مقالات

د.محمد حبش- جهاد من أجل استقلال سوريا..من مؤتة إلى اليرموك إلى ميسلون18/4/2008

كان من الوفاء لسوريا أن تقوم محافظة دمشق بترحيل تمثال الفلاح الذي يحمل الشعلة من ساحة يوسف العظمة (المحافظة) إلى اتحاد الفلاحين في منطقة الفحامة، وأن يفسح المجال لتمثال يوسف العظمة ليكون في وسط دمشق شاهداً حياً على منزلة الفداء والشهادة في بناء الاستقلال.
ومع ذلك فمن الواجب القول إن التمثال الذي انتصب في ساحة يوسف العظمة ليس الصورة المناسبة لبطل الاستقلال يوسف العظمة فالرجل يبدو كما لو كان شاويشاً مرهقاً من طول المراقبة والسهر، وليس في ثناياه توثب يوسف العظمة وثورته ولهيبه، ولا يوحي لك بشيء من ثورة ميسلون التي أحرقت السهل والجبل وسجلت عند مدخل دمشق إرادة مقاومة وجهاد لم تدع للمحتل الفرنسي أدنى راحة طرفة عين، وأشعلت سوريا بالثورة من جبل العرب إلى جبال هنانو إلى ساحة الشيخ بدر وهي ثورة لاهبة لم تهدأ لحظة واحدة منذ صرخة يوسف العظمة يوم استشهاده في 24 تموز 1920 إلى يوم إعلان الاستقلال 17 نيسان 1946 حيث تكللت بالغار ورحل المحتل بالعار وأعلن استقلال سوريا.

ولكن ما خفي من تاريخ استقلال سوريا أكثر مما غاب وعلينا أن نشير إلى فصول مجهولة كثيرة في تاريخ استقلال سوريا، وفي هذا السياق كانت مبادرة فرع الحزب في دمشق لربط الاستقلال بيوسف العظمة والذهاب إلى ميسلون في يوم الجلاء، كان لوناً من الوفاء لفصل هائم في تاريخ سوريا حيث لم نقم بما يكفي لتخليد كفاح يوسف العظمة الذي كان يضيع احتفالنا به في غمرة الجلاء كما ضاع تمثاله لعدة عقود عن الساحة التي تحمل اسمه، وأنا واحد من الجيل الدمشقي الذي لم يميز إلا بصعوبة بالغة بين يوسف العظمة وبين الفلاح الثائر الذي كان يقف في وسط ساحته.

