وهكذا تم تكريس رمضان مهرجان الدراما العربية، وانتصر التوقيت القمري على التوقيت الشمسي وأصبح الحول الدرامي قمرياً، وأصبحت روزناما البرامج والمسلسلات تدور مع الشهر العربي حيث دار، وفرض رمضان نفسه على الصائمين والمفطرين جميعاً، وأثبت للناس أن عاطفة الدين هي أقوى مكامن التأثير في الإنسان.
هل يمكن تقديم فن بلا إسفاف، وهل يمكن تقديم دراما بدون خطيئة وبدون موائد راقصة تحمل رائحة الفحشاء؟
الجواب الرمضاني نعم، وهو يثبت بطلان الفكرة السابقة أن الفن لن يكون له معنى إذا غابت منه المشاهد الحمراء، وأنه سيكون جافاً جفصاً إذا غابت فصول الإثارة الجسدية الطافحة بالسعار!
من الواضح أن تطوراً إيجابيا طرأ على البرامج الرمضانية لجهة المحافظة على قدر معقول من العفاف والحشمة، فقد غابت نسبياً فوازير رمضان، وحجبت برامج كثيرة من نوع هشك بشك رعاية لحرمة رمضان.
لقد حصل ذلك وأعتقد أنه سيزداد فيما يأتي من الأيام، وذلك ثقة بالعقل العربي والمزاج العربي والمذاق العربي، وأن الإسفاف والانحلال وإن كان مطلباً لشريحة من الناس ولكنه ليس بالضرورة صورة الذوق العربي العام، والفضيلة لا تزال في مكان حصين في ضمائر الناس الذين يبحثون عن المتعة والتسلية ضمن حدود الأخلاق.
وللأمانة فهذه ليست صورة العالم الإسلامي وحده بل إن العالم كله يحمل الرؤية إياها، فالفضيلة لا تزال مبعث الاحترام والتقدير، والرذيلة لا تزال مبعث اشمئزاز الشرفاء والأحرار في العالم وهم كثير، ولن ينسى العالم موقف الشعب الأمريكي من رئيسه المدلل بيل كلينتون حين قدمه للمحاكمة وبهدله وشرشحه على الملأ وأوشك أن يعصف بمكانه في البيت الأبيض بسبب بعض العبث الأخلاقي خارج نطاق الأسرة، وهو أمر قد يمارسه الأمريكي كل يوم، ولكنه لن يقبله أبداً من رمز وطنه وسيادته ومثله الأعلى.
والأمر نفسه في فضائح الأمير تشارلز التي أثارت عليه غضب البريطانيين، ولم يشفع له عرشه ومجده، حين أطلق الشارع البريطاني غضبه الهائج ضد استهتار الأمير بالقيم العائلية وأوشك قصر باكنغهام أن يتصدع، وانهارت في النهاية الأسرة الجديدة، ومهما قيل في أسباب ذلك فإن أكثر الأمور إثارة لغضب الناس كانت تتمثل في عبث الأمير بقيم العفاف وهو ما لم يقبله البريطانيون على الرغم من أنهم قد يمارسونه في مجونهم ولكنهم لن يقبلوا أن يكون مثلهم الأعلى ضالعاً في ما يرون أنه انحطاط وسفالة.
إن الخطيئة وإن بيعت علناً في أسواق الغربيين ولكن لا ينبغي أن نظن أن هذا هو حال الإنسان في الدول المتقدمة، إن هذا الانتشار الفظيع سببه الحرية المطلقة، وبائعو الهوى، ولكن لو جرت الإحصائيات المتوازنة لظهر أن السواد الأعظم من الناس في الشرق والغرب لا يزال يحس بفطرة الله في قلبه وفؤاده، ويعرف قيمة الوفاء والطهارة الزوجية، ويشمئز من الخطيئة والانحلال.
قبل شهور نجح مطعم دمشقي في تسجيل رقم عالمي مدهش في موسوعة جينس للأرقام القياسية حيث تم تسجيله كأكبر وأضخم مطعم في العالم ، مع أن في العالم أكثر من مائة مدينة أكبر من دمشق، ولكن دمشق نجحت في المنافسة وفق المعايير الصارمة لشركة غينيس للأرقام القياسية، وكنت سعيداً في حفل الإثبات هذا وقلت يومها: ها هو مطعم دمشقي يلتزم آداب الشام ولا يقدم الخمرة ولا الخطيئة، وليس فيه أي برنامج سياحي راقص أو مخمور، ولكنه يحظى باحترام العالم السياحي ، ويؤكد أن السياحة إذن ليست تجارة المتعة بل هي صناعة البهجة والفرح، وما جعل الله من لذة فيما حرم.
