مقالات

د.محمد حبش- مكتبة الإسكندرية العظيمة…7/3/2008

أستعير هذا العنوان من كتاب الشيخ المجدد جودت سعيد، فقد اختاره عنواناً لكتاب له قديم تحدث فيه عن سنن الله في الآفاق والأنفس مؤكداًً أن الشريعة جاءت لتنقل الناس من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن، وأن سبيل معرفة ذلك هو القلم والقرطاس، الذي به اقتحم الإنسان أبواب المعرفة.

أما اهتمامي اليوم بكتابة مقال من هذا النوع فهو مشاركتي الأسبوع الماضي في مؤتمر الإصلاح العربي الخامس الذي انعقد في مكتبة الإسكندرية.
ومع أن ما جرى في المؤتمر بالغ الأهمية والدلالة، حيث اجتمع مئات الباحثين والمفكرين من البلاد العربية لمناقشة قضايا الإصلاح العربي، ولكن لا أعتقد أن القلم سيفسح لي للكتابة في مضمون المؤتمر حيث لدي كلام كثير حول دور مكتبة الاسكندرية وهو ما أعتقد أن من حق الناس أن يعرفوه ويتأملوه، ودعني أعترف لك بأنني قبل خمسة أيام فقط لم أكن أعرف شيئاً عن هذا الصرح الحضاري العربي المذهل.
وإذ أكتب هذه الفقرات عن مكتبة الاسكندرية فإنني أتمنى أن يقرأ السيد وزير الثقافة والسيد مدير مكتبة الأسد الوطنية هذا المقال حول تجربة أتمنى أن تنضج في سوريا وتسعد بها المعرفة في أرض الشام الشريف.
كانت مكتبة الإسكندرية الملَكية أكبر مكتبات عصرها، ويعتقد أنّ تأسيسها كان بأمر بطليموس الثاني، في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، وهو أحد خلفاء الاسكندر الأكبر منذ أكثر من ألفى عام لتضم أكبر مجموعة من الكتب في العالم القديم والتى وصل عددها آنذاك إلى 700 ألف مجلد بما في ذلك أعمال هوميروس ومكتبة أرسطو، وضمت تالياً إبداعات أرخميدس وإقليدس وغيرهم من عمالقة مصر في التاريخ، ولكن المكتبة احترقت ودمرت تماما أثناء حصار يوليوس قيصر للمدينة ، حيث أرسل سفنه الحربية عام 48 قبل الميلاد لتدمير سفن دولة البطالمة المرابطة هناك .
ومع أن المكتبة أحرقت قبل الفتح الإسلامي بزمن بعيد، ولكن الغربيين لم يكفوا عن اتهام المسلمين بأنهم أحرقوا المكتبة وفق أسطورة تتناقض تماماً مع قيم الإسلام وفيها أن عمر بن الخطاب أمر بإحراقها لأن القرآن يغني عنها، ولكن الأوروبيين أنفسهم تكفلوا بالرد على هذه الفرية الظالمة حيث قال غوستاف لوبون: وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم، فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب والمسلمين، والتي تجعل المرء يسأل:كيف جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمنًا طويلاً ؟! وهذه القصة دحضت فى زماننا، ومن المؤسف أن يتناقلها مؤرخ محترم كول ديورانت نقلاً عن عبد اللطيف البغدادي في حين أنه يشير باحترام إلى دور الفتح الإسلامي في احترام الحضارة الإنسانية.
على كل حال لم يبق اليوم لهذا الرأي من يؤيده في زحمة التراث العالمي، خاصة بعد أن عرف العالم أن الخلفاء كانوا يدفعون وزن الكتاب ذهباً لمن يترجم لهم بشكل خاص من كتب الحضارة اليونانية.
وظل الحلم في إعادة بناء مكتبة الاسكندرية القديمة وإحياء تراث هذا المركز العالمى للعلم والمعرفة يراود خيال المفكرين والعلماء في العالم أجمع .
وفي عام 2002 تم إنجاز المبنى الجديد لمكتبة الاسكندرية، بتعاون دولي غير مسبوق بين اليونسكو والحكومة المصرية وعدد من الدول المتحضرة في العالم المهتمة بالتراث الإنساني، وأعلن في الاسكندرية عن إنجاز المبنى الجدد، مكتبة تتسع لأكثر من ثمانية ملايين كتاب، ست مكتبات متخصصة، ثلاثة متاحف، سبعة مراكز بحثية، معرضين دائمين، ست قاعات لمعارض فنية متنوعة، قبة سماوية ، قاعة استكشاف ومركزا للمؤتمرات، وعدة متاحف مرافقة، ولوحات ومجسمات تخلد تاريخ مصر ورجالها وأعلامها وإبداعها، وتاريخ الكتاب والمطبعة والورق والقلم.
ليست مكتبة الإسكندرية مجرد مخزن للكتب وقاعة محاضرات إنها في الواقع نبض الثقافة المصرية وبشكل ما فهي نبض الثقافة العالمية، فالمؤتمرات لا تهدأ على حواشيها وهي نفسها صاحبة أكبر مشروع تنويري في الإسكندرية، وفيها سلسلة متاحف بالغة الأهمية في الحالة الثقافية في مصر، وفيها مجموعة نادرة من المجسمات والماكيتات لتاريخ الطباعة والكتابة وفيها عشرات المنحوتات لأعلام الثقافة والفكر في مصر وفيها نحو عشر قاعات متخصصة للمحاضرات تعمل جميعها في وقت واحد، أما أفواج السائحين فلا تهدأ سائر النهار وهي مفتوحة للزوار، ولا يوجد لها أبواب خارجية ولا حرس ولا خاطر ولا دستور، يمر فيها الناس كل يوم ويقدر عدد الذين يمرون يومياً في مكتبة الإسكندرية بأكثر من خمسين ألف إنسان، فهي في منتصف المدينة ومفتوحة المسارب من الجانبين وعادة ما يحط الناس بها للراحة وشرب الشاي والتأمل في وجوه الباحثين.

