مقالات

د.محمد حبش- الترشح للمناصب العامة في الإسلام 27/4/2007

اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم

اليوم طويت ورقة هامة في عمر الوطن واختار الناس مجلساً جديداً من أبناء الشعب السوري ومضت سنة الحياة آملون وآفلون وتلك الأيام نداولها بين الناس والبقاء لله.
وبالنسبة لي فهو حدث سعيد إذ أعود فيه إلى حبيبتي المحبرة وصديقي القلم بعد جفوة جبرية صارمة فرضتها علي إدارة التحرير في صحيفة الثورة، مذ ترشحت لمجلس الشعب قبل ستة أسابيع، حيث أصرت الإدارة على أن أغيب عن القراء الكرام، مقالة وخبراً، رعاية لتكافؤ الفرص بين الناس ولئلا يكون الإعلام الرسمي منبراً لبعض المرشحين دون بعض، وهو موقف مسؤول يستحق الإشادة والاحترام، على الرغم من أنه جاء عكس هوى النفس، ولكنه جاء وفق نصيحة الأول: وخالف النفس والشيطان واعصهما ، وإن هما محضاك النصح فاتهم.
ولست أدري وأنا أكتب هذه السطور أي السعادتين أكبر، الفوز بمقعد برلماني أم العودة للقراء الذين أحبهم وأحترمهم، فالعلم رحم بين أهله، والكلمة رحم بين أهلها، وعذاب الكاتب يختنق في الصدر ويوشك أن يذهب بنفس كاتبه إلى أن يجري على المحابر نفثاً يتدفق على القرطاس ترتاح به النفس،
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
أين إخوان الصفا أهل الوفا نسهر الليل على لون الشقـائق
نقحـم الأسرار حتى نعرفا ونعيش العمـر في برق الحقائق