نعم إن الدراما مدعوة أن تشارك في رسالتها في بناء الحياة، في تجميل الخير وتقبيح الشر، في تلميع الحلال وتبشيع الخطيئة، وهي قادرة من خلال موسم رمضان أن تصل إلى الناس جميعاً دون أن تستخدم أدوات الإسفاف التي تبرر الخطيئة لتحقيق متعة مشاهدة.
لا يعرف في تاريخ الإسلام سعي درامي، وفكرة الدراما برمتها لم تكن واردة في ضمير المسلمين آنذاك، ولكن لا بأس أن نقول إن أسلوب الرواية غلب في القرآن الكريم ، ويقدر عدد الآيات التي تروي القصص في القرآن الكريم بثلث القرآن وهي تعدل نحو ألفي آية، وإزاء ذلك فإن القرآن الكريم، ويمكن اعتبار قصة يوسف على سبيل المثال دراما تامة وجاهزة، وقد أنجزها المرحوم غالب الرفاعي عملاً مسرحياً تاماً قبل ثلاثين سنة، ولاقت استحساناً طيباً.
في كل أمة من الأمم تستخدم الفلسفة الأدب للوصول إلى الجماهير، وبالمقابل فالعمل الفني الخاوي من بعد فلسفي هو عمل فارغ، ورواية أوديب التي كتبها عملاق الرواية اليوناني صوفوكليس ظلت تلهم الأدباء في التاريخ، ودخلت أكثر من ثلاثين أدباً عالمياً تخدم أفكاراً عظيمة في السياسة والاجتماع والدين، ولا تزال إلى اليوم على خشبات المسارح العالمية، تقدم بشكل ما للعالم هوية الإبداع اليوناني الذي لا يزول..
الدراما رسالة، ورعيتها الناس، وكلكم مسؤول عن رعيته، وهي تحمل مضموناً فلسفياً توجيهياً بكل تأكيد، شاءت أم أبت ولعل أهم تحدياتها اليوم هو زحمة المنافسات الفضائية فهل تستطيع الدراما الهادفة أن تصل إلى البيوت السعيدة وتحمل رسالة الأخلاق والفضيلة.
أحياناً أتعرض للسؤال عن حكم البرجيس والشدة والضامة والشطرنج، ومع أن للفقهاء في هذه الألعاب كلام طويل، وهم يترددون بين حاظر ومبيح ولكنني أتناول المسألة من جانب تربوي وأتساءل عادة من هو صاحب السؤال، وكم يحز في قلبي أن أرى السائل شاباً يمتلئ حيوية ونشاطاً وعافية، ولكنه يبحث عن وسيلة ليقتل فيها الوقت، ويستعجل الأجل.
قلت لهم ذات يوم قد يكون سؤال الشدة والضامة والبرجيس وارداً من أحد لاجئي الثمانية وأربعين الذين بلغوا اليوم من العمر عتياً، وهم يرقبون وجه الأفق ليبدؤوا مشوار العودة، وهنا سأتفهم أن تكون مثل هذه المعاناة واردة على ألسنتهم يقتلون بها الوقت الذي ما زالوا ينتظرونه منذ عهد بعيد، وقد صاروا بلا أمل ولا عمل، وليس في بوارق الآفاق ما يبشر بخلاصهم من معاناتهم، ولكن الأمر سيكون مأساة حين يكون السائل شاباً يمتلئ بالحيوية والنشاط، أنا شخصياً أحتاج لسبعين ساعة عمل كل يوم لأنجز ما هو مطلوب مني، وأحتاج لأكثر من ذلك لأتابع ما هو مطلوب مني فكيف تجدون هذه الأوقات التي تقتلونها بهذه الألعاب؟
متى يجد المشاهد العربي الوقت الكافي لمتابعة 427 قناة تلفزيونية عربية تسبح على جهاز الستالايت في فضاء الله تعالى الذي لا ينتهي!
باختصار مهمة الفن البريء أن يجعل الخير جميلاً والشر قبيحاً، أن يجمل الخير ويبشع الشر، وهذا من وجهة نظري معيار الشرف والنذالة في العمل الدرامي.