وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها
في تقليد متكرر قام البابا فرنسيس الأول بزيارة لأحد مخيمات اللاجئين في روما، حيث قام بغسل أقدام 11 لاجئا ثم قام بتقبيلها بتواضع بليغ.
وتاتي هذه المبادرة بعد تفجيرات باريس وبلجيكا وتزايد المطالبات السياسية في أوروبا بوقف هجرة المسلمين وفرض قيود على حياتهم وأعمالهم على أساس تمييزي صارم.
ومن جانب آخر فإن رسالة البابا تحمل مضموناً أخلاقياً دقيقاً يقول للعالم: لا تنظروا إلى اللاجئين كعبء ينبغي التخلص منه بل انظروا إليهم كثروة إنسانية ينبغي الاستفادة منها، ويجب أن ننتصر على الحرب بارادة الحب والسلام.
البابا راس الكنيسة التاريخية التي كانت كياناً حربياً جباراً طحن بكلكله أوربا طيلة العصور الوسطى، وأقام أباطرة وحرم اباطرة، وعين ملوكاً وأطلق جيوشاً ودمر مدناً واجتاح بلاداً، وكان يفعل ذلك كله باسم الرب…
البابا وريث البابوية التاريخية التي أطلقت الحروب الصليبية في كل اتجاه في العالم، وأرسلت حملات تلو حملات في مطاردة الكفار وقتالهم وتدمير معابدهم ومساجدهم، والتقرب إلى الله بدمائهم، ومنذ أن أعلن البابا أوربان الثاني الحروب الصليبية وأطلق بطرس الناسك نذيرا سماوياً ضد الكفار، إلى أن أطلق البابا أنوسنت الثاني فرسان الهيكل محاربين قساة لاجل الرب، فإن الشر ارتكب في كل مكان باسم الرب، ومع أن تراتيلهم كانت: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وصلوا لأجل الذين يبغضونكم، ولكن أفعالهم كانت اقتلوهم حيث ثقفتموهم، اقهروا الضعفاء اسحقوهم اصعدوا على جثثهم، ومارس فرسان الهيكل أشد أنواع الدموية الفاشية ضد مخالفيهم من الكفار!! مسلمين ومسيحيين ويهود.
ليست هذه المقالة مخصصة للحديث عن مآسي القهر الديني في العصور الوسطى فمن الممكن أن تقرأالأهوال في أي مؤلف تاريخي كتبه المسيحييون أنفسهم وفيه تفاصيل الحروب والمجازر والمحارق ومحاكم التفتيش التي ارتكبتها الكنيسة وهي تدافع عن الإيمان، ويكفي قراءة مجزرة بارثولوميو التي فصل القول فيها ول ديورانت في قصة الحضارة التي وقعت في عهد الملك الفرنسي شارل التاسع 1572 والتي تم فيها قتل الآلاف من رجال الدين أنفسهم بأبشع أشكال التعذيب والقهر والإذلال ولم يكن ثمة أي سبب آخر لهذه المجازر إلا اختلاف الإيمان.
وبعد سلسلة حروب غاشمة اشتملت على حرب الثلاثين عاما وحرب المائة عام وحروب أخرى لا تحصى نهض العقل من رقدته في أوروبا، واندفع في وجه المظالم ودفع ثمناً غالياً من التضحيات حتى أرغمت الكنيسة على الخروج من السياسة، ومنذ وستفاليا 1648 إلى اتفاقية قصر لاتران 1929 تغير مكان البابا في التاريخ وتحددت سلطته الدنيوية بنصف ميل مربع من الأرض فيما تركت سلطته في السماء كما يشاء له اللاهوت.
اليوم وبعد تسعة قرون، لم تعد الحروب الصليبية مجداً لأي بابا، وتتالت اعتذارات البابوات عن كوارث الحروب الصليبية .. إنها باختصار لحظة عقل، ولحظة قيام… لقد تغير العالم وعلينا أن نفهمه.
هكذا تكفر الكنيسة اليوم بتاريخ طويل قاده بابوات مغامرون وحققوا أملاكاً وغنائم هائلة للكنيسة واستولوا على ممالك ودول وحضارات ولكنهم بقوة التاريخ نفسه أرغموا أن يتركوا كل هذا وأن تنتهي أملاك البابوات الأسطورية عند حدود كنيسة بطرس في روما وبعض العقارات الصغيرة المحيطة بها، وأجبروا على ترك ما لله لله وما لقيصر للقيصر.
