نأخذ من تراث الآباء الجذوة … لا الرماد
روجيه جارودي فيلسوف العدالة الاجتماعية والإخاء الإنساني، حط عصاه، واستقر به النوى بعد مشوار طويل أمضاه في عبادة الحق والبحث عن الحقيقة.
مساء يوم الجمعة 15 حزيران أعلنت بلدية شينفيير في سان مان بباريس أن روجيه جارودي المولود في مرسيليا قد فارق الحياة يوم الأربعاء عن عمر ناهز 98 عاماً.
لم يكن جارودي في يوم من الأيام مستقراً في خيار معرفي حاسم، لقد كان يجسد في حياته قلق المعرفة وبؤس العارف، وظلت نوافذ السؤال مشرعة في عالمه، على خطى الغزالي وديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود، فمع أنه ولد كاثوليكياً ولكنه اعتنق البروتستانتية في الرابعة عشرة من عمره، ثم انتظم في الحزب الشيوعي واجتهد أن يعقد أواصر القربى بين البروتستانتية والماركسية، ولكنه انحاز إلى المنهج الماركسي في العدالة الاجتماعية بعد أن بدا له أنه أكثر واقعية وأقل رومانسية، وفي غمار كفاحه الماركسي كان دائم المشاكسة مع المؤسسة الحزبية، ومع أن قلمه كان ديوان الخطاب الماركسي الرسمي، ولكن أدرك أن الكفاح الذي خاضته الماركسية في سبيل الفقراء والكادحين، كان يفتقر إلى روح الأمل التي يبعثها الإيمان في النفس الإنسانية، وسرعان ما عرف أن القحط الروحي الذي تكابده الماركسية لا يختلف من جهة المآل عن بؤس الرأسمالية المتوحشة في مواجهة الفقراء والكادحين، ووجد نفسه في مواجهة مباشرة مع المفهوم النيتشوي للعالم، الذي حكم سياسات الغرب الاستعماري تجاه الشعوب المغلوبة، كما أن هذا التفكير المادي صار أيضاً منهج الاتحاد السوفياتي في تبني ديكتاتورية البروليتاريا، حيث أقام من شبح البروليتاريا شكل استبداد آخر، لا مكان فيه للعطف أو الرحمة على الميتابروليتاريا التي صارت عملياً تعني المجتمع بأسره من غير أعضاء الحزب الشيوعي!
وهكذا فقد خاض بنفسه كفاحاً ضارياً ضد الاتحاد السوفياتي وضد الراسمالية على السواء، ومع أنه كان دخل البرلمان منذ 1952 نائباً شيوعياً، ولكن الرجل الذي حصل على الدكتوراه في ثقافة الحرية من جامعة موسكو عام 1954 لم يقبل أبداً أن يتخلى عن حريته ومسؤوليته في نقد السلوك الشيوعي، وخلال ستة عشر عاماً من خدمته البرلمانية والسياسية في الحزب الشيوعي لم يكف أبداً عن نقده الشديد لسياسات السوفييت في قمع شعوب المنظومة الاشتراكية بحجة الدفاع عن الكادحين، واستمر في رفضه الشديد لذلك، حتى وجد نفسه مفصولاً من الحزب الشيوعي في عام 1970.
وبعد ذلك أمضى سنوات عشرة صاخبة احتار فيه قارئوه، فقد وقف في عين العاصفة يجدف عكس القطبين الأعظم مواجهاً السوفييت في الشرق والأمريكيين في الغرب، وبعد اثني عشر عاماً فاجأ العالم بقرار لم يكن يحتسبه أحد وهو إعلانه الدخول في الإسلام عام 1982.
وفي سياق تفسيره لخياره الجريء في اعتناق الإسلام أعلن ببساطة أنه وجد الحضارة الغربية قد بنيت على مفهوم خاطئ للانسان، فهي تعتمد على النمو المادي التراكمي، وتفرض لوناً من القيم يتناقض تماماً مع فرادة الإنسان وكرامته، ورأى أن الحضارة الغربية قامت بتسليع الحاجات والقيم والمبادئ في إطار الشركات الكبرى العابرة للقارات، وهي ماضية إلى تسليع الإنسان نفسه في عصر الإله الجديد الذي لا يجرؤ أحد على ذكر اسمه وحدة السوق، أو بتعبير أكثر وضوحاً: الدولار!!