إن كل هذه الأعداد من البشر لا تؤثر أبداً على صفاء البحث العلمي فالقاعة العملاقة التي تمتد على مدى نحو تسعة أدوار وهي مفتوحة بالكامل بعضها على بعض أكبر من أن تتأثر بدخول وفد سياحي وهي قادرة على ابتلاع ألوف الزائرين يومياً من دون ان يفسد الجو المعرفي الذي ينشده الباحثون حول طاولاتها المتقابلة، وهيبة المعرفة فيها ترغم الداخل على احترام المعرفة والزمن والكتاب، وتمسح المشهد بلون من جلال المعرفة وقوة الحقيقة.

لا أشك أن المكتبة لو كانت من تصميم محلي لكانت على غير هذا السياق كله، حيث لا ثقة على الإطلاق بالأمن الالكتروني والكاميرات الديجيتال بل سيبقى الرقيب المفتول الشوارب المشحون بسوء الظن والريبة من العباد على أبواب المداخل الحديدية، يمارس التفتيش والتنبيش على الداخلين، والرقابة على المتعاملين، وسيظل الحصول على الكتاب مرهوناً بطلب يقدمه الباحث مشفوعاً بمفصل هويته، ولا بد من النظر في سجل الطالب لمعرفة أهداف ما يريد الوصول إليه من الكتاب، وفي كثير من الأحيان سيكون جواب طلبه أن الكتاب محجوب، وربما يتعرض للمساءلة في الأٍسباب الخفية التي دفعته للتفكير بالاطلاع على هذا الكتاب، وما إذا كان هذا الطلب مدفوعاً من جهات خارجية وما إذا كان مرتبطاً بالامبريالية أو الاستعمار!!

لقد استطاع المصممون النرويجيون في شركة سنوهيتا العملاقة، أن يجعلوا الكتاب محور الحياة، وصمموا المكتبة على صورة قرص الشمس في انطلاق سطوعها وهو خير تعبير عن رسالة الكتاب، الذي يمنح العالم العافية والدفء والنور، والذي يتجلى بمجد الله حين يطلع شمسه على الصالحين والأشرار، وتماماً كما الشمس لا يحتجب نورها عن الناس فإن الكتاب ينبغي أن لا يحجب عن الناس، إن المعرفة هي الحاجة العليا للبشرية، ومن حقها أن تكون من الحرية والعافية بحيث لا يصدها عن الناس شيء.