كان مهماً أن يتذكر السوريون أن أبطال الاستقلال في سوريا لا يبدؤون مع حسن الخراط وسلطان باشا الأطرش وابراهيم هنانو وصالح العلي ومحمد الأشمر، بل إنهم أيضاً أسبق من يوسف العظمة ومن شهداء السادس عشر من أيار.
إن علينا أن نبدأ الحديث عن أبطال سوريا من اللحظة التي استفاق فيها الأمل العربي القومي على يد رسول الله محمد بعد أن كانت الأمة العربية متاعاً موروثاً للأمم تناوب على ابتزازه المستعمر البيزنطي والروماني واليوناني والفارسي، حين أعلن رسول الله بنفسه عن بدء إرادة التحرير والخلاص في بلاد الشام، وأرسل رجاله إلى مؤتة ثم تحرك بنفسه إلى تبوك في أول محاولة حقيقية جادة لتحرير سوريا من إرادة الغرباء وليتمكن أبناء التراب السوري من حكم أنفسهم بعد أن قال هرقل البيزنطي وداعاً يا سوريا ودعاً لا لقاء بعده.
كانت أول حركة استقلال وعلينا أن ندرس الاستقلال من تلك اللحظة وأن نعتبر أبطال مؤتة الثلاثة الرابضين في بوابة سوريا الجنوبية عند مؤتة أول أبطال استقلال في تاريخ سوريا وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة.
هل من المبالغة في شيء أن ندرج أسماء هؤلاء في سجل أبطال الاستقلال؟ كيف نتصور شكل سوريا لولا هؤلاء الأبطال الاستقلاليون الأوائل، كيف نتصور تاريخ سوريا لو لم يصل أسامة بن زيد وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة وعياض بن غنم والقعقاع بن عمرو وعبادة بن الصامت ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من قادة الفتح الإسلامي لبلاد الشام؟
كانت سوريا قد عانت لثلاثة عشر قرناً من حكم الأجنبي يونانياً هيلينياً ثم فارسياً ساسانياً ثم رومانياً فبيزنطيا، ولم يكن في وارد هذه القوى العظمى آنذاك أن تمنح سوريا استقلالها صدقة أو إحساناً فالحرية لا تكتسب بالمن والإحسان وإنما لها باب بكل يد مضرجة يدق، وكانت سوريا تعامل ثقافياً واقتصادياً كتابعة تسويقية للقسطنطينية ومن قبل لروما، وكان ممنوعاً على السوري أن ينهض.
حين قرر السوري الجبار أن يبني حضارته بإرادته، كان المستعمر يرفض ذلك كله ويعتبر سوريا مزرعة موروثة، وحين قررت زنوبيا أن تنهض بإرادة من حديد في قلب الصحراء وتمكنت من صناعة المعجزة المدهشة التي لا زالت إلى اليوم محج السائح الأوروبي المدهوش، وخلال سنوات قليلة دخلت مصر والشام وأنطاكية والأردن في المشروع العربي القومي الذي حملته زنوبيا بالمناسبة فإن اسمها زينب بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن السميدع العربية الآرامية مع كل ذلك السحر والمجد قرر الروماني أن ينتقم من إرادة الحرية والاستقلال، وأرسل جيوشه إلى قلب الصحراء ولم يهدأ للأباطرة جفن حتى تمكن أورليانوس من تدمير تدمر وأسر زنوبيا وحملها إلى روما، وأعلن انتهاء الحلم العربي السوري في الاستقلال.
وكان من الممكن أن تنتهي أي إرادة استقلال وفق التراجيديا التي انتهت بها ثورة الزباء، ولكن ذلك كله تغير يوم قرر النبي الكريم أن يوجه بصره صوب الشام ويطلق دعوته الصادقة اللهم بارك لنا في شامنا، وأعلن أن الشام فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى في أرض يقال لها دمشق في غوطتها هي خير مدائن الله يومئذ.
لم يحصل أن النبي الكريم قاد خيله خارج منطقة الحجاز إلا مرة واحدة كانت وجهته فيها أرض الشام، وكان تحرير سوريا حلمه الدائم، يؤرقه ويقلقه، وقد أرسل لتحرير الشام الأبطال الثلاثة زيد وجعفر وابن رواحة، وحين استشهد الأبطال الثلاثة في مؤتة على بوابة سوريا الجنوبية احتسبهم عند الله وأعلن عن قيام جيش العسرة في أيام الصيف القائظ وقاد الجيش بنفسه نحو الشام، وبلغ تبوك ودومة الجندل، ثم عاد وجهز من فوره جيش أسامة وزوده بأكبر الخبرات لديه ومع أنه دخل مرض الموت ولكنه ظل يقول أنفذوا بعث أسامة ، ومات وهو يقول على فراش الموت أنفذوا بعث أسامة!!
كان من الممكن أن يتغير كل شيء لو أخفق أبطال الاستقلال الأوائل في عصر الرسالة عن إنجاز مهمتهم في سوريا وكان تاريخ سوريا سيستمر كواحدة من المستعمرات البعيدة للروم وراء البحار، وكانت دمشق وحلب تداران من القسطنطينية كما تدار اليوم سبتة ومليلة من مدريد، أو كما تدار كورواساو وجزر الكاريبي من هولندا.
إنهم أيضاً أبطال استقلال كبار وينبغي أن لا ننساهم في غمار حديثنا عن الشهداء وأن نرسل لهم أيضاً باقة زهر وأن نحييهم باحترام.
فهل تقوم محافظة حمص بالوفاء لبطل الاستقلال الذي اكتسبت المدينة اسمها من مجده مدينة ابن الوليد، وهل نشاهد محافظ حمص وقائد شرطة المحافظة ووجوه حمص يوم الجلاء يقومون بالتحية لبطل الاستقلال الكبير في سوريا خالد بن الوليد؟
وهل نشاهد عرضاً عسكريا لائقاً يوم الاستقلال بإشراف محافظ درعا يتحرك صوب شلالات تل شهاب لتخليد معركة ميسلون الظافرة الأولى في وادي اليرموك؟ ويرسل باقات زهر لائقة إلى الأبطال الثلاثة في عتبة حوران في مؤتة؟