ويشير جارودي إلى أن هذا الانحطاط في قهم الإنسان هو مسألة فلسفية في العمق، فبينما قدمت الحضارة الحديثة صورة الإنسان على أنه مجرد تفاعل هيدروكربويني عاثر قذفت به رحى الديالكتيك السائبة في ظروف مناخية خاصة، ثم طفرت فيه نفخة الحياة عند أفق القردة العليا، فإن القرآن الكريم قدمه من أفق آخر محتلف تماماً وأعلنه سيداً للكون، خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه، وخلقت الكائنات من أجله، وسجدت الملائكة في خدمته، وقدمه الرب نفسه خليفة له على الأرض، وقد كرمه يوم كرمه قبل أن تنزل النبوات وتأتي الرسالات وسخر له ما في السموات والأرض جميعاً منه !!
إن صراعه مع الحضارة الغربية كان صراعاً إنسانياً بامتياز، لقد كان جوهر الصراع والخلاف هو الإنسان، الإنسان الذي تحول إلى ركام هائم بين الأشياء والسلع ووسائل الإنتاج، وأصبح في النهاية بيدقاً في رقعة الثورة الصناعية، وتم في غمار ذلك تسليع الإنسان نفسه إلى جانب مبادئه وقيمه وأخلاقه، حيث يتعين قراءته بالباراكود على وفق إنتاجه المادي، وهي صيغة أعلنها فيلسوف الحضارة الصناعية نيتشه في العصر الاستعماري المقيت في القرن التاسع عشر في نموذج السوبرمان الضروري للحضارة الغربية الصناعية، قائلاً: اقهر الضعفاء اسحقهم اصعد فوق جثثهم!! إن الحضارة لا يمكن أن تزدهر في ظل أخلاق المسيح!! وإن الفقراء يبتزون جهد الأغنياء وكفاحهم بوسائل العطف والشفقة، إن الارستقراط أجدر بالحياة من الضعفاء والهمل، لقد دفع آباؤهم ثمن دمائهم الزرقاء فيما كان آباء الآخرين خاملين كسالى عالة!! يجب منع الفقراء والمرضى من الزواج، وتأمين موت كريم وسريع لهؤلاء ليتاح للأقوياء بناء العالم الجديد، إن ذلك الهدف الكبير لبناء مجتمع السوبرمان لا يمكن تحقيقه إلا بعد رحيل الله! ولأجل ذلك لم يتردد نيتشة في إعلانه عن موت الله ووضع رفاته في متحف اللوفر!
في تلك المرحلة الصاخبة من صعود الحضارة المادية، وانسحاق الإنسان تحت عجلات المصانع الكبرى وروائزها، كان جارودي يأوي إلى أفق آخر، وكان يؤلمه غياب الأمل والرجاء من الحلم الشيوعي الهادف إلى إسعاد الفقراء، فقد حول النظام السوفياتي المجتمع إلى يوتوبيا هائمة من الفقراء، وحول المجتمع برمته إلى قطيع غاضب، لا يتجمع إلا في خطوط الانتاج الصناعية، محض آلات منتظمة خاوية الروح، وفي غمار ذلك الصخب كان جارودي يخوض تجاربه الروحية مع أعلام الفكر الإسلامي التاريخي الذين قدموا قراءة اخرى للإنسان تستند إلى محوريته في الكون ووصاله بالله، وكرامته في الأرض.
