموظفة، فضلاً عن 380 أسرة ملحقة بهم من غير المستخدمين الذين يتجاوز عددهم الآلاف، وبمقارنة بسيطة مع البرازيل، التي هي أكبر من العراق ويبلغ عدد سكانها 188 مليون، نجد عدد الموظفين بالسفارة الأمريكية في البرازيل وقنصلياتها التابعة لها لا يتجاوز 70 موظفًا مع مترجمين ومستخدمين لا يتجاوز عددهم 250 شخصًا.
ولا نحتاج إلى كبير ذكاء لندرك أن سفارة بهذا الحجم لم تخصص للشأن العراقي بل هي مركز قيادة للشرق الأوسط الجديد كما تريده الولايات المتحدة، وهو ما تدل عليه اليوم التطورات المتلاحقة في أرض العراق.
إن الاستعمار ليس حقبة تاريخية بائدة ندرسها في مادة التاريخ، بل هو في الواقع سلوك استكباري متكرر يتخذ أسماء متعددة ولكنه يرسم الحقيقة إياها، وقد قدم الاحتلال الأمريكي للعراق نموذجاً جديداً من هذا الاستعمار الجديد، الذي يرحل ومعه دباباته وآلياته وطائراته ولكنه يبقى بتأثير نفوذه وبرامجه التي تتحكم في مصير العراق تحكماً اخطبوطياً قاتلاً.
أما الأثر الأمريكي الباقي في العراق فيمكن التماسه من خلال تفاصيل متعددة يمكن رصدها في النقاط الآتية:
لقد جاء الأمريكيون تحت عنوان نشر الديمقراطية في العراق والدخول في العراق مباشرة في الدولة المدنية العلمانية التي تنادي بأن الدين لله والوطن للجميع، ولكن الاحتلال الأمريكي انجلى عن دور كبير للعمائم المذهبية وسطع نجم المراجع الدينية ومكاتب هؤلاء المراجع لاعبين أساسيين في العراق تصدر عن إرادتهم قرارات الأمة والتاريخ والوطن.
لا يوجد جيش أمريكي في العراق ولكن قرار الحرب والسلم والتشكيل السياسي للعراقيين لا زال حتى اليوم شأنا هلامياً لا يتم حسمه إلا في حضرة السفير الأمريكي في العراق.
كانت حماية المسيحيين أحد العناوين العريضة التي تحركت بها الجيوض الأمريكية نحو العراق، ولم تكن زلة بوش يوم نادى بالحروب الصليبية الجديدة مجرد خطأ في التعبير بل كانت في الواقع عنواناًَ صريحاً لحراك الجيوش الأمريكية الزاحفة نحو العراق ولكن بعد مرور نحو عشر سنوات على الغزو الأكريكي للعراق فإن النتيجة كانت أكثر من كارثية على الوجمود المسيحي الذي انخفض من عشرة بالمائة إلى خمسة في المائة ولم يستطع النظام الجديد أن يوفر لمسيحيي العراق عشر ما كان يتوفر لهم من الأمن والأمان أيام صدام حسين.
وليس هذا الواقع مقتصراً على المسيحيين فعلى سبيل المثال فإن طائفة الصابئة العراقيين المنائيين قدرحلت تقريباً بشكل شبه كامل من أرض العراق بعد أن أصبح وجودها مهدداً بشكل لا يطاق، ويقيم معظمهم اليوم في سوريا او في بلدان المعترب في أوروبا.
دخل المجتمع العراقي في الفتنة الطائفية المسعورة بطريقة جنونية، وهي فتنة بطشت بالوحدة العراقية وسحقت آمال العراقيين في التوحد والعيش المشترك، ومع أن العراق كان يعرف التقسيمات المذهبية والإثنية والسياسية ولكن ذلك كان في إطار التوصيف الطبيعي للحياة المشتركة بين العراقيين، ويمكن القول إن العراق كان منقسماً طائفياً إلى سنة وشيعة وعرقياً إلى عرب وكرد، وإيديولوجياً إلى علمانيين وإسلاميين، ولكن هذه القسمة لم تكن لتقسم المجتمع العراقي على اساس عدواني، فقد عرف العراقيون العيش المشترك بين هذه الطوائف والمذاهب والتيارات الفكرية دون أن يؤدي ذلك إلى كراهية أو أحقاد دامية، وظلت الأسرة العراقية الواحدة تعرف زوجاً شيعياً وزوجة سنية، وشقيقاً إسلامياً وآخر علمانياً، وكذلك في علاقات العرب والكرد، أما الاحتلال فقد فرض قسمة رابعة في المجتمع العراقي لم يكن الناس يعرفونها من قبل، حيث أنه مع دخول أول أمريكي محتل إلى أرض العراق فقد انقسم العراقيون إلى صنفين متباغضين لا سبيل إلى الجمع بينهما، وذلك من خلال التعاون أو رفض التعاون مع المحتل الأمريكي، وأصبح العراقيون واحداً من اثنين: متآمر أو إرهابي، فمن رضي الاحتلال صنف متآمراً عند الرافضين ومن رفضه صنف إرهابياً عند المتعاونين مع الاحتلال وهي قسمة ملعونة لا يمكن على الإطلاق الجمع بين أفرادها على صورة من الصور، وانتبذ العراقون على شقاق وبلغت لغة التخوين والاتهام حداً لم يعد بعده رجاء في أدنى وفاق، وتحت هذا العنوان اللعين زهقت أرواح الآلاف من العراقيين، ودمرت البنية التحتية للبلاد وتم تحويل قرى بحالها إلى مقابر ليس فيها إلا رائحة الموت.
يمكن تأمين مائدة حوار سني شيعي ويمكن تأمين مائدة حوار عربي كردي أو اسلامي علماني ولكن كيف يمكن تأمين مادة حوار تتسع لإرهابي ومتآمر؟؟ إن الأمر في غاية الاستحالة والخيار المتاح الوحيد المتاح هنا هو المواجهة حتى استئصال أحد الفريقين وهو ما عاشه العراق لأكثر من سبعة أعوام مريرة ولا يمكن القول إنه انتهى منها حتى اليوم.
الأمريكيون وفوا بالتزام الانسحاب من العراق في الوقت الذي حدده أوباما ولكن بكل تأكيد فإن هذا الانسحاب لا يعني على الاطلاق نهاية المأساة العراقية أو نهاية النفوذ الأمريكي في العراق فهناك سلسلة طويلة من الروابط السياسية للقادة التقليديين والعشائريين والكرد بالسيد الأمريكي، وهذا كله يجعل النمو العراقي والتطور رهناً بإرادة الأمريكي، ويجعل منه على الدوام اللاعب الاكبر في السياسة العراقية.
ربما اقتصر هذا المقال على تقديم النفوذ الامريكي في العراق بعد الاحتلال في الإطار الاجتماعي والسياسي أما الشأن الاقتصادي فله أفق آخر وحين نقوم بترسم ملامح ما يجري في مثلث الفاو ومنابع النفظ العراقية وميناء أم قصر فإن الدور الأمريكي سيكون مرعباً لكل من يؤمن باستقلال العراق وسيادته على أرضه.