مرة أخرى أندفع للحديث عن قضايا الأسرة بعد أن تسارعت النشاطات الجديدة في حقل تطوير قانون الأحوال الشخصية,
ثقة بما يمكن أن تقدمه الشريعة للناس, خاصة في بداية الدور التشريعي التاسع الذي تعلق عليه الآمال اليوم في صدور قوانين عصرية تستجيب لحاجة التطور وتلتزم ثوابت الشريعة.
لقد بدا الإنجاز التشريعي للدور السابق في حقل الأحوال الشخصية جد متواضع وقد اقتصر كما قال يحيى الأوس على تعديل سن الحضانة وهي تطوير محدود يقتصر على الانتقال من خيار الشافعية إلى المالكية في رفع سن الحضانة, ولكنه لا يلبي ما تريده المرأة السورية من إنصاف وعدالة.
الشريعة صالحة لكل زمان ومكان شعار نردده كل يوم, ولكن لن يكون لهذا الشعار أي معنى إذا قررت الأمة الهمود والقعود عن الاجتهاد, وكذلك فإن قانون الأحوال الشخصية يسهم في حماية الأسرة, ولكن حمايته ورعايته تتطلب جهوداً مستمرة في التطوير وإلا فإن القعود عن تطوير القانون وبالتالي تغليفه بالتابو المانع للتطور سيؤدي حكماً إلى الإساءة إلى الأسرة وإثبات عجز الفقه عن مسايرة الحياة.
ربما كانت أقرب النقاط الواردة في سياق التطوير هي تأمين سكن الحاضنة, إذ يملك القضاء اليوم وفق المادة 142 من قانون الأحوال الشخصية أن يفرض على الرجل الإنفاق على المحضون, ولكنه لا ينص على إسكان الحاضنة والمحضون, وفي هذه الحالة فإن كثيراً من الآباء القادرين لن يقوموا بأي مسؤولية تجاه أبنائهم باستثناء النفقة وهي لا تشمل بالضرورة الإسكان للحاضنة والمحضون, وقد ترك هذا الأمر على الأريحية للقضاة فمن شاء فرض السكنى ومن شاء لم يفرض السكنى على الزوج للحاضن والمحضون, إلى أن مضى الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض على الأمر بنفقة الإسكان أو استئجار البيت المناسب للحاضنة والمحضون ولكن ذلك ظل محض اجتهاد قضائي لايتمتع بصلابة القانون وتماسكه, وحين يعجز القضاء عن فرض إسكان الحاضنة والمحضون على ولي النفقة فإن معنى ذلك أن عناء كبيراً ينتظر المرأة التي ستحضن في بيت أهلها وهو ما سيحول بكل تأكيد دون توفير جو آمن للطفل المحضون وسيبقي الأسرة في منازعات لا تنتهي, ويستوي في هذه الحالة الحاضنة من زوج غني أو فقير فالأمر بالنفقة لا يشمل ضرورة الأمر بإسكان الحاضن, وهو ما يتمسك به الغني نكاية بالمرأة ورغبة في إكراهها على التخلي عن الحضانة.
هناك إذن حالتان يمكن القانون أن ينصف فيهما المرأة الحاضنة:
الأولى: حين يرفض الغني توفير السكن للحاضنة بدعوى أن القانون لا يلزمه ذلك.
الثانية: الزوج الفقير يرفض توفير السكنى أو يشح في النفقة بدعوى عدم القدرة على ذلك.
وهنا يستطيع القانون أن ينصف المرأة في الحالتين, ففي الأول يتعين النص على أن إسكان الحاضنة والمحضون من مسؤولية الرجل تأسيساً على القواعد الشرعية العامة, وعلى قوله تعالى: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن, والإسكان أصبح اليوم جزءاً لايتجزأ من النفقة, بعد أن تغيرت طبيعة الحياة ولم يعد هناك بالضرورة بيت واحد للأسرة تعود إليه المرأة المطلقة بعد أن أخفقت في استكمال حياة الزواج.
وفي الحالة الثانية فإن إنشاء صندوق النفقة يمكن أن يحل المشكلة حيث يتعين هنا على الرجل أن ينفق بقدر يساره وفق القاعدة القرآنية ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره, وكذلك قول الله تعالى لينفق ذو سعة من سعة ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله, وبالتالي فإن الدولة ملزمة ومن خلال صندوق النفقة أن تستكمل ما قصرت عنه النفقة إضافة إلى التزام الزوج الفقير بما يحقق لوناً من التكافل بين أبناء الأمة لاستيفاء هذه الحقوق التي تقصدها الشريعة.
وهكذا فإن صندوق النفقة مشروع تطويري يتصل بتأمين حاجات المرأة المطلقة, وقد أقره القانون المصري منذ عدة سنوات, حيث تقوم الدولة بتأسيس هذا الصندوق على أساس أن يكون وسيطاً بين المستحق له والمستحق عليه, ويتولى الإنفاق على المرأة المطلقة, ويتلقى الصندوق دعماً من الدولة ويمكنه أن يثمر موارده بما يحقق المزيد من المزايا للمرأة المطلقة.
