من جاكرتا إلى داكار .. الأحرار ينتظرون قرارات دمشق
أعلن أكثر من أربعين من وزراء الخارجية في الدول الإسلامية تأكيد حضورهم غداً إلى دمشق للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية الذي سيبدأ أعماله غداً في دمشق.
كان إحراق الأقصى الشريف في آب 1969هو الحدث الذي أشعل الرغبة لدى شعوب العالم الإسلامي للبحث عن الوحدة، وبرزت فكرة منظمة المؤتمر الإسلامي آنذاك نتيجة غضب الشعوب الإسلامية من مخططات التهويد واستهداف الأقصى.
وأنشئت المنظمة بقرار صادر عن القمة التي عقدت في الرباط في 25 أيلول 1969 رداً على إحراق المسجد الأقصى في القدس، وعقد في عام 1970 أول مؤتمر إسلامي لوزراء الخارجية في جدة في السعودية وقرر إنشاء أمانة عامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
حين طرحت فكرة منظمة المؤتمر الإسلامي ثار سؤال بريء بشكل مباشر وهل هناك أمة إسلامية؟ إنها مجموعة من العواطف المتناثرة التي تجري على غير نظام وما معنى أن يقال إن هناك أمة إسلامية، وكان الجدل آنذاك على أشده بين القوميين والإسلاميين الذين رأوا في مشروع الأمة الإسلامية بديلاً عن المشروع القومي، ولكن أدنى تأمل يكشف لك أن التضامن الإسلامي ليس بديلاً عن الوحدة العربية والمشروع القومي، وأن على المشروعين أن يلتقيا في الأهداف الكبرى لمواجهة القدر الذي يواجهونه جميعاً.
لن أنسى تلك الساعة التي كنت فيها مع العزيز المرحوم عبد العزيز الشامي والدكتور عبد القادر الكتاني والدكتور محمود كفتارو في أندنوسيا وهمس في أذني الشيخ عبد العزيز الشامي أن الشيخ أحمد ياسين قد اغتيل منذ لحظات عبر جريمة إسرائيلية لئيمة، ولكن ما إن خرجنا من قاعة المؤتمر حتى وجدنا الناس يحتشدون بالآلاف في ساحات جاكرتا يرفعون لافتات كتبت بخط اليد وصوراً تم إعدادها على عجل للشيخ الشهيد أحمد ياسين وهم ينددون بجرائم الاحتلال.
تبعد أندنوسيا عن فلسطين أكثر من عشرة آلاف كيلومتر، ويفصلها عن فلسطين سبعة بحور وأكثر، ولكن مشهد الضمير الأندنوسي يسكن في قلب العاصمة المقدسة في إشارة واضحة ودقيقة للرباط الروحي الذي يعقده الإسلام بين ضمائر هذه الشعوب.
لا يوجد عاطفة في الدنيا يمكنها أن تعقد ما يعقده الدين في الأمم، وحين رحل ابن بطوطة من طنجة في المغرب في رحلاته الشهيرة التي بلغت نحو ثلاثين ألف كيلومتر اجتاز بدون جواز سفر ولا تأشيرة خروج سائر البلدان من المغرب إلى الجزائر فتونس إلى مصر فالنوبة ثم الحجاز والعراق وإيران والهند ومر بمن في تلك البلاد من مغول وعرب وكرد وشركس وتتار وتيموريين وغزنويين وهياطلة وباشتون وبلوش وأوزبك واستقر به المطاف في النهاية في جزر المالديف في وسط المحيط الهندي في جنوب سريلانكا، ومع ذلك فإن الرجل لم يعجزه أن يجد هناك فرصة عمل محترم، حيث تم تعيينه قاضياً للقضاة في جزر المالديف وهو ابن الثقافة المغربية البعيدة، وكان ذلك صورة للوحدة القضائية والاجتماعية والدينية التي تمكن من تحقيقها الإسلام في العالم.
تاريخياً كان التضامن الإسلامي أكبر ضمانة لاستقرار العالم الإسلامي يوم كانت راية الرشيد تنعقد على ثغور الروم وتظلل أفياؤها ما بين السند والأندلس، يومها تجرأ حاكم رومي اسمه نقفور كان يحكم رومانيا وطرفاً من بلاد الأناضول على نقض عهد سلفه مع هارون الرشيد وكتب إليه: أما بعد فإن المرأة التي كانت قبلي حملت إليك ما كان حقك أن تحمله إليها وأقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق وذلك من حمق النساء وضعفهن، فإذا جاءك كتابي هذا فرد إلي ما أخذته منها وإلا فالسيف بيني وبينك!!
إنه خطاب يشبه تلك التهديدات الأمريكية التي نسمعها كل يوم، ويذكرك بغطرسة الثلاثي الراحل البائس بوش وتشيني وغونداليزا، وهي التهديدات التي كانت تؤدي عادة إلى انصياع كثير من الحكام العرب للإرادة الأمريكية وبالتالي ارتهان القرار العربي لدى الإدارة الأمريكية.
ولكن هارون وهو يستند إلى ركن متين من الوحدة الإسلامية كتب إليه على ظهر ورقته: أما بعد فقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما ترى لا ما تسمع ، وما هي إلا أن حطت جيوش هارون بأرض الروم ولم ترجع عنها حتى أجبرت نقفور أن يخضع لما نقضه من قبل.
