في بادرة جديدة نحو وقف الكارثة السورية أطلقت الفيدرالية العالمية للسلام مشروعاً نبيلاً للحوار بين السوريين والوصول إلى مشتركات تسهم في وقف الحرب وتجنب حروب جديدة.
والفيدرالية العالمية للسلام هي منطمة غير حكومية مسجلة في الولابات المتحدة وتنشط في حل الصراعات ووقف الحروب عن طريق التفاوض والحوار، وقد قادت نشاكات كثيرة للحوار في البلقان وكوريا وفلسطين وأذربيجان وغيرها من بلاد الحروب.
وفي سياق اللقاء فإنني أكتب هذه المطالعة ليس على سبيل الخبر الصحفي فلن يجد المتابعون ضالتهم في ذلك، ويبدو أن الفيدرالية نفسها لم تبحث عن أي نشر إعلامي للحدث واختارت أن تعمل للحوار بلا ضجيج، وكان السياق أن تبقى الأمور كذلك ولكنني رأيت بالفعل أن الروح الإيجابية التي قدمها اللقاء تستحق أن تكون بارقة أمل ونموذجاً ينسج على منواله في بناء آفاق حوار جدي يؤسس لتعاون بين السوريين بعيداً عن المواقف السياسية المتصلبة.
انعقد اللقاء الأول في سياق هذه الحوارات في لارنكا الاسبوع الماضي، وشارك فيه فريق مختار من السورين في المعارضة والموالاة.
ربما كان أكثر ما ميز لقاء لارنكا هو المستوى العالي من الخبراء والأكاديميين المشاركين، وكذلك المستوى المعرفي العالي للمشاركين من السوريين حيث شارك أكاديميون ورؤساء جامعات وسفراء، الأمر الذي أسهم في ترسيخ القراءة العقلانية لاختلاف الفريقين وبالتالي تغييب المشاعر الانفعالية.
سمح النظام بمشاركة خجولة عبر مندوب لوزارة المصالحة ونائب في مجلس الشعب، وقد قدم الرجلان كلاماً معروفاً ينسجم تماما مع مكان كل منهما، ولكن المعنى الأبرز للمؤتمر كان في افتتاح منصة حوار مباشر بين النظام والمعارضة بعيداً عن الأجواء المشحونة بالتحدي والطافحة برغبات السحق والمحق والإلغاء.
قامت الحوارات على قاعدة حسن النوايا، وأنكر الجميع الحل العسكري الدموي في سوريا ودفع المشاركون بقوة باتجاه البحث عن الحلول السياسية.
إنها إحدى أشكال التيه السوري المنساح في الآفاق يبحث عن حل وخلاص بعيداً عن خطاب الانفعالية والإقصاء الذي طبع النظام والمعارضة منذ سنين وأدى إلى استحالة الحل السلمي واستمرار الحرب بهذا الواقع المريع.
إن خطاب النظام القائم على مبدأ سحق الإرهاب سحق في طريقه نصف الشعب السوري بوصفه حاضناً للإرهاب، وبعد استفحال هذه المأساة الرهيبة يطرح النظام اليوم التوبة سبيلاً ليتمكن صاحبها من العودة لحضن الوطن.
في حين دأبت المعارضة منذ الشهور الأولى للثورة على خطاب ارحل، وأيامه معدودة وفقد شرعيته وأخيراً الاسطوانة البائسة لعادل جبير سيرحل سلماً أو حرباً، وهي صيغ انفعالية بائسة لم تؤد إلى إلا ازدياد ضرام الحرب واشتعال النار ودفع الأبرياء ثمن الخيبات المتتالية من أرواجهم وأرزاقهم وما زالوا يدفعون.
يراهن لقاء لارنكا أن في الداخل كما في الخارج وطنيون نبلاء، كما أن في الداخل والخارج انفعاليون لا يعرفون إلا الثأر، أو مرتزقة يمارسون تجارة الحرب والدم والموت، ويجب على السوريين أن يواجهوا هذا اللون من الطغمة الفاسدة سواء تربعت على عرش النظام أو انخرطت في تشاط المعارضة.
طرح النظام عقد جولة جديدة من الحوار في دمشق وهو منهج سبق ان طرحه النظام مراراً، ولكن بالتأكيد ليس في المشاركين من يرغب أن يكون في حوار كهذا قبل ان تتحدد مقاصده وغاياته والآفاق التي يؤول إليها.
العودة ليست غاية المشاركين بل السلام هو الغاية، وتيسير سبيل الوصول إلى دمشق فوق جراحات الناس وعذاباتها وآلامها هو لون من الانانية والخيانة، ولكن المبادرة اتجهت للاستجابة الإيحابية لهذه الدعوة وإطلاق وفد من ناشطي السلام في الفدرالية إلى دمشق والعواصم المؤثرة للحديث عن آفاق حقيقية للسلام، وتأمين عودة كريمة ونبيلة للنازحين الذين لا يد لهم في هذه الحرب والذين يريدون أن يعودوا إلى أرضهم ولكنهم يخافون من المخابرات والمساءلات والمصائب.
حوارات لارنكا محاولة جديدة تضم إلى محاولات خائبة كثيرة تجتهد أن تحقق نهاية الحرب ليس على أساس الثار والانتقام ولكن على أساس الاعتراف بالحاجة للحوار والتفاهم وأن الحل العسكري لن يخدم أياً من المتقاتلين، وأن قدرنا أن نعيش معاً وأن نبني وطننا معاً، وأن ندرك أننا مختلفون، مختلفون حتى النخاع ولكن لا ينبغي لهذا اللون من الخلاف مهما كان عميقاً أن يأخذنا إلى حروب جديدة….
هذه الحوارات تؤمن بأن الحسم العسكري مستحيل، وأنه وإن نجح في تحقيق ما يريده الغالب فإنه سيؤجج لصراع لا ينتهي وأن القلوب التي تنام على الضغائن سرعان ما تنهض على قعقعة السلاح ورائحة الدم.
نكفر بعقولنا إن تصورنا الضفة الأخرى بدون ضمير……