مقالات

د.محمد حبش- وأخيراً.. قانون للأحوال الشخصية!! 26/6/2009

نقطتان إيجابيتان للحديث عن نصف الكأس الملآن: الأولى فكرة تقديم قانون واحد لكل السوريين، والثانية الإقرار بالحاجة إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية السوري.
ولكن هاتين النقطتين بالضبط كانتا المدخل للجنة التي قامت بإعداد مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد وهي اللجنة التي شكلت بالقرار الوزاري تاريخ 7/6/2007 والتزمت التعتيم الكامل على أعمالها وأدائها حتى أنجزت مسودة القانون المذكور في 9/4/2009 وتم توجيهه إلى عدد من الجهات ذات الاختصاص والصلة وبدأ الأمر بالتالي يأخذ أبعاده المرعبة على مستقبل الحياة الاجتماعية في سوريا.
والآن ولأول مرة نشترك مع أصدقائنا المحافظين بالحاجة إلى تطوير قانون الأحوال الشخصية وتجديده بعد أن كان الاقتراب منه يعتبر مغامرة في التابو الصارم.

نحتاج بالفعل إلى قانون أحوال شخصية جديد يطبق على كل السوريين فوحدة التشريع صورة لوحدة الوطن، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم أبداً بدون دراسة وتمحيص وإقرار من أصحاب المصلحة الحقيقية في هذا الشأن، وهم الذين أقر لهم القانون في السابق قوانينهم الخاصة، وذلك وفق تقاليد برلمانية معروفة، وعلينا أن نناقشهم فيها ونحقق إدماجهم في القانون الموحد بالآلية الديمقراطية نفسها.

نحتاج بالفعل إلى قانون أحوال شخصية يعالج ثغرة تزويج الصغار التي تنتج الكوارث في الحياة الاجتماعية وتحول النكاح الذي جعله الله نظاماً للحياة في الأرض إلى عبث يتلهى به الصغار ويتفرج عليهم الآباء، وأحياناً كثيرة يتكسبون منه دون أدنى مسؤولية.
ولكن القانون الجديد فتح مزيداً من الأبواب لتزويج الصغار، وهذه المرة إذا ادعى الصغير البلوغ لدى القاضي بدءاً من الثالثة عشرة فإنه يطلب من الأبوين تزويجه، بل إن القاضي يزوج الفتاة رغماً عن والديها إذا بلغت السابعة عشرة وطلبت تدخل القاضي؟

نحتاج إلى قانون أحوال شخصية يمنح المرأة حقها في التعليم كما فعلت شريعة اقرأ حين نصت على وجوب تحصيل التعليم، واعتبرت العلم أشرف الغايات التي تضع لها الملائكة أجنحتها احتراماً ورضا لطالب العلم، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولكن مسودة القانون الجديد جعلت التعليم كله مرهوناً برغبة الزوج ومزاجه، وجعلت التعليم بدون موافقته لوناً من النشوز تدفع فيه المرأة الثمن الأغلى وتسقط نفقتها عنه!

نحتاج إلى قانون أحوال شخصية، يضع تعدد الزوجات في سياقه الحقيقي كعلاج استثنائي لظروف قاهرة وليس إرواء لسعار جنسي هائج، نريد قانوناً يعالج الظلم الواقع على المرأة جراء انجراف الزوج وراء غرائزه وتورطه بزواج آخر، ولكن القانون الجديد منح المرأة حق اشتراط عدم التزوج عليها، وهو تقدم مهم، ولكن لا تحسدونا عليه، لأن القانون يصرح بأن هذا الشرط ليس ملزماً للزوج!! وما قيمة تعهد لا يلزم صاحبه، ولماذا نكذب على أنفسنا ونمنح المرأة حق الاشتراط ثم لا نلزم الرجل حق الوفاء بما التزم؟ ومع ذلك فإن مسودة القانون الجديد لم تمنحها طلب التعويض وإنما منحتها فقط حق طلب الفسخ وما يليه من دمار وكوارث على سبيل التعويض عنها!! وأي تعويض أقسى من خراب البيوت!! ثم يبارك عمل الشقي الذي جرى وراء لذائذه حتى دمر أسرته وبيته!

نحتاج إلى قانون أحوال شخصية ينصف الأطفال حين تقع محنة الطلاق فيوفر لهم عبر إلزام الزوج وعبر مسؤولية الدولة وصندوق التكافل فيها حياة كريمة هادئة تعوضهم ما حرموه من حنان الوالدين، ولكن مشروع القانون في مواده ال665 لم يتسع لمادة تنصف هؤلاء الأطفال أكثر من تقدير القاضي ليساره وإعساره، ومعنى ذلك العودة إلى رقم 800 ل.س للولد شهرياً كما كان سائداً، وهو فقط ما تلزم الدولة باستكماله إن ثبت عجز الزوج!! وإن توفر متبرع بالحضانة فقد اختار القانون التوفير على خزانة الدولة وألزم الأم بدفع الولد إلى المتبرع أو إمساكه بدون عوض!! وحتى هذا المبلغ الزهيد فإنه يسقط إذا رغب المحضون أن يبقى عند أمه بعد الثالثة عشرة.
نحتاج إلى قانون يمكن المرأة من العمل والسفر والدراسة، ويحقق الحلم الإسلامي الكبير أن تسير الظعينة من الحيرة إلى صنعاء تعمل وتكسب وتتجر وتتعلم لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها، وليس إلى قانون يشترط على المرأة حتى في أرض الوطن وجود محرم في المدينة التي تعمل أو تدرس فيها وإلا اعتبرت إقامتها إثماً وحراماً وعملاً غير قانوني!!
ولست أدري هل ستعيد الدولة حساباتها وتشترط في كل إعلان عن عمل أن يكون للمرأة محرم في البلد الذي ستعين فيه؟