فقد تعرف إلى مولانا جلال الدين الرومي وابن عربي وابن الفارض وغيرهم من فلاسفة الإسلام الذين كتبوا في الإخاء الإنساني، وفي روضة المثنوي لجلال الدين أدرك جارودي أن البعد الإنساني في الإسلام يتجاوز كل التناقضات الحادة التي طبعت شكل الأسرة الإنسانية، وأن الإنسان هو جوهر الحياة، وأن بالإمكان أن تتأسس أسرة إنسانية واحدة في العالم، وفق منطق الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
في كتابه الإسلام دين المستقبل كتب جارودي: «أظهر الإسلام شمولية كبرى في استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد، وكان في قبوله لاتباع هذه الديانات في داره منفتحا على ثقافاتهم وحضاراتهم والمثير للدهشة انه في اطار توجهات الإسلام استطاع العرب آنذاك ليس فقط إعطاء إمكانية تعايش تماذج لهذه الحضارات، بل أيضا إعطاء زخم قوي للايمان الجديد: الإسلام، فقد تمكن المسلمون في ذلك الوقت من تقبل معظم الحضارات والثقافات الكبرى في الشرق وأفريقيا والغرب وكانت هذه قوة كبيرة وعظيمة له، وأعتقد ان هذا الانفتاح هو الذي جعل الإسلام قويا ومنيعا .
إن الأسرة الإنسانية الواحدة التي بشر بها الإسلام ليست محض حلم يراود الفلاسفة والحكماء، لقد استطاع الإسلام أن ينجز ذلك على الأرض، وفي هذا السياق يكتب جارودي شارحاً إسهام الإسلام في البناء الحضاري في العالم بقوله:
إن المسلمين أسسوا نهضة بالمعنى الكامل، شملت الصناعات، والبحث العلمى، والعلاقات الاجتماعية، والثقافة، وهم أول من طبق سياسة الانفتاح على العالم، فأخذوا من القديم والحديث، ومن الشرق والغرب، وتفاعلوا مع الحضارات والثقافات التى كانت قائمة فى تلك العصور وكان أهمها حضارة اليونان القديمة، وحضارة الهند والصين المعاصرتان. هذا فى الوقت الذى كانت فيه الكنيسة تحكم بالإعدام على العلماء الذين قالوا إن الأرض كروية، وأنها تدور حول نفسها، وكانت محاكم التفتيش فى أسبانيا تحكم بالحرق على المسلمين وعلى الكتب فى القرن السادس عشر بعد طرد المسلمين منها.
ويذكر جارودى أسماء علماء العرب الذين أسسوا العلوم وأبدعوا فى الطب والرياضيات والكيمياء والجغرافيا، ويعكس ذلك مخزوناً عالياً من الثقافة والاطلاع على الحضارة الإسلامية، ويشير بشكل لافت إلى تحول المساجد الكبرى في العالم الإسلامي إلى أكاديميات علمية رائدة مثل جامعة القرويين فى فاس، وجامعة الزيتونة فى تونس، والأزهر فى مصر، وجامعة سمرقند، وجامعة قرطبة. فقد كانت مراكز للعلم والروح والقلب والعقل في آن معاً.
ثم يمضي جارودي في جولته التاريخية ليتحدث عن أول مرصد فلكى فى العالم أنشأه الخليفة الأموى عبد الملك فى دمشق عام 717م- وهو أيضا أول من أنشأ المستشفيات وجعلها كليات للطب، بينما أنشئت كليات الطب فى أوروبا بعد ذلك نقلا عن العالم الإسلامى، وكانت تدرس المناهج والعلوم التى تدرسها الكليات الإسلامية. وكان منها كلية (ساليرن) فى إيطاليا، وكلية (مونبلييه) فى فرنسا. وحتى أعرق الجامعات الأوروبية أنشئت على النموذج الإسلامى بعد ثلاثة قرون من نشأة الجامعات الإسلامية، وهذا ينطبق على جامعة باريس، وجامعة اكسفورد وهما أقدم الجامعات الأوروبية.
ويقدم جارودي دراسات بالغة الأهمية لإسهام المسلمين في بناء الحضارة الإنسانية، ويستعرض أهم الإنجازات العلمية في سياق عريض يكشف سعة اطلاعه وعمق معرفته بأعلام الحضارة الإسلامية وإنجازاتهم.
