كتبت مراراً في حق الإنسان في رفض الحرب الظالمة، وأن من أبشع أشكال الاستبداد والقهر أن يساق شباب الوطن إلى القتال في معارك لا يؤمنون بها ولأهداف لا تعكس حقيقة ضمائرهم، ويرغمون على الحل الذي يريده المستبد تحت عنوان حماية الأوطان وكرامة الإنسان.
ومن المعلوم أن معظم قوانين العالم لا تحمي الجندي المتمرد عن الالتحاق بالحرب الظالمة، وتعتبره منشقاً ومستحقاً للمحاكمة والعقاب، ولعل من أكبر الثغرات البائسة في إعلان حقوق الإنسان أنه لم يقدم أي ضمانة للجندي الذي لا يريد الحرب حين تقرر قيادته السياسية خوض هذه الحرب.
ولكن هذه الحقوق التي كتبنا فيها مراراً ليست أسوأ ما في الأمر فهي في الواقع شأن يخص المحارب المتطوع في الجيش والذي لم يؤمن بهذه الحرب، ولكن الأسوأ من ذلك والأشد مأساوية وقهراً هو فرض الحرب على المدني الذي لا يريد القتال أصلاً وليس له فيه أرب ولا غاية، ولكنه يجد نفسه بواقع العضوية الوطنية مدعواً للسوق إلى الحرب راغباً أو راغماً.
أما النص الحقوقي الذي يستخدمه الاستبداد فهو في الواقع قانون التجنيد الإجباري الذي يقتطع من الشباب زهرة حياتهم وطموحهم، وينهي كثيراً من آمالهم وطموحهم على مفرق القهر والعناء، ويفرض عليهم أنماطاً من الحياة تتناقض كلياً مع طموحهم وأمانيهم وفطرتهم.
وفي الذاكرة المجتمعية السورية صورتان بالغتا القهر، الأولى في حال السلم حيث عانى المجندون من الإذلال والاستخدام، وقد عجز الجيش عن التطور ليكون هيئة بناء وإعمار وطنية في السلم، هذا إذا لم نتحدث عن الفساد الذي نخر كل شيء، والتفاصيل عند القارئ الكريم أكثر مما هي عند الكاتب، ولعل أدق وصف يعرفه الذين أجبروا على التجنيد الإلزامي قسراً أنها مرحلة قهر الرجال!!
وعلى الرغم من العنف الثوري الذي لم يتوقف في الانظمة الاستبدادية ولكنها أجبرت في النهاية بقوة الواقع على تشريع عشرات القوانين التي يملص فيها المواطن الغني من الخدمة الالزامية اغتراباً أو بدلاً أو تأجيلاً إدارياً أو تفييشاً في حين راحت على الفقير.
ولكن الأسوأ حين دخلت البلاد في حالة الحرب وأصبح المجند مجبراً على الدخول إلى عالم الجنون القائم على مبدأ اقتل أو تقتل، وأصبحت خيارات المجند المسكين تنحصر بين الانشقاق والذهاب الى المجهول وبين الاستمرار وممارسة القتل والموت، ولا يوجد قدر أقسى من هذا.
وفي واحدة من أشد التصريحات تناقضاً مع كرامة الإنسان وحريته وطموحه يشير وزير الداخلية السوري إننا شجعنا شباب الوطن على عدم السفر من الوطن عن طريق فتح فرص التطوع في الجيش، ويزف بذلك فرصة نادرة للسوريين حيث يمكنهم أن يحملوا السلاح ويتقاتلوا إلى الأبد طالما أن هناك أرحاماً تدفع وأرضاً تبلع وما يهلكنا إلا الدهر….
وهكذا غدا التجنيد الإجباري أحد أشد أشكال القهر والجبر التي تمارسها الحكومات المستبدة ضد الأفراد، وتحيل حياتهم إلى جحيم وهو قهر يغلف في العادة بالمعاني النبيلة المقدسة، من الدفاع عن الأوطان ومواجهة المؤامرات والتضحية في سبيل الآخرين، ولكن هذه الآمال البيضاء تلتعن كل يوم في غمار المواجهة الطاحنة بين الجيش والناس، والحرب هي الحرب بكل قذارتها وجنونها وإجرامها ولا توجد عبارة يمكنها أن تلطف هذا الجنون البائس.
فهل قدر العالم أن يكون التجنيد الإجباري هو الخيار الذي تقاد فيه الشباب الى حتوفها في خدمة لعبة السياسة والمكر والموت؟
هناك 98 دولة في العالم ألغت نظام التجنيد الإلزامي وهي تشتمل على قائمة الدول الرائدة حضارياُ في العالم وأهمها الدول الاسكندنافية واليابان وبريطانيا واستراليا ومعظم الدول الاوربية والهند والارجنتين، وانتهى العقلاء في هذه الحضارات إلى تأكيد حق الإنسان في رفض حمل السلاح أياً كانت دوافعه وغرائزه وهياجه.
وابتكرت 41 دولة أشكالاً بديلة للخدمة الوطنية بحيث يكون الجيش للبناء والإعمار في السلم، ويستنفر الناس في حال الحرب، دون أن يكون فيها اي إلزام للمواطن بحمل السلاح، وقصرت 21 دولة أخرى الخدمة العسكرية على أقل من سنة.
