مقالات

محمد الحبش- أهل الفترة ..قراءة على الشاطئ الإسكندنافي 17/3/2006

الجدل على أشده هذا الأسبوع بين فريقين من الدعاة حول أسلوب التعاطي مع الأزمة الدانماركية.
هناك تيار عريض من الدعاة يرى أن الذهاب إلى الدانمارك في هذه المرحلة بالذات هو لون من الانشقاق على الإجماع الإسلامي الذي تمثل في توحد المسلمين في عواصم العالم في مسيرات التمرد والغضب ضد الإساءة التي قام بها دانمركيون في حق النبي الكريم ], ويرى هؤلاء أنه في الوقت الذي تمكنا فيه من حشد الشارع الإسلامي لتوجيه رسالة غضب واضحة, فإن الدعوة إلى مؤتمر كهذا ستجعل من جهود المسلين هذه سعياً في مهب الريح, وتقدم التنازل في الوقت الخطأ لحساب الباغي المستهتر بقيم الشعوب.‏
في حين يرى الفريق الآخر ومعظمه من الدعاة الشباب, بأن ما جرى ما هو إلا نتيجة طبيعية لغياب الصوت الإسلامي المعتدل عن الأفق الثقافي في الغرب, وأنه يتعين على الدعاة والمفكرين الإٍسلاميين الذهاب إلى القوم في معاقلهم كما أوصى القرآن الكريم اذهب إلى فرعون إنه طغى, وأنه: إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر.‏
ولم تكن الصحافة العربية غائبة بالطبع عن ذلك, بل إن الشغل الشاغل لها كان في تسجيل مواقف الفريقين, ومحاولة رسم ظاهرة شقاق جديدة وكأنه لا تكفينا مظاهر الشقاق الذي يعصف بالأمة من المحيط الهادر إلى الخليج الصابر.‏
ولكن وبكل أمانة لماذا يتعين علينا أن نفترض في الآخر أن يكون إيجابياً في معرفة الإٍسلام في حين أننا لم نقدم إلا ما هو سلبي عن تاريخنا وواقعنا.‏
قبل سنوات ألقيت محاضرة في جامع الزهراء أمام حشد كبير وكان في الحضور المفكر الإسلامي جودت سعيد, وخلال الحديث تناولت مسألة أهل الفترة وهو اصطلاح نستعمله في الفقه الإسلامي للدلالة على أولئك الذين عاشوا بين رسالتي المسيح والرسول الكريم, ولم يتسن لهم أن يتبعوا أحداً من الأنبياء الكرام, وفي هذه الحالة فإن جمهور الفقهاء كانوا لا يرون أن هؤلاء من أهل التكليف نظراً لغياب الرسالات عنهم, ولا يصح مطالبة هؤلاء بالتزام أحكام الشريعة ويسمون أهل فترة, وهو ما أخبر عنه القرآن بقوله: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم من الله بشير ونذير.‏
وهكذا فإن مصطلح أهل الفترة تعبير حضاري يحقق إعذار الشعوب التي لم نتمكن من مخاطبتها بحجج بينة, بحيث يتحقق الود والإعذار على الرغم من الاختلاف الحاد في العقيدة والمنهج.‏
تحدثت يومها عن أهل الفترة وقلت: إن أهل الفترة ليست مصطلحاً محنطاًُ في الزمان بل هي شروط موضوعية تنطبق على أمم كثيرة, وأعتقد أن زماننا هذا فيه أيضاُ كثير من أهل الفترة, وهناك كثيرون من قبائل الزولو والشعوب البدائية في غابات الأمازون ونيوزيلاندة والخمير لا يعرفون عن الإسلام ما يكفي ولعلهم لم يسمعوا بالإسلام أصلاً فليس لنا أن نطالبهم بأحكامه, وبالإمكان اعتبارهم من أهل الفترة!!‏
كنت أقدم رؤيتي هذه وأنظر في وجه المعلم جودت سعيد وأنا أترقب ردة فعله مما سمع!‏
لم يتأخر الشيخ جودت في بيان موقفه فقد طلب الكلام بعدي مباشرة وقال: إن محدثنا محمد حبش سيقول إن شعوب نيوزيلاندا والأمازون تشتمل على بعض أهل الفترة, أما أنا فأقول لكم إن بعض أهل الفترة يعيشون هنا في دمشق وفي عواصم العالم الكبرى, وهم يملكون الحجة الكافية لينصرفوا عن الإسلام إن دعوناهم إليه!!!‏
لماذا ننتظر منهم أن يتحولوا عن ثقافاتهم ومعتقداتهم ويتبعوننا فيما نحن فيه في حين أننا نقدم أسوأ الأمثلة عن الإٍسلام في السلوك والعمل???‏
ما الذي يسمعه الغربي اليوم عن الإٍسلام في حمى الإسلاموفوبيا التي نصنع نحن أكثر من سبعين بالمائة من تداعياتها وآثارها السلبية??‏
النشرة الإخبارية اليومية في كل محطات العالم تتضمن أخباراً عن الشرق الأوسط, لقد أصبحنا أشهر الأمم بامتياز!! يا للهول!! ولكن علام ترتكز هذه الشهرة??‏
قصف المراقد!! إحراق المساجد !! مخطوفون فرنسيون وباكستانيون وعراقيون وأردنيون وكويتيون وإيرانيون!! فيهم رجال ونساء وأطفال, وقتلى من كل الأعمار فيهم الراديكالي والليبرالي والعفاري والترافولتي, والصغير والكبير والمقمط بالسرير, خمسون جثة يومياً يتم العثور عليها في أحياء بغداد بعد أن عانت من النتف والسحل والتعذيب والخنق!! مذبوحون تنفجر الدماء من أوداجهم مشفوعة بصيحات التكبير أمام كاميرات ديجيتال!! فضائح فساد بمليارات الدولارات على حساب الشعوب المسكينة, حتى صارت مزادات الشتائم العربية هي أكثر الأخبار هدوء ورزانة!!‏
ما الذي يقنع الاسكوتلاندي أو الاسكندنافي أن يتحول عن ثقافته إلى ثقافة أمة لا تزال في كثير من تفاصيل حياتها تعيش خارج التاريخ??‏
لم أكن أتصور أبداً أن يتحول خطابنا اليومي الذي كنا نكرسه للمطالبة بالوحدة الإٍسلامية إلى المطالبة بالتضامن الإسلامي, ثم إلى المطالبة بالتفاهم الإسلامي, ثم للمطالبة بالتعاذر الإسلامي, ومؤخراً للمطالبة ب (التعايش) بين المسلمين!! ولست أدري هل حان الوقت لنطالب الإرادات المجنونة التي تمارس القتل في العراق بالأدب الإٍسلامي: إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته!!!‏
أما الوحدة الإٍسلامية فقد أصبحت أشبه شيء باسبرانتو التوحد اللغوي في العالم, الذي أضاف فقط لغة جديدة سمجة خاوية الروح ومقطوعة الجذور, تبحث عن رسالة ودور , بعد أن ارتسمت في ضمير الحكماء أكبر آمال التوحد في الأرض.‏
من سيصدقنا بعد ذلك حين نقول إننا نحمل رسالة حب ورحمة للعالمين?‏

Related posts

د.محمد حبش- المرأة بين عفاف الشرق وتحرر الغرب 11/5/2007

drmohammad

إخاء الأديان

drmohammad

د.محمد حبش- القرآن على سفوح جبال الألب….. ليالي الأنس في فيينا 19/6/2009

drmohammad

Leave a Comment