مع أن النرويجيين شرحوا تصميمهم على أساس منطق هندسي معماري محض، ولم تكن لديهم أي معرفة بنصوص القرآن، ولكنني في الواقع قرأت تفصيل ما صنعوه في مطلع سورة اقرأ، فقد أمر الله بالقراءة في أول خطاب للوحي إلى الأرض وأمر به النبي الأكرم وهو أمي، وحين أمره بالقراءة أطلق المفعول به فلم يذكره، وحذف المعمول إيذان بالعموم، فيشمل كل قراءة نافعة، ولا يختص بعلم دون علم، ودفعك للقراءة باسم ربك وفي ذلك تبرئة للمعرفة من الغرض المادي فهي معرفة لوجه ربك الذي خلق، ثم أشار إلى عجائب الخلق من علق، في تحفيز مباشر لتحصيل المعرفة البيولوجية، ثم دعاك مرة أخرى للقراءة فقال اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، وبذلك فقد خلد رسالة القلم في نشر المعرفة، معززاً سرمدية الحاجة إلى التعلم، ولا يزال المرء عالماً ما تعلم فإذا قال إنه قد علم فقد جهل، وهي حقيقة شرحها الإمام علي رضي الله عنه بقوله:
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي
وإذا ما زدت علماً زادني علماً بجهلي

الخزائن كلها متاحة للزائر الذي يصل إلى المكتبة بأقل قدر من الروتين، ويتم تأمين التعامل مع الكتاب نفسه وليس التعامل مع بطاقات الكتاب، إن خزائن البطاقات عنصر مساعد للإحصاء والتعريف، ولكنها بكل تأكيد لا تسمن الباحث ولا تغني من جوع، فالباحث يشتد ولعه بلمس الكتاب وتقليب صحائفه حيث لا يغني خبر عن بصر.

أما مركز الشاي والاستراحة فهو متاح للعابر والسائر وحين يجتمع الناس فيه فإن فرصة الترويح عن النفس تصبح أكثر واقعية للباحث، وهذا بالطبع يزيد من الرجل الوافدة على المكتبة ويعزز موقع المكتبة في الثقافة الشعبية، ولن يكون ذلك أبدأ على حساب العمق البحثي الذي سيجد بكل تأكيد قاعاته الخاصة وأجواءه العلمية البحتة.
في مقاهي الروتانا والهافانا يلتقي المتعبون على شيء واحد هو التسلية عن النفس والترويح وقتل الفراغ ولكن عندما يصبح الترفيه في حرم المكتبة الوطنية فإن الناس لن تنسى أن الكتاب هو جوهر المسألة كلها وأن هذه المرافق نشأت لخدمة الكتاب، وتلقائياً سيقود هذا التقليد الناس إلى الدخول في ملعب الكلمة ذات يوم.

إنها دعوة للعودة إلى عالم الكتاب والاعتراف بأن وسائل العولمة على اختلاف أدواتها لا يجوز أن تحل محل الكتاب، الذي هو بشهادة التاريخ سيد المعرفة وأبو الحضارات، وهي دعوة كتب حروفها شاعر العرب المتنبي:
أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الأنام كتاب
وللسر منه موضع لا يناله نديم ولا يفضي إليه شراب

عزيزي .. لم أستطع أن أدخل معك إلى جوهر مؤتمر الإصلاح العربي الذي انعقد في مكتبة الاسكندرية، فقد أمضيت الوقت في الطواف حول عجائب المكتبة أما مؤتمر الإصلاح نفسه الذي شاركت فيه فلعلي أفرده بمقالي الأسبوع القادم.

Related posts

د.محمد حبش- رمضان انقلاب اجتماعي كامل يطال كل مناحي الحياة 11/2005

drmohammad

الإسلام بالأرقام

drmohammad

د.محمد حبش- الإسلام والغرب…. المشترك بين رسالات السماء 29/5/2009

drmohammad

Leave a Comment