وهناك 34 دولة اختارت الاستمرار في التجنبد الالزامي لأكثر من سنة ونصف، ومعظم هذه الدول محاربة أو لديها شبق الحرب، وأهمها كوريا الشمالية وإسرائيل وسوريا واليمن والصومال والنيجر وموريتانيا ومصر وإيران، ولا يوجد من النادي المتحضر في هذه القائمة إلا كوريا الجنوبية وسنغافورة.
وحدها الدول الثورية المحسودة التي يتآمر عليها الكون كله هي من تطالب شعوبها بالاستعداد للحرب دوماً، وتمجد المقاتل المطواع، وتنصب لبسطار محاربيها تماثيل تذكارية في الساحات العامة.
ومن المؤسف أننا لا نروي من الفقه الإسلامي إلا هذا الجانب المحارِب، حيث النص على ان الفرار من الزحف هو واحدة من اكبر الكبائر التي تزلزل عرش الرحمن وتوجب قتل المتخلف عن الزحف…..
ومع أن المكان لا يتسع للحوار الفقهي، وقد نسيء إلى الفكرة إذا اجتزأناها، ولكنني أشير إلى نصوص أخرى تعارض هذا الفهم، يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، وأن القتال كره لكم، وضرورة تقدر بقدرها، وإذا استنفرتم فانفروا، ولا تتمنوا لقاء العدو، ولا يدعونني إلى سبيل فيها حقن الدماء إلا أجبتهم إليها، وغير ذلك من النصوص التي تعارض مبدأ إجبار الناس على خوض الحرب، أو اعتبار التمرد على القتال فراراً من الزحف.
ومع أنني من أشد المدافعين عن إعلان حقوق الإنسان الذي توصلت اليه البشرية بعد كفاح طويل وسجل طام من الحروب والكوارث والمصائب وهو الإعلان الأكثر واقعية وتأثيراً في توجهات السياسة العالمية في الأرض ولكنني في الوقت نفسه لا أعتبره معصوماً ومن حقنا أن نرفع الصوت في نقده وتصويبه كلما خطت الإنسانية خطوة جديدة فهو نص كريم يطرأ عليه النسخ كما يطرأ عليه تقييد المطلق وتخصيص العام وهذه الآليات هي هرمونوطيقا التعامل مع النص سواء كان مقدساً أو غير مقدس.
لقد كتبت مراراً في نقد إعلان حقوق الإنسان في إغفاله الاشارة الى حقوق الأبوة والبنوة والجوار والرحم، وهي حقوق إنسانية أصيلة لا يليق أن يغفلها إعلان بهذه الأهمية التاريخية.
ولكن إغفاله لحق الإنسان في السلم أكثر خطورة وتوحشاً، وكان من الواجب أن ينص إعلان حقوق الإنسان: ليس من حق أحد ان يجبر أحداً على حمل السلاح تحت أي عنوان، وعلى الحكومات أن توفر الدفاع عن سيادتها وفق عقود اختيارية يختارها من يرغب من الناس طواعية.
أما التجنيد الاجباري فهو عمل عدواني مناف للفطرة الإنسانية ومناف بالمطلق لإعلان حقوق الإنسان، خاصة عندما يكون الخيار المتاح أمام التجنيد الإجباري هو الانخراط في التشكيلات المسلحة اوفي الاتجاه الذي يمليه عليك النظام الحاكم دون أن يكون لك أدنى خيار في تغيير اتحاه المعركة أو تفاصيلها أو بنودها.
أنجزت الأمم المتحضرة إصلاحين جوهريين في سياق الخدمة العسكرية:
الأول: تحويل الخدمة الى خدمة اختيارية لا يجبر عليها الشعب اجباراً
الثاني: تحويل نظام الجيش إلى الخدمة الوطنية بحيث تكون مهامه في البناء والإعمار أو الحرب وفق ما يختاره الإنسان.
ولكن أنظمتنا الثورية لم تلتفت إلى شيء من ذلك، وتوجهت عكس ما توجهت إليه البشرية، والسبب بالطبع معروف وهو أننا بلد مقاوم وأن الكون كله متآمر على صمودنا، وأن كل سكان الكوكب والكواكب الأخرى متآمرون لسرقة خيراتنا وعبقرياتنا وأن علينا أن تبقى يدنا دوما على الزناد وعندما تكون جاهزاً نار، فهذه هي الطريقة التي تبنى بها الأوطان ويسحق فيها الأعداء.
التجنيد الإجباري يعني أن الوطن سيظل مطارِداً ومطارَداً ومحارِبا ومحارَبا ومقاتلاً ومقاتلاً ومعادياً وعدواً، وأن السلام أوهام وأحلام، وأن الإنسان محض كائن خلق ليفترس!
على الرغم من كل ما واجهته اليابان وألمانيا الغربية من دمار ومآسي ونكبات ولكن أكثر القرارات توفيقاً في تاريخ هاتين الحضارتين كان قرار نزع السلاح عن البلد الأعزل، وقبول حماية الأمم المتحدة التي عهدت بالأمن لأصحاب المصالح وفق معاوضات مفهومة، ونسي الشعب خرافة الحرب وانصرفت تلك البلاد إلى بناء العلم والجامعات والمصانع وعادت إلى صدر قائمة الدول الرائدة في العام.
التجنيد الإجباري عمل مناف للقيم الإنسانية، وقديماً كتب جبران خليل جبران: ذات يوم سنشعر بالخجل لأننا دفعنا الناس للموت من أجل حدود السياسة وتراب البلدان.