أما تسمية بلاد الشرق البعيد فنحن مدينون فيها للعزيز السفير بشار الجعفري الذي عمل في السفارة السورية في أندنوسيا وخلال خدمته كتب موسوعة هائلة عن تاريخ أندنوسيا وأرخبيل الملايو بعنوان أولياء الشرق البعيد، ومن خلالها فتح أذهاننا على التاريخ العجيب لأندنوسيا وانتقالها إلى الإسلام على يد تسعة رجال من أصل حضرمي قدموا الملايو تجاراً ولكنهم نجحوا من خلال تعاملهم في تأسيس اكبر دولة مسلمة العالم يعيش فيها أكثر من مائتي مليون مسلم.
ولتمام المعلومة فإن أسماءهم على التوالي كما يحفظها الأندنوسيون جميعاً:
كان أولهم مولانا ابراهيم، المتوفى عام 1477 ميلادية، وسونان جيري بن إسحق ومولانا ابراهيم بن أحمد رحمة ،وسونان درجات، وجعفر الصادق وسونان براووتو، وسنان كالي جاكا، ومولانا رادين عمر سعيد، أما آخرهم فهو مولانا شريف هداية الله الذي توفي عام 1568 ميلادية، وخلال هذه الفترة تمكن هؤلاء القادة التسعة من نشر الإسلام في ربوع أرخبيل الملايو الذي يسكنه اليوم نحو 300 مليون مسلم .
حين تلقيت الدعوة للمشاركة في المؤتمر الدولي لعلماء المسلمين الذي ينعقد في جاكرتا، كان المشرفون على المؤتمر قد أدرجوا اسمي متحدثاً رئيسياً في المؤتمر وقد حددوا سلفاُ عنوان المحاضرة التي سألقيها وهو دور الطبقة السياسية في صناعة السلام وحل النزاعات، سوريا نموذجاً.
بروتوكولياً لا يستقيم إدراج برنامج بدون سؤال المشاركين فيه ولكنني وجدت نفسي مدفوعاً للمشاركة في المؤتمر بدوافع عدة أولها بالطبع إنها اندنوسيا البلد الإسلامي الأكبر في العالم، حيث يعيش أكثر من مائتي مليون مسلم في بلد واحدة، وهم يحتفلون بإحياء تراث الإسلام ومعالمه الكبرى ومن حقهم أن نكون إلى جانبهم في حدث كبير كهذا.
أما الأمر الآخر فهو فرحي باختيار هذا المحور حيث أصبحت التجربة السورية مثار اهتمام العالم في نجاح الإدارة السياسية في تجنب الحروب الأمريكية في المنطقة وبالتالي تجنب الفتن الداخلية التي هي ضرورة لازمة من تداعيات الاحتلال الذي يعصف عن شمال سورية ويمينها.
سوريا نموذجاً هكذا يقرا العالم بلادي قلت للشيخ العلامة وهبة الزحيلي الذي سعدت بصحبته في المؤتمر إنه أمر رائع أن تكون سوريا هو النموذج الذي يعرفه العالم في وعيه برسالة السلام وفض المنازعات، قال لي وكذلك كان تاريخ الشام منذ أن سماها النبي الكريم فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى، وظلت خلال الفتن التي عصفت بتاريخ العالم الإسلامي مأوى للمضطهدين في الأرض من مقادسة وكرد وقوقازيين وأرناؤوط وبوسنيين وفلسطينيين وعراقيين وأرمن، وفي ذاكرة كل هجرة هنا في جبل المهاجرين حكايات طويلة عن المعاناة من القهر التي واجهها المظلومون قبل أن تحتضنهم ارض الشام الشريف في جبل قاسيون الذي سمي بوضوح جبل المهاجرين.
هناك اليوم هجرات كثيرة في العالم ولكن معظمها كان بدوافع اقتصادية ويعيش اليوم أكثر من ستين مليوناًً من الغرباء في الجزيرة العربية ولكنهم لم يأتوا مظلومين أو مضطهدين وإنما جاؤوا ابتغاء رزق أفضل، أما الهجرات إلى سوريا فقد كانت في الغالب خلاصاً من سكينة الموت وقد جعل الله الشام مثابة للناس وأمناً وقال العارفون: أولها شام وآخرها شام.
ولا شك أن تساكن هذه الشعوب على اختلاف طباعها وخلفياتها الثقافية والمذهبية والدينية لا بد أن يبعث بعض أسباب الصراع في المنطقة، وبالفعل فقد شهدت الشام الشريف بعض الخلاف والنزاع بين تيارات تنتمي إلى الإسلام، وشهدنا في الشام صراعاً بين الأصولية والعلمانية وبين الصوفية والسلفية وبين السنة والشيعة.
ولكن سوريا تمكنت بالمساعدة والتعاون بين القادة الدينيين والسياسيين من إطفاء هذه الفتن وقامت بتحويلها إلى طاقة خلاقة بناءة في المجتمع، ونحن هنا مدينون لمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، وهذا يختلف تماماً عن منطق الفصل بين الدين والتشريع أو بين الدين والحياة، وإنما هو تحرير لقيم الدين الفاضلة من الارتباط بالمآرب السياسية، ليبقى الإسلام مظلة للجميع لا يحتكره أحد عن أحد.
إن وجود الدين في الحياة تعاظم في سوريا وأصبح الانتماء إلى الإسلام قاسماً أعظم بين كافة أبناء البلد وازداد احترام سائر التيارات للقيم الدينية بمن فيهم الشيوعيون والمسيحيون وأبناء التيارات المختلفة وذلك نتيجة لحماية الدين من المآرب السياسية والإصرار على منحه موقعاً فوق السياسة يتناسب مع المصدر السماوي الذي جاءت منه هذه الشريعة الخالدة.