ولكن الجانب الأهم في فكر جارودي هو موقفه من التجديد الديني، فقد بدأ الرجل مباشرة بعد إعلانه الدخول في الإسلام رحلة أخرى داخل الفكر الإسلامي ذاته، وهي رحلة نقدية صريحة لا تختلف عن تجاربه السابقة، وقد أثار هذا الأمر كثيراً من المؤسسات التقليدية في العالم الإسلامي ورأت في هذا السلوك افتئاتا على ثوابت الشريعة، وصدرت بحق الرجل مواقف مباشرة تتهمه بالهرطقة، ولكن الرجل كان واضحاً تماماً فهو لم يطرح نفسه فقيهاً يفتي في مسائل الدين، ولكنه ظل يمارس دوره كمفكر ناقد وكان يجهر برأيه أن الإسلام بحاجة إلى تجديد مستمر، وأن من الغرور أن نطرح الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ثم نقعد عن التجديد والاجتهاد فيها، وهي العبارة التي طالما كررها الفقهاء بقولهم: النصوص تتناهى والأحداث لا تتناهي، وما يتناهى لا يضبط ما لا يتناهى.
حين أعلن جارودي موقفه الشجاع في اعتناق الإسلام أصبح هذ الخبر مادة صحفية أولى وخبراً دسماً تتوالى صفحات الإعلام الترويج له والتبشير به، وكتب صحفيون كثير أن الرجل اهتدى أخيراً إلى درب الهداية وأنه تخلص من الظلمات والجاهلية والضلال المبين، ولكن جارودي في الواقع كان يحمل رؤية أخرى للإسلام، فهو لم ير فيه الدين الذي نسف ثقافات الإنسان وكفاحه وتجاربه، ولم ير أن عظمة الإسلام تتوقف على انحطاط الثقافات والديانات الاخرى، لقد كان يرى أن القرآن الكريم نص بصراحة في أربعة عشر موضعاً ترد عبارة: مصدقاً لما بين يديه، وحين يصرح القرآن بهذه الحقيقة فإنه يقدم أوضح رسالة إخاء إنساني، حيث يدعو الى التصديق والتكامل وليس إلى العداء والتناحر، إنه لم يقل ناسفاً لما بين يديه، ولم يقل مبطلاً لما بين يديه، وإنما قال مصدقاً، والتعبير بلفظ “ما بين يديه” يشمل النبوة السابقة والحاجة الحاضرة والحكمة اللاحقة، وهذا وعي بحقيقة الفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها.
أعلن جارودي مرات متعددة أنه يتعرض لاستفزاز من الصحافة، حيث كان يرحل إليه صحافيون مسكونون بوهم نرجسي طاغ، ينتظرون منه أن يشن حرباً لا هوادة فيها على تهافت الفكر المادي وانحطاط الكنيسة وسقوط الحضارة وجاهلية القرن العشرين وغير ذلك من العناوين التي تلتمس إظهار عظمة الإسلام باحتقار ما سواه.
ولكن الرجل لم يكن يحمل هذه القناعة أبداً، لقد ظل يكتب في الإخاء الديني والإنساني، ولم يكن يرى دخوله في الإسٍلام كفراً بما أنجزه الإنسان في كفاحه المعرفي والفلسفي، وحين سأله صحفي ثقيل: حدثنا عن ضلالك الأول وأوهام الفكر الذي كنت تائهاً فيه قبل أن يمن الله عليك بالإسلام؟ قال له بشجاعة: أيها السائل إنني لا أحب كلمة اعتناق الإسلام، فأنا مؤمن أنها الفطرة التي خلق الإنسان عليها، وأنا أقرؤها في القرآن كما قرأتها من قبل في الإنجيل، وهي حقيقة لا تبتعد عن آمال ماركس في العدالة الاجتماعية، وفي تعبير صحفي صريح قال: لقد دحلت الإسلام وبيميني نسخة من الإنجيل وفي يدي الأخرى كتاب رأس المال لكارل ماركس، ولست في وارد التخلي عن أي منهما.
