مقالات

د.محمد حبش- الإسلام والخيار الديمقراطي 9/3/2007

ظل إشكال علاقة الإسلام بالديمقراطية يؤرق الباحثين منذ أمد بعيد بهدف الوصول إلى مشترك حقيقي بين الإسلام والديمقراطية، ومضى كثير من الكتاب الإسلاميين إلى تبني التناقض المطلق بين الإسلام والديمقراطية واختاروا رجم الديمقراطية بالحجارة كما لو كانت سلعة أمريكية يتعين مقاطعتها في غمار حملة مقاطعة البضائع الأمريكية.

وهكذا أصبحت الديمقراطية تقدم اليوم كما لو كانت منتجاً غربياً استعمارياً يراد فرضه على المنطقة، خاصة بعد المشروع الأمريكي الدموي في العراق الذي يستعمل شعار نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويمارس ما يمارسه أبشع الجلادين في القهر والبغي، الأمر الذي أدى إلى ريبة وتحفظ في الشارع الإسلامي من مشاريع نشر الديمقراطية.
إن ما نتجه إلى تقريره هنا هو أن الديمقراطية في مؤداها العالمي ليست منجزاً إقليمياً ولا يحق احتكارها فلسفة ولا منشأ ولا تطبيقاً لأي شكل من أشكال النظام السياسي في العالم، وعلينا إدراك أن الديمقراطية وحقوق الإنسان منجز إنساني عالمي دفع الإنسان خلال التاريخ ثمنه بدمه وكفاحه، واشترك في إنجازه وبنائه، ومن حق سائر الأمم أن تنعم بما تم إنجازه في هذا السبيل على أساس أنه تراث عالمي متاح لكل شعوب الأرض.
ولإدراك هذه الحقيقة يتعين أن نجري قراءة تحليلية للعلاقة التشريعية بين النص الديني ومصالح الناس المعتبرة التي أنتجت الديمقراطية، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الإسلام ديمقراطياً أو تكون الديمقراطية إسلامية، وهل الديمقراطية والإسلام مصطلحان متقابلان بحيث يتعين الترجيح بينهما، أم أنهما مصطلحان متوازيان لا يلغي أحدهما الآخر ويمكن أن يتعاونا على تحقيق مصالح الناس.
وبغض النظر عن اشتقاق الكلمة وجذورها ومنابتها فإن من الممكن القول بأن الديمقراطية خيار أممي تنضوي تحته الإنجازات الإنسانية الكبيرة في إطار الحرية والعدالة والمساواة، ويلتقي عنده كفاح الإنسان في مقارعة الاستبداد.
ومع أن تياراً أصولياً لا يزال يرى في الديمقراطية انحرافاً عن الأصول الإسلامية أو عدواناً على النص، أو خرقاً لمبدأ الحاكمية، فإن ما يمكن تقريره هنا بثقة هو أن هذا التيار آخذ في الانحسار، وأن بقاءه مرهون بهمود الوعي بحيث تكون النتائج مختلفة إذا تم التنوير.
وقد ظهر ذلك في ما كتبه كثير من الكتاب الإسلاميين في الخمسينات والستينات من قراءة نقدية للديمقراطية على أساس أنها معارض حتمي لمنطق حاكمية الله، وأنه لا يمكن القبول بحكم النص الديني والاحتكام إلى إرادة الشعب في آن، ذلك أن إرادة الناس منبثقة في الغالب من الهوى وهو ما يتعارض بشكل حاد مع الشريعة الإلهية المنبثقة عن مصدر مختلف تماماً هو الوحي!
وهكذا فإن بعضهم ذهب إلى حد القول إن العدالة والمساواة وغير ذلك من القيم الإنسانية النبيلة ما هي إلا انحرافات عن هدي الوحي الذي يدل ظاهره على عدم المساواة بين الرجل والمرأة وبين الحر والعبد وبين المؤمن والكافر، وأن البحث عن إرادة الأغلبية هو جحود لمنطق القرآن الكريم: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقوله: وإن تطع أكثر من في الأرض جميعاً يضلوك عن سبيل الله.
وصرح بعضهم بالقول: إن الديمقراطية هي وثنية القرن العشرين، وأن البرلمانات هي الأصنام الجديدة!
وبالمقابل فقد أطلق منكرو الوحي خطابهم في الحكم على الإسلام بأنه معاد للقيم الإنسانية وأنه غير معني بالمساواة في الأرض، وراحوا يستحضرون الدليل تلو الدليل على الاستبداد الذي وقع في التاريخ الإسلامي، للتدليل على أنه كان نتيجة اعتماد خيار الوحي وتنكب الخيار الديمقراطي!
إن المشكلة تتمثل في أننا نعمد إلى منهج انتقائي في قراءتنا للتاريخ الإسلامي بحيث نعمد إلى أشد الآراء تطرفاً وظلامية فنحمل الأمة بأسرها وزر ذلك، وكأن ليس في التاريخ الإسلامي غير هذا الخيار، وفي مسألة الديمقراطية فإن ما يستحضره العلمانيون من مخاوف على الحريات والديمقراطيات إنما يتبدى من شعار مثل لا حكم إلا لله، وهو بالضبط الشعار الذي تقاتل اليوم تحت لوائه اليوم الحركات الراديكالية في العالم الإسلامي، وهو ما أسس مباشرة لثقافة الإلغاء والإقصاء ولموجات متلاحقة من العنف والعنف المضاد الذي اصطلى به العالم الإسلامي في العقود الأخيرة وهي ذكريات مرة دامية لا يريد أحد أن يتذكرها في الخيال فضلاً عن استدعائها في الواقع.