إن قيام هذه الحقيقة كانت نتيجة لقيام شخصيات إسلامية راشدة، تتبنى الإسلام المستنير، الذي تولى بدوره شرح قيم الإسلام العادلة، وواجه تيارات التطرف والتكفير على أساس من أدلة الشريعة وبراهين الكتاب والسنة، وهي بلا شك براهين تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الله على بصيرة، وترفض التطرف والتكفير والانحراف .
إن الإسلام المستنير لا يصنع بقرار حكومي، ولا يمكن إنتاجه في مجلس الوزراء إنه ينشأ حقيقة في المدارس الإسلامية العريقة، وخاصة في تلك المدارس التي تحافظ على قدر أعلى من التربية والعرفان في سلوك تلامذتها، وهكذا فإن البيئة السامية لقيم الإسلام تسهم في انفتاح العقل إلى مقاصد الشريعة، وتجاوز الفقه الظاهري الذي يقف عند منطوق النص من دون أن يدرك المقاصد الكبرى للشريعة.
قلت لهم إن صناعة السلام ليست جهداً عسكريا وأمنياً، بل هي أيضاً مسؤولية ثقافية في المقام الأول، وعلينا أن نراقب المنهج التعليمي الذي يتلقاه الطلبة، ويجب أن يكون هذا المنهج منسجماً مع قيم الإسلام في الحب والمرحمة، وأن نحول دون تسلل الأفكار المتطرفة إلى المناهج، أياً كان شكل هذا التطرف وأياً كانت أدواته ووسائله.
ويقتضي ذلك جهوداً مشتركة بين القيادات السياسية والقيادات الدينية التي يجب أن تدرك خطورة الفكر المتطرف وضرورة مواجهته مهما تدثر بنصوص من التراث وتطبيقات من السلف، فالأولوية هنا لقيام أمة راشدة آمنة، وحماية المجتمع برمته من تبعات التطرف والتمييز، وليست الأولوية في الانتصار لبعض فتاوى السلف مهما كانت أقدارهم ومنازلهم، وحين نعيد ترتيب الأولويات فإننا سنجد قيم الإسلام الراشدة في تحقيق العدالة وتوفير حرية التدين ونبذ الإكراه في الدين هي القيم الغالبة، وهي كافية لبناء مجتمع آمن وبالتالي لصناعة مستقبل راشد لأبناء الأمة.
إن التشريعات في سوريا تنص صراحة على أن إهانة المقدس الديني لأي طائفة هو مساس مباشر بالوحدة الوطنية، وهو بالتالي عمل يعاقب عليه القانون، وعلى الأمة أن تواجهه بالسبل والوسائل الممكنة، بما فيها القضاء والمحاسبة المدنية والوظيفية، وهكذا فقد اعتادت سوريا على تعايش الطوائف والمذاهب والأديان بالمحبة والتكامل والتناصح والمرحمة كما تقتضيه شرائع الإسلام.
ويمكنني القول الآن أن سوريا تعيش واقعاً من الإخاء الديني والاستقرار الاجتماعي يصلح أن يكون نموذجاً في البلاد التي تتعدد فيها الأعراق والأديان والمذاهب.
أما اختياركم لسوريا نموذجاً لدور الطبقة السياسية في صناعة السلام وحل الصراعات فلا يمكن فهمه دون التأمل في سياسة الرئيس بشار الأسد الذي واجه خلال حكمه أكثر من أربعة حروب كانت أمريكا تحاول زج سوريا فيها، ولكن مواقفه وحكمته حالت دون إقحام سوريا في هذه الحروب الأمريكية الصنع في لبنان والعراق.
مع أن المشاركين في المؤتمر كانوا من واحد وسبعين بلداً حول العالم ما يجعل المؤتمر واحداً من أكبر المؤتمرات الدولية في العالم، ولكن خيار المؤتمر وقع على سوريا ودراسة حكمة القيادة السياسية في رفض التورط في الحروب الأمريكية وبناء جبهة داخلية عصية على الفتن.
لقد قدمت رسالتي في المؤتمر في بلاد الشرق البعيد وبقي لدي كلمة أحب أود أن أقولها لأهلي في الشام في مراكز التوجيه الديني خصوصا.ً
إن قرار الوحدة الوطنية قد اتخذ سياسياً وقامت القيادة بحمايته بوجه يستحق الثناء، ولكنني أعتقد جازماً أن الوحدة الوطنية الحقيقية هي شيء يصنعه الجمهور وتتولاه بشكل خاص القيادات الدينية والتربوية التي تتعامل مع تلك التناقضات التي لا يصل إليها القرار السياسي، ولكنها أكثر خطورة وأهمية من أي شيء آخر.
نهضة العلماء هو اسم الحزب الأندنوسي الأكبر، إنه حزب يضم نحو أربعين مليوناً من الأندنوسيين ويتبنى حلاً إسلامياً لمشاكل أندنوسيا، وباستثناء الصين فقد يكون نهضة العلماء أكبر حزب في العالم، وهو الحزب الذي نظم هذا المؤتمر الدولي الهائل.
قال لي هاشمي موزادي زعيم جمعية نهضة العلماء: نحن نرى سوريا نموذجاً لصناعة السلام، ولكن لسنا نتبع من سوريا مذهبها السياسي فقط، بل إنها تسكن في عمقنا الروحي والعاطفي كدولة تتبع مذهب الإمام الشافعي، إن أمنيتي أن أزور سوريا يوما وأزور قبر الإمام النووي الشافعي في حوران!!