لا يشبه سلوك البابا فرنسيس في شيء سلوك البابوات العظام الذين أذلوا الشعوب والملوك وعمدوا إلى إظهار سلطان الكنيسة غالبا لا ينازع وقاهرا لا يغالب، إنهم يعودون اليوم إلى الأفق الحقيقي للدين إلى حيث كانت مواعظ يسوع الناصري الثائر الصابر في عذابات فلسطين في مواجهة القهر اليهودي وهو يتحدث عن المسامحة والغفران.
اليوم تعيش الكنيسة ازدهاراً حقيقياً لا يشبه في شيء تفوق جيوشها وألويتها وفرسانها في العصور الوسطى التي لم تعد إلا ذكرى قميئة يتنصل منه الباباوات بالاعتذارات التاريخية، وبدلاً من ذلك تحولت إلى ازددهار حقيقي في برامجها الاجتماعية والانسانية وتوجيهها الاخلاقي، وهذا هو مكان الدين الحقيقي في الحياة.
يتحدث البابا في قداس الفصح عن اللاجئين المسلمين كأبناء حقيقيين لله، ويدعو المجتمع الأوربي لتسهيل قوانين اللجوء والهجرة، ويعتبر المهاجرين رصيداً حقيقياً للاخاء الانساني…
إنها الكنيسة نفسها التي اعتبرت المسلمين في الماضي رجسا ودنسا وتقربت الى الله بإحراق الأسرى والإجهاز على الجرحى، وهي التعاليم نفسها التي مارسها مسلمون أيضاً في مكان آخر، على الرغم من التناقض الصارخ مع تعاليم المسيح وهدي محمد.
لقد تغير العالم….. ومع ذلك فإنه من المستبعد ان يتلقى السوري الغاضب وكذلك العراقي واليمني والليبي مبادرات كهذه بالقبول، فهو يعيش عصر النقمة والسخط بعد عجز العالم المتحضر عن إيقاف مأساته، وربما كانت الثقافة الأقرب إليه هي ثقافة (يلعن كل شي) بعد ان بلغت المأساة الإنسانية حدها الأعلى.
ولكن لحظة الانفعال آفلة، ولكل داخل دهشة، ولا طلاق في إغلاق، ولا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان، ونحن مطالبون أن ندرك أن العالم قد تغير، وأن التاريخ المجيد لم يعد مجيداً، وأنه لا شرف لبندقية تقاتل لفرض الإيمان وقهر الإنسان، سواء كانت تحت راية القرآن أو الصليب، وأن المجد للسلام، وهو قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين.
لقد تغير العالم وتراتيل الكنائس التي كانت تحتكر الخلاص للكاثوليك وحدهم، وتزج الآخرين من هيجونوت وارثوذكس في محارق الدنيا وجحيم الدينونة صمتت هي الأخرى، فيما يعلن الإيمان عن نفسه بصيغ جديدة حضارية: دين بين الأديان وليس دينأً فوق الأديان، وأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، وأن الإنسان أخو الإنسان، تماماً كما بشر المسيح وتماماً كما نص القرآن: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
لقد تغير العالم…. والبابا الذي كان يعقد الألوية لفرسان الهيكل لينكلوا بالكافرين باسم الرب صاراليوم ينكب على أقدامهم يغسلها ويقبلها في درس حضاري بليغ يحمل أول ما يحمل حقيقة ان الإنسان انتهى من عبادة التاريخ ودخل في عبادة القيم والفضيلة.
لا يمكنني ان أقرا هذا السلوك بعيداً عن السياق الحضاري، وما تحقق من نضج الإنسان وسموه وانتصار الأخلاق على السياسة وانتصار الإنسانية على التوحش، وتكبيل الاستبداد والتوحش بقيود الديمقراطية وحقوق الإنسان.
قد تبدو هذه القراءة الوردية سماجة وسذاجة، وسيشير كثير إلى قرارات الحرب السوداء التي تتخذ في دوائر العالم القوي ضد الشعوب الضعيفة، ومع أنني لا أملك التبرير لما يفعلون، ولكنني مقتنع تماماً بان حروب البغي قد توقفت تماماً في النظم الديمقراطية، فيما لا تزال الديكتاتوريات تمارس هذا الشر وهي محكومة بالأفول وفق حركة السنن والتاريخ.
تحتاج مباردات كهذه لقراءة عميقة في قول الله تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا باحسن منها أوردوها، ونحتاج أن نخرج من عباءة الماضي المرهقة حيث كانوا يوقدون الحروب ويطفئها الله، إلى وعي جديد بالإنسانية يقوم على مبدأ عيال الله، واستماع القول من كل نقل وعقل، وغيب وشهود، ثم اتباع أحسنه وتجاوز سواه، وتلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.