ولكن شعار لا حكم إلا لله على طهارته ومصداقيته هو شعار حاربه الوعي الإسلامي إبان الرشد وخاض الإمام علي حرباً ضروساً في مواجهة الخوارج دفاعاً عن حقوق الناس في الحريات والإرادة الشعبية، مع عدم الاعتراض على الشعار من جهة المبدأ، وهو ما قال عنه الإمام علي: كلمة حق أريد بها باطل .
إن التنوير الإسلامي عاش مصاحباً لحركة الفكر في الإسلام ومضت حركة ترجمة العلوم والمعارف الإنسانية وهي في قماطها اليوناني والسرياني على يد أبرز الخلفاء الأمويين والعباسيين، إلى حد زنة الكتاب المترجم بالذهب، على الرغم من أنه بداهة قد يكون طافحاً بمعارضات حادة مع أساسيات العقائد الإسلامية، والأمر نفسه كان في مكتبات الأديرة والمعابد التي كانت طافحة بثقافات الشرق المسيحي السرياني والآرامي واللاتيني ولم تمتد إليها يد إساءة على الرغم من اشتمال كتب كثيرة منها على عقائد التثليث والأقانيم وقدم العالم، وذلك كله مخالف للشريعة، ومع ذلك لم يمسسه المسلمون بسوء، وبقاؤها إلى اليوم حاضرة شاهدة خير دليل على ذلك الانفتاح الذي عاشه المجتمع الإسلامي أيام الرشد وهو أولى بكل تأكيد في الاعتبار من الأساطير التي راجت عن إحراق المسلمين لمكتبة الإسكندرية وهي الأساطير التي تورط في روايتها للأسف مؤرخ محترم كديورانت، ومضى ذلك إلى حد تقبل العقل الإسلامي وجود فلاسفة إسلاميين كبار كانوا لا يكتمون ميولهم المشائية، كالكندي والفارابي وابن سينا، بل إن هذا الأخير منح لقباً هاماً ذا مغزى حين سمي بالمعلم الثاني، وأصبح الحديث عن المعلم الأول واضحاً في الإشارة إلى أرسطو، على الرغم من التفاوت الهائل من الجانب الفكري بين كل من الاتجاهين الإسلامي واليوناني .
لقد ظلت العلوم الكونية لعدة قرون علوماً مسيحية أو صابئية، وسجل لهم في هذا السبيل إبداع كبير، وبسبيل من ذلك ترد أسماء كبيرة مثل حنين بن إسحاق، وحنين بن ماسويه، ويوحنا بن بختيشوع، وجبرائيل بن بختيشوع، ويوحنا بن ماسويه، وإسرائيل بن زكريا الطيفوري، وغيرهم، ويرجع ذلك إلى معرفة هؤلاء باللغات السريانية واللاتينية واليونانية التي كانت تحتوي على معارف الطب القديم .
بالطبع فإن هذه الإنجازات الديمقراطية الهائلة ينظر إليها المتشددون على أنها تفريط من الحكام بإقامة حدود الله، وأن هؤلاء الحكام اختاروا مرجعية العقل بدل مرجعية النص وكان عليهم أن يقاتلوا الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وليس أن يجاملوهم وفق الشروط الديمقراطية، على الرغم من أن الشريعة طافحة بنصوص الرحمة والإحسان إلى الخلق بدون تمييز، قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
إن حالة الانفتاح و(الديمقراطية) التي قدمت شواهدها هنا كانت دائماً تواجه مداً ظاهرياً يشتد آناً، ويهن آناً آخر، ولكن يجب التأكيد في الواقع أن هذا التيار التجديدي الانفتاحي هو الذي كتب له النصر أيام مجد الحضارة الإسلامية وأن الاتجاه الظاهري الماضي إلى إلغاء الآخر وتطبيق ظاهر النص بدون اعتبار المصالح هو تيار منهزم عبر تاريخ المجد الإسلامي؟
وباختصار فإن القيم الديمقراطية ليست في الحقيقة إلا خلاصة ما أنجزه الإنسان في كفاحه من أجل العدالة والمساواة، وهي ليست احتكاماً إلى الشعب ضد إرادة الله، وإنما هي اكتشاف إرادة الله من خلال خيار الجماعة، أو البحث عن حكم الشريعة من خلال الإجماع، وهو فقهياً لا يبعد كثيراً عن نظام الأغلبية الديمقراطي، إذ الإجماع لا يشترط فيه عدم وجود مخالف، ولا شك أنها بهذا المعنى تتلاقى مع ما بشر به الإسلام، ولا يصح أبداً طرح السؤال على صيغة: الإسلام أم الديمقراطية، بل يتعين القول: الديمقراطية من أجل إقرار القيم الإسلامية، أو الإسلام من أجل ترشيد الديمقراطية.
أتمنى أن يكون الاستحقاق الديمقراطي القادم في سوريا مناسبة لإطلاق حملة من الوعي بالعلاقة التكاملية بين الديمقراطية والإسلام.

Related posts

أحلام سوري في مطار سنغافور

drmohammad

د.محمد حبش- ماذا يفعل السوريون في أمريكا 2/6/2006

drmohammad

د. محمد حبش- محمد في ضمير العالم 14/4/2006

drmohammad

Leave a Comment