إن أبسط ما تستحقه سوريا في تعديل قوانينها أن تنظر إلى الذين سبقوها في هذا الميدان من قبل، وأن تؤسس لقانونها على ضوء التجارب المضيئة في البلاد العربية في تونس والمغرب والبحرين وهي المدونات التي أكاد أجزم أن أياً من أعضاء اللجنة لم يبحثوا ولو مرة واحدة في أدلتها الشرعية ومسوغاتها الاجتماعية.

ولكن أخطر ما في قانون الأحوال الشخصية الجديد هو بناؤه للعلاقات الأسرية بين أفراد المجتمع على أساس من أحكام الردة، وأحكام الردة دقيقة وخطيرة في الشريعة، ويكاد الفقهاء يتفقون على أن حكم المرتد القتل، وهذا الحكم الشديد هو المنصوص عليه في كتب الفقهاء كافة، ولكن أدنى دراسة لأحكام الردة تجعلك تتفهم ما قاله المفسرون والفقهاء الذين نصوا بأمانة ومسؤولية أن الردة هي كفر المرتد بالإسلام ولحاقه بدار الحرب، وهذا بالضبط هو حال المرتدين زمن الرسول كمقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح الذين كانوا حول الرسول ثم هربوا في الظلام ولحقوا بكفار قريش وباعوا أسرار أمتهم ونبيهم لعدوهم، ثم جاؤوا مع الجيوش الغازية من الكفار يدلونهم على عورات المسلمين ويكيدون للإسلام وأهله.

هذه هي الردة التي جرمها الإسلام، وهي تستلزم أقسى العقاب في موقف يفهمه كل عقلاء الأرض، وفي واقعنا المعاصر فإن أوضح مثال للردة هو الطيار الخائن الذي باع وطنه وركب طائرته ونزل في تل أبيب قبل عشر سنوات، ولا جزاء للخائن أقل من القتل وهدر الدم!

ولكن مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد تبسط حكم الردة في عقد الزواج على عنق الطرفين، وتحكم بوجوب إنفاذ حد الردة على الرجل والمرأة حين يختار أي منهما أن يقترب من الآخر اعتقادياً إلى منطقة وسطى يتم فيها الإيمان بالله واحترام أنبيائه دون نسخ دين بدين أو إبطال عقيدة بعقيدة، على أساس ظاهر النص القرآني إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ويمضي القانون إلى منع طائفة من الناس يصفهم بأنهم (غير كتابيين) من الزواج مطلقاً، ويعتبر أي عقد زواج ينشؤونه اعتداء على القانون يتيح للقاضي الحبس والتعزير بجرم التزاني مهما كان العقد موثقاً بالشهود والحب والثقة والاستقرار.
وللعلم فإن تسمية غير كتابيين هي ما يختاره عدد من السوريين لا يقلون بحال من الأحوال عن بضع عشرات من الألوف!!
مع أننا نتمنى لهؤلاء المواطنين أن يهديهم الله وينعموا بالانتماء إلى أنبيائه الكرام الذين هم مجد سوريا وفخرها وتاريخها، ولكننا لا نستطيع إرغامهم على ما لا يؤمنون، وقد أمرنا الإسلام بتركهم وما يدينون، وأننا إنما نقاتل من قاتلنا، وندعو الناس إلى الله بلا إكراه، وأي إكراه أشد من منع الإنسان من حق طبيعي في الحياة كحق الزواج من امرأة في مثل اعتقاده، ونحن نقرأ قول الله تعالى: لا إكراه في الدين، ونتلو قول الله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.

حين كان النبي الكريم يقسم غنائم الجعرانه جاءه رجل وثني (غير كتابي) وطلب منه عطاء، وحين منعه النبي الكريم من العطاء لأنه مشرك نزل قرآن كريم صريح ينتصر للوثني ويدافع عن حقه في الحياة، وأورد ابن كثير وغيره في تفسير الآية 272 من سورة البقرة أن رسول الله نهى أن يتصدق على غير أهل الإسلام فنزل قول الله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم!!
كم كنت أتمنى أن أجد نفسي في مجلس الشعب السوري وأنا أدافع عن تعديل قانون الأحوال الشخصية، تعديلاً يرفع بعض المظالم عن الأسرة السورية ويقترب بها إلى قيم الإسلام ورحمته وعدالته، تعديلاً يتأسس على قول النبي صلى الله عليه وسلم: الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.

Related posts

د.محمد حبش- دروس في ظلال الكعبة…وصال السماء ورعاية الأرض 5/12/2008

drmohammad

د. محمد حبش- محمد في ضمير العالم 14/4/2006

drmohammad

د. محمد الحبش- العصر الذهبي للدعوة إلى الله 2/11/2007

drmohammad

Leave a Comment