منذ شهور تبث لي إذاعة القدس مشكورة حديثاً يومياً، وقد اخترت عنوانه: عيال الله، وهي كلمة نبوية مضيئة، الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، وهي تعكس روح الإخاء الإنساني في الإسلام، وتكشف عن عقيدة إسلامية أصيلة في احترام الإنسان ووجوب تسخير الكون للإنسان بغض النظر عن انتمائه الديني أو الوطني أو القومي أو العرقي أو القبلي.
وإذا كان الحديث عن عيال الله هو هدف إنساني شامل فإنه أكثر تأكيداً وحضوراً في إطار الحديث عن الإخاء بين السنة والشيعة، وهما الفرقتان الكبيرتان اللتان تشكلان مادة العالم الإسلامي، وتقتسمان تراثه في الماضي ومقاومته في الحاضر.
تلقيت الدعوة للمشاركة في مؤتمر العولمة والأسرة الذي تنظمه جامعة بهشتي في طهران، وأنا شخصيا أحترم جامعة بهشتي التي تصنف عادة على أنها بين الجامعات الإسلامية السبع التي دخلت قائمة توب فايف هاندرد وهو تصنيف عالمي شهير لتقويم الجامعات حول العالم، بالمناسبة ليس في هذه الجامعات جامعة سورية واحدة!! وأول تصنيف لجامعة سورية هو لجامعة البعث في حمص التي نالت المركز 4250 في الترتيب العالمي، وهو أمر ينبغي أن يدفعنا لمراجعة واقع جامعاتنا، في البلاد العربية وتقديم معلومات محايدة ودقيقة عن المستوى الأكاديمي لهذه الجامعات ومكانها بين جامعات الأرض.
لا علينا، وبصراحة فقد توجهت إلى إيران ولدي هدف أكاديمي واضح وهو تقديم ورقتي في المؤتمر بحسب البرنامج المعلن حول الأسرة والعولمة، وفي جانب آخر كان لدي هدف مباشر وهو زيارة كاشان!!
كاشان مدينة إيرانية شهيرة تقع في إقليم أصفهان إلى جنوب طهران بنحو مائتين وخمسين كيلومتر، وقد اشتهرت تاريخياً بجملة من الصناعات أهمها القرميد الأحمر الذي اشتهر في العالم كله باسم القرميد القاشاني كما اشتهرت بصناعات وزخارف كثيرة.
ولكن الجانب الأخطر في تاريخها هو ما أثاره قبل سنوات بعض الغاضبين من إيران بأن كاشان تحتوي على مرقد المجرم أبو لؤلؤة المجوسي قاتل الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وأنه مزار كبير يعظمون فيه القاتل ويلعنون الصحابة، وكان لهذا الخبر الذي شاع كالصاعقة قبل أربع سنوات أبشع الأثر في تدمير مشاعر الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة، وكان تحدياً خطيراً يضاف إلى جملة تحديات كبيرة تعصف بالوحدة الإسلامية وتدمر آمال اللقاء والوفاق.
شخصياً رأيت عشرات الفيديوهات يوتيوب وهي تشرح ما يجري في مرقد كاشان من تعظيم المجرم القاتل والشتم واللعن الصريح لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما لا يمكن أن يقبله مسلم، حين انتشرت هذه الأشرطة توجهت إلى الشيخ التسخيري في مؤتمر القاهرة مع عدد من علماء الشريعة، وطلبنا موقفاً إيرانياً رسمياً مما يحصل في هذا الضريح من الفجور والإثم، طلب الرجل يوما واحدا، وفي اليوم التالي صرح لنا أن حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر قاتل الخليفة عمر مجوسياً مجرماً عليه لعنة الله، وأنه حوكم وإعدم في المدينة على مسافة ثلاثة آلاف كم من كاشان، ولا يوجد أحد يمكن أن يحمل هذا الجسد الدنس إلى ايران، عبر هذه الصحارى والبحار الشاسعة.
هذا هو موقف الحكومة الايرانية، ولكن مع ذلك فإن ما نشرته الأشرطة على يوتيوب صحيح، وبالتحقيق تبين أنه كيد رخيص مارسه بعض الأشرار على قبر قديم لشاعر إيراني اسمه الشاعر ابو لؤلؤ وهو مدفون منذ قرون في كاشان، وقد قام هؤلاء بترميم الضريح وتمت إضافات عبارات مسيئة للخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وتم الترويج للقبر على أنه مزار ديني، واقتنع كثير من البسطاء والعامة بهذا الكيد، ومع ذلك فقد قامت الحكومة الايرانية بإغلاق هذا المدفن إغلاقاً تاماً وفتحت تحقيقاً لمحاسبة المسؤول عن هذه اللعبة الدنيئة، وهي تفكر الآن بهدم القبر كله وإزالته بالكامل من الوجود.
كان هذا الموقف الإيراني من وجهة نظري كافياً لطي هذه الفتنة ولوقف إلهاء الأمة بأسطورة بالية دنيئة ليس لها من فائدة إلا تمزيق صف الأمة ونشر روح الحقد والكراهية، وكنت أتوقع أن تنهال مواقف التقدير للدور الايجابي الذي قام به الايرانيون لإنهاء الفتنة ومغادرة الماضي والبحث عن المستقبل.
ولكن الحملة لم تتوقف، وظلت المواقع نفسها تروج لخبر المرقد دون أن تذكر نبأ إغلاقه من قبل السلطة الايرانية، واستمر كثير من الصحفيين والكتاب والسياسيين ورجال الدين يتحدثون عن قبر أبي لؤلؤة في كاشان دليلاً قاطعاً على بطلان أي حوار سني شيعي، وتعززت من جديد مقولات السنة سنة والشيعة شيعة ولن يلتقيا، والصراع قائم إلى يوم القيامة.