وربما كان هذا الموقف أهم ما تبناه المفكر الكبير روجيه جارودي، وقد كتب لي حضور اهم لقاء صرح فيه جارودي بهذه الحقيقة وذلك في دمشق مطلع التسعينات حين حضر بدعوة من الشيخ أحمد كفتارو مع زوجته سلمى الفاروقي، وهناك أعلن موقفه تماماً في هذا الجدل الكبير، إنه ببساطة لم يطرح نفسه فقيهاً أصولياً ومفسراً بالمأثور والمنتثور، وإنما طرح نفسه مفكراً وكاتباً وهذا حق كل إنسان، فلم يتدخل في إطلاق فتاوى فقهية وأصولية ولم يكن هذا لينتظر منه أبداً ولكنه واجه بشجاعة فكرة الشعب المختار التي تسربت إلى العقل الإسلامي، وأعلن تماماً أنه يريد أمة بين الأمم، وليس أمة فوق الأمم، وأنه يتبع نبياً بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء، وأن الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تزال تجمع بين الشرفاء والعقلاء من البشر بغض النظر عن اختلاف ألسنتهم ودمائهم وقبائلهم وأقوامهم، وفي إطار لا يحتمل اللبس أثنى أطيب الثناء على جهود الامبراطور الهندي المسلم السلطان أكبر الذي قدم نموذجاً متقدماً في الإخاء بين الديانات، وتعزيز قيم المشترك بينها.
نشرت صحيفة مدارك المغربية الصادرة عن حركة التوحيد والإصلاح في أعقاب هذا اللقاء حواراً مطولاً مع جارودي شرح فيه تماما موقفه من التجديد الديني حيث كان أهم جانب في تفكيره هو وجوب التمييز بين الشريعة والفقه، فالشريعة هي ثوابت الإسلام الكبرى، والفقه هو حاجة الناس المتجددة، وفي سياق جوابه على ذلك قال:
نحن في عالم دائم التغيير، لا يتوقف الله، كما يقول لنا في القرآن الكريم، عن خلقه ثم إعادة خلقه. وكل منا مسئول عن عدم الخلط بين الشريعة التي هي القانون الدائم وبين الفقه المتوارث عبر قرون خلت.. إننا لا نستطيع أن نفرض في القرن العشرين وعلى العالم أجمع تشريعا ينتمي إلى ظروف تاريخية كانت سائدة في الجزيرة العربية إبان القرن السابع…….
يدعونا القرآن الكريم في عدة مواضع أن نتذكِّر بأننا مسئولون عن أنفسنا.. إن أقبح خطأ مميت بالنسبة إلى مستقبل الإسلام قد يكمن في الخلط بين الناموس الإلهي السرمدي، أي الشريعة، وبين الفقه، أي التشريع. إن تطبيق الشريعة هو أمر معاكس لهذا الخلط واللبس، وانطلاقا من المبادئ المطلقة للشريعة ….. يمكننا أن نضع فقها للقرن العشرين، وهذه مسئولية جماعية لا تقع فقط على المسلمين، وإنما كما يقول القرآن الكريم، على جميع بني آدم من المؤمنين الذين تلقوا رسالة الأنبياء وجميع الرسل الذين بعث بهم نفس الإله، وهو الله وحده الذي لا شريك له. يجب ألا نخلط بين الشريعة وبين الفقه؛ فلكل وظيفته الخاصة به، فالشريعة هي قانون أبدي عالمي لكل الشعوب ولكل الأزمنة، وهي ثابتة لا تنالها أساليب التبديل والتعديل، أما الفقه فهو الحلول المناسبة للمواقف الطارئة، إضافة إلى الشروح المقدمة للشريعة بحثا وتحليلا.
من ثوابت الشريعة أن الله أرسل جميع أنبيائه برسالة واحدة وهدف واحد …. ولو درسنا القرآن الكريم بآياته الستة الآلاف تقريبا لوجدنا أن حوالي 5800 آية تتحدث عن أمور ثابتة أبدية هي الشريعة، وأن ما يقرب من 200 آية هي في الفقه، والتي لا ينكر فيها التغيير والتعديل حسب المعطيات والحالة والزمن، فالشرائع متفقة على الثوابت من وحدانية وأزلية وخلق، لكن الأحكام تختلف، ……
ولو رجعنا إلى القرآن الكريم بالذات لوجدنا أنه يخلو تماما من بعض الأمور المعاصرة والضرورية جدا، كالشركات المتعددة الجنسيات، والتعامل بالنقد، وما جرت عليه الأعراف التجارية، ومؤشرات المال والاقتصاد والأسهم والسندات… إلخ. ….. وهناك تفصيلات كثيرة ودقيقة لهذه الأمور الاقتصادية، والقرآن غير معني بها، فهو ليس كتابا للاقتصاد. لذلك أؤكد أن القانون الإلهي والمبادئ الإلهية خالدة سامية وباقية وأزلية، لكن ما يستجد من أمور الحياة المعاصرة علينا أن ننهض لإيجاد حلول تتناسب معها، ونعالجها بالطريقة التي نضمن بها الاتساق ضمن مسيرة الشريعة وأهدافها الكبرى، ولنا في فقه كل من أبي حنيفة والشافعي مثال يحتذى، هذان الفقيهان العبقريان أوجدا الكثير من الحلول والأجوبة لما كان يعترض مسيرة حياة المسلمين اليومية. واليوم نحن ملزمون بالقياس على فقههم …….. إن الشافعي قد أتى بفقه جديد في مصر يغاير فقهه في العراق لتغيّر الأحوال، لذا قيل: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”. يجب علينا أن ندرس كما درسوا ونعمل فكرنا لإيجاد حلول متسقة مع الشريعة الإسلامية لما يعترضنا من مشكلات فقهية عصرية.