والحدث إياه مناسبة لمناقشة فكرة الترشح للمناصب العامة في الإسلام، وهنا نتذكر أول مرشح لمنصب في الإسلام وهو النبي الكريم يوسف عليه السلام حين قال للملك اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ولا شك أن مطلبه هذا جاء بعد مشوار طويل من العناء أمضاه يوسف الصديق في ظلمات السجن بغير ما ذنب أو سبب.
يمكنك أن ترى نمطين من الخطاب النبوي: الأول يحذر من المناصب العامة وينفر من الترشح لها والثاني يدعوك بقوة إلى الإقدام عليها ، فمن الأول قول النبي الكريم لأبي ذر يا أبا ذر إنك تسأل الإمارة وإنك امرؤ ضعيف وإنك إن وليتها وكلت إليها وإن أتتك من غير استشراف نفس أو مسألة أعنت عليها، وفي الحديث أيضاً إنا لا نولي على أمورنا من يسألنا ذلك، ومنه قولهم طالب الولاية لا يولى وطالب الأمارة لا يؤمَّر.
ويقع في الوجه الثاني قول النبي يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ويقع في ذلك أيضاً تنافس الصحابة الكرام على الخلافة بعد الرسول الأكرم وتقديم كل منهم حججه وبراهينه على كفاءته وجهوزيته لخدمة العمل العام.
وعند هذه النقطة تقع المعاناة التي نواجهها في الصراع المستمر بين الظاهرية والفقهاء فهنا يتجه الظاهرية إذن إلى تحريم التصدي للعمل العام ومنع المرشحين من الوصول إلى المناصب الرسمية على أساس أن طالب الولاية لا يولَّى، وتعود المسألة اختياراً ومزاجاً ممن بيده القلم وهو عادة لا يكتب نفسه ولا حاشيته في الأشقياء.
ولا شك أن تأويل هذه النصوص غير متعسر فقد ورد النهي في حق من لم يكن يمتلك الكفاية في الإدارة والقيادة وكان الأصلح له احتناب العمل العام والتفرغ للحكمة والموعظة كأبي ذر، ولكنه لا يعني ضرورة تغييب الأكفاء من المشاركة في الحياة العامة.
يوسف تصدى للعمل العام وقال بثقة وشجاعة اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ولا شك أن الرجل كان يعبر عما يعصف بداخله من مشاعر وخبرات اكتسب بعضاً منها من خدمته في القصر واطلاعه على ملفات الفساد القميء الذي كان يمارسه رجال البلاط ونساؤه، ودفع بنفسه بضع سنين من عمره لبثها في السجن من أجل مواجهة الفساد الذي حاول أن يبتلعه ولكنه كان عصياً عليه وقال بأمانة رب السجن أحلب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين.
أما الخبرة التالية فقد اكتسبها من سنوات تأمله الطويلة في السجن، وهو تأمل كان يحمله على مراقبة ما يجري ولكنه لم يكن يغفل عن معاناة الناس وشقائهم، وكان مع المساجين ناصحاً وواعظاً ومرشداً يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
وفي إشارة لافتة حين جاءه الرسول برؤيا الملك وكان قد رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لم يكن شغل يوسف عليه السلام في المسألة كما سأل اليهود في البقرة ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ ما طولها ؟ ما عرضها إن البقر تشابه علينا، إلى غير ذلك ولكن همه كان في رسم برنامج اقتصادي للدولة يساعد على تجاوز سني القحط العجاف، ولذلك جاء تأويله مباشرة على شكل برنامج اقتصادي حقيقي تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وهكذا فلم يكن يوسف الصديق إذن مجرد معبر للأحلام والرؤى يتكئ على كراسات ابن سيرين، ولا على الأبراج التي ترسمها نجوم الشعوذة على الفضائيات العربية، بل كان في الواقع صاحب رؤية واضحة يتجه فيها إلى بناء اقتصادي متين.
إنه لا ينبغي أن نظن أن السجن نهاية العالم ، وحين يكون السجين سجين رأي أو كلمة فإن عليه أن يحمل على عاتقيه رسالته المفعمة بالأمل، وعلى الرغم من ظلمات السجن والبئر التي كابدها يوسف عليه السلام ولكنه ظل يقول ينظر بمسؤولية إلى العالم من حوله وعلى الرغم من الزنازن المظلمة من حوله، ووجوه المجرمين والجلادين التي يتصبح بها ويتمسى فإنه ظل يقول: تزرعون وتحصنون وتحصدون!!، وكان مؤمناً غاية الإيمان أن المستقبل لرسالة الأمل والحب والحياة، وأن الله خلق العالم من أجل نهاية سعيدة، وكن جميلاً ترى الوجود جميلاً.
لم يكن هناك شيء في الدنيا يمكن أن يسلب من يوسف الصديق روح الأمل والعمل التي انطبعت في وجوده مذ رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين.
وحين وقف في يوم انتصاره العظيم على عرش مصر ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، فإنه لم ينظر بعين حاقدة أو ناقمة، ولم يهز عطفيه على روح التشفي والانتقام، ولم يذكر من أيام عنائه ما يجرح قلوب خصمائه، فقال بأمانة يا أبت هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ، فذكر السجن ولم يذكر البئر مع أن ما لقيه في البئر كان أقسى وأخطر، ولكنه أراد أن يحفظ لهم كرامتهم فهم من ارتكب جريمة إلقائه في البئر وإن كانوا بوجه من الوجوه شركاء أيضاً فيما لقيه من عناء في السجن، ثم جعل نزغ الشيطان مصدر الفتنة ولم يشأ أن يبرئ نفسه من نزغ الشيطان مع أنه مبرأ منه بل بدأ بنفسه فقال نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، وفي ذلك غاية الإلطاف والترفق بإخوته الذين حاربوه بمنتهى الشراسة ليحولوا دون نجاحه وتفوقه.
هل أدركنا هنا لماذا إذن يستحق يوسف أن يستخلصه الملك لنفسه وأن يقول له إنك اليوم لدينا مكين أمين، وحين ينال ثقة الناس واحترامهم، ويثبت حسه الوطني بثقة وأمانة فإن من حقه أن يقول: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.

Related posts

د.محمد حبش- لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني 1/12/2006

drmohammad

د.محمد حبش- الطب النبوي… معرفة وعلم، وليس عجائب وأسرار 13/2/2009

drmohammad

الصادق المهدي… أستاذ الدراويش.. وفيلسوف الحرية

drmohammad

Leave a Comment