قد لا تكون الأماني الإقليمية في خاطرهم حين قادوا كفاحهم، ولكن من يستطيع أن يزعم أنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون؟ ومن ينكر أنه لم تكن في أمانيهم توق لرحلة الشتاء والصيف في اليمن السعيد والشام الشريف وأن رسالتهم ومسؤوليتهم في تحرير هذه الأرض هي جزء من رسالة القرآن الكريم الخالدة؟

قد لا يكون في رسالتهم أنهم أبطال استقلال، وسيبدو هذا المصطلح غريباً على أسماعهم إذا تلوناه عند قبورهم، فالرجال قاموا ليجاهدوا في سبيل الله، وحين خاضوا كفاحهم كانت بين أعينهم رغائب الجنة وحورها العين، ولكن قراءة معاصرة لكفاحهم ستحدد لك تماماً تفسير قولهم: في سبيل الله والمستضعفين في الأرض، وتفسير صرختهم جئنا لنخرج الناس من عبادة العبيد إلى عبادة الله الواحد:
هل جاءكم نبأ العقيدة عندما خرت لها الأيام للأذقان
ومحت من الدنيا الفوارق بعدما محت الفوارق فطرة الإنسان

إنهم أيضاً جزء من تاريخ استقلال سوريا وسيسألنا التاريخ عن الجحود الذي نمارسه حسن نتحدث عن الاستقلال من الفصل الأخير فقط وننسى الفصل الأول الأكثر أهمية وتحدياً في تاريخ استقلال سوريا، الرجال الذين صححوا مسيرة التاريخ وأعلنوا للمحتل الباغي ما أعلنه سعد بن معاذ أمام رسول الله يوم حصار الخندق: والله لا ينالون من أرضنا تمرة واحدة إلا بيعاً أو قرى، وفيما سوى ذلك مالهم عندنا إلا السيف، وهي ذات الرسالة التي أعلنها يوسف العظمة في وجه غورو، والسيف هو نفسه السيف الذي امتشقه يوسف العظمة في وجه الدبابات الفرنسية يوم ميسلون.
قلت للعزيز الشاعر والمفكر السوري الدكتور نذير العظمة في يوم تكريمه قبل عشرة أيام: لا أعتقد أن في سوريا مواطناً لا يغبطكم يا آل العظمة لمكان جدكم وهو في موقع الشهيد، ولا أعتقد أن أحداً في سوريا وربما في فرنسا يتمنى أن يكون جده غورو على الرغم من الأوسمة التي نالها من حراس الباستيل بعد ميسلون، وميراثكم من دمه وشهادته أقدس بألف مرة من ميراثهم من أوسمته ونياشينه.
أيهما انتصر غورو أم يوسف العظمة؟

Related posts

د.محمد حبش- الزواج المدني… سراب الحلول المستوردة 28/11/2008

drmohammad

نحو لغة إنسانية في ترانيم الدعاء

drmohammad

التجنيد المتوحش… إعدام أمة

drmohammad

Leave a Comment