لقد وصل جارودي إلى شاطئ الإسلام رسالة الرحمة للعالمين، ولكنه لم يوافق أبداً أن يكون دخوله في الإسلام نهاية عهده بالعقل، وكان يردد دوماً كلمة الفيلسوف الحائر ابن الفارض: زدني بفرط الحب فيك تحيراً.
لقد بدأ كاثوليكياً واستأنف بروتستانياً ثم اختار في كفاحه منصة الشيوعية العالمية، وانتهى به المطاف في رياض الإسلام، ولكنه لم يقل يوماً إنه قد وقف على نهاية العالم، ولم يملكه الغرور يوماً ليتحدث عن نهاية التاريخ، لقد ظل يعبد الحق ويعشق القلق، ويناجي ربه بالعبارة المحببة في كل صلاة: اهدنا الصراط المستقيم.
كان اختيار جارودي للإسلام حدثاً صاعقاً في الغرب، فقد كانت حمى الإسلاموفوبيا تتصاعد من عواصم غربية مشحونة، وكان الصهاينة قد أنجزوا للتو سلسلة مكاسب حقوقية كرست مكانهم في التراث العالمي خزاناً للمظلومية والقهر، وأصبح إنكار المحرقة أو التشكيك بأرقام ضحاياها لوناً من الجريمة التي يعاقب عليها القانون، ومن الصواب أن نقول إن ما حققه اليهود كان في الواقع نجاحاً مباشراً للنضال الحقوقي الذي قاموا به عبر قنال صامت، حيث اشتغل الناس بالصخب الإعلامي عن المظلومية اليهودية فيما كان المحامي الإسرائيلي يرافع ويدافع أمام قاعات مخصصة في القضاء الأوروبي وتمكن بالفعل من تحويل اللطميات اليهودية إلى أحكام قضائية ثم تمكن من تحويل هذه الأحكام القضائية إلى صكوك تشريعية معززة بالمؤيد الجزائي في غفلة من العالم وسرعان ما صار القانون الأوروبي يعاقب عليها بالسجن.
وحين اختار جانب الحقيقة فإن الرجل لم يملك أن يقف متفرجاً إزاء المظالم التي يعانيها أبناء فلسطين في شتاتهم في الأرض، وسرعان ما وجد نفسه يستدعي أشد ما في الإسلام من رفض للطغيان وأوضح ما في الماركسية من إرادة التعيير والثورة، ووقف إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم، وأعلن أن وقوع الظلم على اليهود في حقبة من التاريخ لا يخولهم اضطهاد شعوب أخرى، وبعد بحث عميق أدرك الرجل تماماً أن المشروع الصهيوني استغل المشاعر الأوروبية بالإثم والذنب تجاه المظالم التي عاناها اليهود، وأنه قد تم بالفعل تضخيم معاناة اليهود من أجل تأمين مشروعهم القومي، وقامت الأدوات الإعلامية بتركيز المظلومية إلى جانب المقهور أوروبياً، وتم استغلال تلك المشاعر الأوديبية لجهة ظلم الفلسطينيين باعتبار فلسطين جزءاً من شراد اليهودي التائه عبر التاريخ.