كان هذا الواقع يؤلمني، ووقع في خاطري أن الموقف الإيراني مجرد بلاغ إعلامي، وأن الواقع لم يتغير فيه شيء، ولذلك فقد رأيت أن الواجب يقتضي أن أقوم بنفسي بزيارة كاشان، والتأكد من موقف الإيرانيين من هذه المؤامرة اللئيمة ضد الوحدة الإسلامية.
في الحقيقة لم أبلغ أحداً برغبتي، كانت لدي شكوك بأن الجماعة ربما يقومون باصطحابي إلى الضريح في وقت يصرفون عنه الناس، أو يخفون عني بعض ما لا يريدون أن أراه، ولذلك اخترت أن أذهب بدون اصطحاب أحد أو إخباره، وبالفعل استأجرت سيارة المرافق السيد محمد كلامي، وقلت له لدي رغبة بزيارة أصفهان وقصورها التاريخية ولم أطلعه على شيء حتى وصلنا إلى مشارف كاشان، وهناك طلبت على الفور السؤال عن قبر أبي لؤلؤة بالفعل كل الذين سألناهم قالوا إنه مسدود، والمقصود أنه مغلق، وبالفعل خلال دقائق وصلنا إلى القبر، ومن الواضح أنه كان مغلقاً وقد وضعت على بابه لافتة كبيرة رهبری از پلیس و اداره پلیس کاشان والمعنى أنه قيادة الشرطة في محافظة كاشان.
تأكدت من إغلاق الباب ومنع الدخول إليه، وأفرحني أن الجماعة ملتزمون بمنع المظاهر التي تجرح الوحدة الاسلامية وتسيء إلى الإخاء بين ابناء المذاهب، وذهبت ألتقط الصور لأعرضها لكم على فيس بوك حول موقف الجماعة من إغلاق ضريح تاريخي شهير وفاء للوحدة الإسلامية.
ولكن الأمور لم تجر على هذا النحو فقد خرج للتو موظفون من الداخل وصادروا الكاميرا على الفور باعتبار أنها تصور مكاناً عسكريا وطلبوا جوازي ولم يكن معي جواز وخلال دقائق وجدت نفسي داخل مكتب للتحقيق بسبب قيامي بالتقاط صور للموقع وأنا لا أحمل جواز سفر، لقد أصررت على التعريف بنفسي على أنني مجرد سائح يرغب بالتحقق من إشاعة سيئة، ولكن يبدو أن الموضوع جد وأن عليك أن تثبت براءتك قبل أن تجد نفسك في مكان آخر لا تحمد عقباه.
تمكنت من الاتصال بالشيخ التسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية وأخبرته بالحكاية وعلى الفور اتصل بإمام جمعة كاشان، وهو ما يعادل في بلادنا أمين فرع الحزب في كاشان وبعد الاتصالات تمكنت من الخروج ولكن بعد أن تم مسح كل الصور عن الموبايل.
لقد قصدت أن أروي الحكاية وأنا أعلم أن الحديث عن الوحدة الإسلامية اليوم لا يحظى بأي شعبية، وأن الخطاب السائد هو خطاب اتهامي تحريضي، ومن العسير أن تكتب في أيام كهذه عن رؤيتك في الوحدة الإسلامية والإخاء بين السنة والشيعة.
لقد سمعت وقرأت ولا زلت أقرأ وبإمكانك أن تقرأ معي أكثر من ألف موقع على الانترنت تنشر بالصور والأفلام ظاهرة قبر أبي لؤلؤة، ولكن وللأسف لم أجد موقعاً واحداً منها أشار إلى أن هذا الكيد الرخيص قد تم إيقافه، وأن لعبة الاتجار بالقبر الأثيم قد بطلت، وأن المعتدلين من أئمة الشيعة لا يقبلون هذا الأسلوب الآثم في الطعن بالصحابة، وأن موقف المعتدلين من علماء الشيعة من عمر بن الخطاب هو موقف الإمام علي نفسه الذي شرحه في نهج البلاغة خطبة 226 بقوله: لله بلاء ابن الخطاب، فقد ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها, أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، وأن المعتدلين من علماء الشيعة لا زالوا يواجهون الجهل والغلو ويقومون بواجبهم في قمع الغلو ونشر التسامح والاعتدال.
قد يقول لي بعض القراء: على من تقرأ مزاميرك؟؟؟ لقد اتسع الخرق على الراقع، والخلاف اليوم أكبر من ذلك، ولكن بحسبي أنني أرضي ضميري وأشير إلى موقف وحدة وإخاء، وأضيء شمعة في درب مظلم، أرجو أن يكون ذلك شغل كل من يغار على وحدة الأمة وجماعتها.
في زيارة كريمة للراحل الشيخ حسين فضل الله إلى جامع الزهراء بدمشق حيث كنت ألقي خطبة الجمعة، تحدث الشيخ الجليل عن عوامل الوحدة الإسلامية وأدب الخلاف وثقافة الاحترام التي ينبغي أن يمارسها المؤمن في حق من يخالفه الرأي والموقف، قلت للشيخ رحمه الله من الجناس التام من بحر الرمل:
ما الذي تنكره شرعاً علي إن تشيعت بفقه شـــــــافعي
رب فارحمني بحبي لعلي واجعل الصديق يأتي شافعي
قال لي الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني الأمين العام السابق لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية: كلما نظرنا إلى الماضي اختلفنا ، وكلما نظرنا إلى المستقبل اتفقنا.
تعالوا ننظر إلى المستقبل ونضيء شمعة فذلك حير من أن نلعن الظلام.
previous post
next post