الحديث عن تطوير قانون الأحوال الشخصية في سورية كان الدافع لعقد عدد من الندوات ربما كان أقربها ندوة مركز الدراسات الإسلامية التي انعقدت الاثنين الماضي, وكانت في الحقيقة فرصة للتأكيد على أن التيار الفقهي قادر على الاستجابة للتطوير والتحديث, إلى حد بعيد.
فقد شارك في الندوة عدد من الفقهاء الإسلاميين المعروفين, ومن مشارب متنوعة, تمثل رأي المدارس الفقهية المتعددة, يجمعها حرص واحد هو التأكيد على هوية التشريع الإسلامية وحماية الأسرة السورية من العبث أو التفريط.
الزميل المحامي غالب عنيز وفي السياق نفسه المحامي أحمد حريب حذر من الإفراط في منح المطلقة هذه المزايا على أساس أن ذلك سيرفع نسبة الطلاق حيث ستشعر المرأة بأن الطلاق لم يعد يكلل بالمخاطر والعناء, وسيهون عليها هنا الطلاق أو طلب الطلاق وربما في النهاية التعسف في إيجاب الطلاق وهي مقاصد لن تعود بالفائدة على المجتمع أو الأسرة.
ومع احترامي للرأي الحقوقي للمحاميين الكريمين ولكن أياً من التحسينات القانونية لن يجعل الطلاق فردوساً تسعى له النساء, وسيظل الطلاق أبغض الحلال وسيظل أقسى أشكال القدر الذي تواجهه المرأة, وسيظل عملنا هنا كمن يرش على الموت السكر.
الشيخ الدكتور حسان عوض والشيخ عبد الرحمن كوكة والشيخ رياض الخرقي وآخرون من خريجي المعاهد الشرعية المختلفة ركزوا على حقيقة أن الشرع معني مباشرة بحقوق الأسرة كلها وليس المرأة دون الرجل, أو الرجل دون المرأة, وأن علينا أن لا نفرط في تحميل الرجال مطالب النساء, خاصة أنا لا نستطيع الموافقة على أن الرجل دائماً هو المسؤول عن عناء المرأة أو طلاقها, مع الرفض الشديد لإلزام الرجل بتأمين سكن للمطلقة غير الحاضن اكتفاء بما ورد في السنة من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن ليس للمطلقة المبتوتة نفقة ولا سكنى, وهو موقف موضوعي كان له أثر حقيقي على تنوير هذه النقطة بالذات والحيلولة دون اندفاع متهور في تحميل الرجل وزراً أبدياً للإنفاق على امرأة قد يكون عانى منها أو عانت منه الأمرين, حتى أذن الله بالفرج, وهنا فقد حسم القرآن الكريم الأمر بقوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله عزيزاً حكيما).
كان ما قدمه الفقه المحافظ والفقه التجديدي متكاملاً في هذه الندوة, وأثرى كل من الاتجاهين مقاصد الآخر, فالرغبة في حماية العفاف الاجتماعي تكاملت مع الرغبة في تطوير المواد القانونية بما ينسجم مع الفقه الإسلامي, وهو موقف يذكرك بالتعاون البناء الذي شهدته الدولة الإسلامية في عصرها الذهبي بين الفقهاء من المدارس المختلفة لأبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي.
ولكن الاتهام جاء هذه المرة من أحد التيارات حين وقف ممثل هذا التيار يتحدث عن وجوب مقاومة أي تطوير من هذا النوع لأنها مطالب أمريكا, وأن أمريكا تأتينا من الخاصرة الرخوة, وعلينا أن نقاوم هذا الانحراف وأن نعري القناع الذي يرتديه تحت عنوان تطوير الأسرة العربية.
وهكذا فيجب نكاية بأمريكا أن تظل المرأة العربية تعاني من كوارث الطلاق, ولا بأس أن تستمر الأسرة لعدة عقود تعاني من قصور تشريعي ظاهر, ويجب أن لا نسمح بتطوير يتناغم مع مطالب المجتمع المدني مهما كان هذا التطوير موافقاً لأهداف الشريعة ومهما كانت الشريعة حكيمة وبصيرة فالأولوية هنا للنكاية بالأمريكيين, ويجب أن يتوقف كل تطوير وتحديث إلى حين الانتصار على المشروع الأمريكي وقهر الامبريالية ودحر الصهيونية وسحق القوى المتآمرة!!
باستثناء هذا الخطاب , فإنني أعتقد أن اللحظة مؤاتية تماماً لمشاريع الإصلاح التشريعي في ظل خطاب إسلامي مستنير أصبح طابع الحياة الدينية في سورية للمحافظين والتجديديين على السواء.