لم يتردد الرجل في إنكار المحرقة الصهيونية أو على الأقل التشكيك في أرقام المحرقة التي يتداولها الصهاينة في العالم، ولم يكن يجهل أن هذه الأرقام قد تحولت إلى غول مخيف يلزم القانون الأوربي في بلدان كثيرة باعتقال من يشك بالمحرقة، وبالفعل فإن جارودي وجد نفسه مباشرة أمام منصة القضاء الفرنسي ولم يشفع له تاريخه وعلمه ومكانته الدولية من النطق بالحكم عليه بالسجن عاماً كاملاً وغرامة مالية…….
وهكذا سجلت باريس خطيئة أخرى بحق الفلسفة يوم أدانت جارودي بتهمة التشكيك في الهولوكوست، مع أن هذا الموقف لا يشتمل أكثر من حق التعبير، ومع أن الحكم الفرنسي قد صدر بحقه ليشفي غليل الصهاينة ولكن كتابه ظل طوافاً في الآفاق يلهب سياطهم بسوط الحقيقة، ومكتوبه ظاهر تماماً في عنوانه: الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل!!
في صيحته لتجديد الإسلام يذكرك جارودي الصارخ من الغرب بأشواق إقبال الهاتف من الشرق، فكما كتب الشاعر الهندي فكره المتوثب في كتابه الجليل التجديد الديني في الإٍسلام صائحاً: لا تقرؤوا القرآن بعيون الموتى، فقد أعلن الفيلسوف الفرنسي من باريس الرؤية إياها في كتابه: الإسلام دين المستقبل، وقال بوضوح: إذا أردنا أن يبقى الإسلام حياً فعلينا أن نأخذ من تراث الآباء الجذوة لا الرماد.
من مؤلفات جارودي
• ماركسية القرن العشرين
• النظرية المادية في المعرفة
• المسجد مرآة الإسلام
• جولتي وحيدًا حول هذا القرن
• كيف يصبح الإنسان إنسانياً
• واقعية بلا ضفاف
• فلسطين أرض الرسالات الإلهية
• أمريكا طليعة الانحطاط
• الإرهاب الغربي.. ملف إسرائيل
• نظرات حول الانسان
• حوار الحضارات
• الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل
جارودي في سطور
• ولد في مرسيليا 1914 من أم كاثوليكية وأب ملحد.
• اعتنق البروتستانتية وهو في سن الرابعة عشرة
• درس في كل من جامعة مرسيليا وإيكس أن بروفانس
• انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي
• وفي عام 1937 عين استاذا للفلسفة في مدرسة الليسيه من ألبي.
• خلال الحرب العالمية الثانية أُخذ كأسير حرب لفرنسا الفيشية في الجلفة بالجزائر بين 1940 و1942.
• في عام 1945 انتخب نائبا في البرلمان وأصدر أول مؤلفاته عام 1946
• حصل جارودي على درجة الدكتوراه الأولى سنة 1953 من جامعة السوربون عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حصل على درجة الدكتوراه الثانية عن الحرية عام 54 من موسكو.
• طرد من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1970م وذلك لانتقاداته المستمرة للاتحاد السوفياتي، وفي نفس السنة أسس مركز الدراسات والبحوث الماركسية وبقي مديرا له لمدة عشر سنوات.
• في 2 يوليو 1982 أشهر جارودي إسلامه، في المركز الإسلامي في جنيف، بإشراف الدكتور مدحت شيخ الأرض مدر المركز الإسلامي بجنيف وتزوج من السيدة الفلسطينية سلمى الفاروقي.
• نال جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1985 عن خدمة الإسلام وذلك عن كتابيه: ما يعد به الإسلام، والإسلام يسكن مستقبلنا
• بعد مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان أصدر غارودي بيانا مع كل من الأب ميشيل لولون والقس إيتان ماتيو. وكان هذا البيان بداية صدام غارودي مع المنظمات الصهيونية التي شنت حملة ضده في فرنسا والعالم.
• في عام 1998 حكمت محكمة فرنسية على جارودي بالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ والغرامة المالية بتهمة التشكيك في محرقة اليهود في كتابه الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل.
• توفي في سان مان الفرنسية يوم 13 حزيران 2012