ليس من عادتي أن أحيي خطاباً كهذا ، وعادة ما أتجنب الإشارة إلى هكذا عنتريات، ولعلها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن، ولكنني أعتقد أن زعماء الدبلوماسية، في العالم الإسلامي يحتاجون أن يشربوا حليب الأسود في لحظات المواجهة هذه حتى نتعلم كيف نقول لا للإدارة الأمريكية التي تتحرك عكس مصالح الشعوب العربية والإسلامية.
إن منظمة المؤتمر الإسلامي تشكل من الناحية القانونية أكبر ناخب في الهيئة العامة للأمم المتحدة حيث تشكل نحو ثلث الناخبين في العالم، وبإمكان دول المنظمة أن تفرض أي قرار تشاء عبر أصواتها وأصوات حلفائها القريبين، ولكن ذلك كله يتم انهياره عادة في لحظة طيش أمريكية تغازل مصالح الحكام في الأهواء الكولونية العابرة للقارات.
لقد قدم بنيامين نتنياهو في واشنطن قبل أيام تصريحاً لئيماً حين قال إن الوفاق العربي الإسرائيلي لم يتحقق على شيء كما تحقق اليوم ضد إيران وهناك شعور بالخطر من تنامي قدرات إيران النووية والعسكرية، وأنه قد يقلب الموازين في المنطقة.
وعلى الرغم من أنه يستند إلى معطيات ولكنني لا زلت أعتقد أو أتمنى أنه كاذب، ولكن ما لا شك فيه أن هذا الموقف اللئيم يحظى بتأييد عدد غير قليل من الحكام العرب وللأسف فإن عدداً من شيوخ السلطان يقدمون بالمجان شهادات تأييد لهذا التصريح الإسرائيلي، ولا يكتمون في مجالس وعظهم موقفهم اللئيم من طموح الإيراني على أنه خطر على المنطقة ينبغي مواجهته قبل الخطر الإسرائيلي، وتتم من أجل تأكيد هذه الحقيقة إحياء الثقافة المقبورة من فتات الكراهية، ويتم من جديد تدريس أخبار عبد الله بن سبأ وشمر بن ذي الجوشن والحر بن حصين ويزيد بن معاوية ونستأنف إيابنا إلى ذلك الأفق الحزين الذي نجتهد في إطفائه كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين.
ليس من شأن الصحافة أن تنصب نفسها واعظاً على صفحات الجريدة، وأن تحشد الأدلة من الكتاب والسنة على إمكانية قيام الأمة الإسلامية بدورها ورسالتها في الدفاع عن المصالح الكبرى للمسلمين في الأرض، وقد لا يكون من المفيد أن نحمل منبر الجمعة إلى صفحة الجريدة لنظهر حكم الله، وهذه المرة لن أنصح من منبر الوعظ عبر صيحة المحراب ولكنني سأنصح من واقع الشارع العربي الذي يتابعكم جميعاً أيها الزعماء وينتظر مواقفكم التي يتمنى أن تكون على نسج كرامته وعزته.
لقد وقعت مأساة غزة وكانت مواقف العرب محزنة مؤلمة، ووقف قوم مع الضحية وآخرون مع الجلاد، وسلمت الكراسي العربية لأصحابها فلم تتزلزل بعد هزة غزة، ولكنني أعتقد أنكم لا تجهلون كيف يقيمنا الشارع العربي الآن بعد هذا الزلزال، ومن المفيد هنا التذكير بما نشرته جامعة ميرلاند قبل أيام بالتعاون مع مؤسسة زغبي للاستطلاع التي قامت بإجراء الاستطلاع على عينة من اثني عشر ألف شخص في ست دول عربية هي مصر والسعودية والأردن والإمارات ولبنان وسورية، وكانت النتيجة أن الرئيس بشار الأسد هو أكثر الزعماء العرب شعبية في البلدان العربية وجاء السيد حسن نصر الله ثالثاً بعد محمد بن زايد.
لقد قدمت الشعوب ثقتها لهؤلاء الرجال لسبب بسيط لا يتصل بالنفط ولا بالغاز، ولابالدولار السياسي، إنها بكل بساطة إرادة الحر أن يرفع جبينه ضد مظالم القهر، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
لقد قالت الشعوب قناعتها برغم الماكينة الإعلامية الرهيبة المدعومة أمريكياً لمقاطعة قادة الممانعة العرب، والترويج لأوهام السلام الداني وأحلامه.
تنحاز الشعوب عادة إلى من يدافع عنها ، إلى من يحميها، تبحث عن القامات الشامخة من الزعماء الذين يتقنون الدفاع عن آمال شعوبهم ولا يستطيعون الانحناء ولا الخضوع لإملاءات القوى الكبرى.
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
هل سيقول مؤتمر وزراء الخارجية كلمته في حق الشعوب الإسلامية في قضاياها الكبرى، وهل يقدم العرب الموقف الذي تنتظره منهم شعوبهم في دعم الطموح النووي السلمي لإيران وللشعوب الإسلامية جميعاً ؟ وهل سيتمكن زعماء الدبلوماسية الإسلامية من جعل خيرات العرب والمسلمين بيد أبناء الأمة وفي مواجهة عدوها، وليس لعبة بيد الكبار؟
لقد جاؤوا إلى دمشق وأعتقد أن اختيار دمشق وحده يقدم دلالة كافية لهكذا غاية، وهو ماتنتظره الشعوب الإسلامية غداً من جاكرتا إلى داكار.