Uncategorized

شذوذ لا مثلية… نقاش في الجندر

تبدو المسألة المثلية أوضح جوانب الخلاف بين الدين والحضارة الحديثة المتمركزة في الغرب، وتستحق منا تأملاً غير عادي وهذا ما ستحاوله هذه المقالة.

من المؤكد أن الشذوذ الجنسي (وهو المصطلح الذي أفضله في التعامل مع هذا اللون من الانحراف) موجود منذ فجر التاريخ، وتدل على ذلك رقم ومنحوتات كثيرة هندية وإغريقية ورومانية وفرعونية، وهو حاضر في الأدب العربي كما هو حاضر في أدبيات أمم كثيرة، ولدينا فصول طويلة في كتب الأدب مخصصة للتغزل بالغلمان يندى لها الجبين.

ومن المؤكد أن الأديان السماوية لها موقف صارم ومحدد ضد الشذوذ الجنسي وهي تصنفه في أشد الخطايا إثماً وبؤساً، ولا شك ان الإسلام جاء صارماً وقاطعاً في رفض العلاقات المثلية وصنفها في إطار الكبائر والمحرمات تحت عنوان الفحشاء.

وهكذا فإن الشذوذ ليس جديداً ولكن الجديد في الأمر هو التطور القانوني باتجاه الاعتراف بالأسرة الشاذة التي تقوم على جنس واحد ذكوراً أو إناثاً، فقد مضى القرن العشرون والاتجاه الحقوقي الغالب في بلاد الحريات يقف عند حدود حماية المثليين، ومنع إيذائهم، واحترام إنسانيتهم دون أن تجرؤ أي مؤسسة قانونية في العالم على الاعتراف بهم كأسرة.

ولكن مع دخول القرن الجديد بادرت هولندا عام 2001 بالاعتراف بالأسرة المثلية ومنح الشاذين حق تكوين أسرة يحميها القانون بما في ذلك الاعفاءات الضريبية والاستفادة من الضمان الاجتماعي وحق الأسرة في تبني ولد وتسجيله باسم الوالدين المثليين لرجلين أو امرأتين.

وعلى الفور تسارع الاتجاه التبريري للأسرة الشاذة وتحولت القوانين التي كانت تكتفي بحماية المثليين إلى قوانين تقرر الاعتراف بهم كأسر حقيقية في المجتمع، وخلال أربعة عشر عاماً أقرت 24 دولة في العالم الزواج المثلي، وأهمها الولايات المتحدة عقب حكم المحكمة العليا في الولايات المتحدة في قضية أوبر جيفل ضد هودغز عام 2015 وتلاها على الفور أربع دول هامة وهي فنلندا وألمانيا وأستراليا 2017

ومن المؤسف ان عدداً من الكنائس اختار موقفاً مداهناً للتوجه الليبرالي، وتجاوز خطاب الرحمة والعطف المعروف في المسيحية إلى طرق التوثيق القانوني لهذه الخطايا، وكذلك عقد هذه العقود ببركة العماد المقدس.

في تطور لافت وتساوقاً مع خيارات هذه الدول القوية بدأت الأمم المتحدة في تقديم صيغ مجاملة واضحة للأسرة الشاذة عبر نص قوانينها على خيارات النوع الجندري والتوسع فيه، وعقد ندوات وحوارات وورش تحت عنوان النوع الجندري وهي خطوات واضحة في اتجاه الاعتراف الكامل بالأسرة المثلية.

وفي تقديري فإن سلوك الأمم المتحدة في هذا الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة وانتهاك لميثاق الأمم المتحدة ومجاملة غير مبررة للدول الغربية، حيث لا يمكن لهذه المؤسسة الدولية قانونياً أن تتحول عن سياساتها الملتزمة بالأسرة وفق ديباجة الأمم المتحدة إلا بعد إجراءات قانونية معقدة، ويجب على الأٌقل أن تتقدم 20 دولة عضو في الأمم المتحدة بالتوقيع على اتفاقية فيما بينها تؤكد الاتفاق على الأصول القانونية للأسرة المثلية، حتى يمكن للأم المتحدة أن تطرح المشروع للتصويت، وعلى افتراض تم ذلك فإنها ستكون وثيقة ملزمة فقط للدول الموقعة عليها، ولا يليق بالأمم المتحدة أن تنحاز إلى الطرف الموقع والترويج لمشروعه إلا بعد توقيع ستين دولة من الدول الأعضاء وهو ما لم يحصل بوجه من الوجوه.

فهل يعكس هذا التطور المتسارع نهاية عصر الأسرة الواحدة ودخول العالم في عصر الأسرة المتحولة؟

قناعتي أن الفورة التي شهدها العالم في العقدين الماضيين ليست سياقاً تاريخياً واعياً، وقد اندفعت هذه الدول إلى دعم المثلية في سياق التزامها بالحرية، ووقف التنمر والعدوان على المثليين بوصفهم جزءاً من المواطنين، ولكن هذه القوانين المتهورة لم تنتبه إلى الآثار الاجتماعية التي يتسبب بها هذا التهاون في حماية الأسرة المستقرة والاعتراف بالشذوذ كأسرة كاملة يتم الاعتراف بها بالتوازي مع الأسرة المستقرة، ومنحها نفس الحقوق والامتيازات.

يجب القول أولاً إن الدول ال24 التي أقرت الشذوذ أسرة طبيعية لا تمثل إلا 15% من دول العالم، حيث لا تزال 170 دولة في العالم ترفض الاعتراف بالشذوذ كأسرة، ومنها دول المليارات الصين والهند وكذلك روسيا واليابان إضافة إلى الدول الإسلامية كافة.

ولا أعتقد أن الأمر قد حسم في هذه الدول ال24 بل إن منظمات الأسرة والطفولة والدين لا زالت تخوض حراكاً طاحناً في مواجهة هذه التشريعات ومن المؤكد أنها ستحقق نجاحاً ما خلال العقد الحالي، ومن حقنا أن نراهن على يقظة مختلفة في الضمير العالمي لجهة احترام الأسرة الحقيقية والتعامل مع الأسرة الشاذة بأسلوب أكثر حكمة يرفع عنها المظالم دون أن نتورط بمساواة هذه الميول الشاذة مع الأسرة المستقرة الموجودة في العالم كله.

في خطابه الشهر الماضي أعلن الرئيس الروسي بوتين في منتدى فالداي في سوتشي رفضه القاطع للاعتراف بالأسرة الشاذة وأكد أنه لن يتم الاعتراف بهذا الواقع على الإطلاق خلال حكمه، وأكد أن بلاده ملتزمة بالقيم الروحية والتقاليد التاريخية وحذر من الانجرار المتهور في دعم نظام الأسرة الشاذة الذي يمثل تحدياً حقيقياً للأسرة المستقرة.

وتشير الإحصاءات الدقيقة التي يقدمها مركز بيو الدولي أن عدد الأسر المسجلة لمتماثلي الجنس في الولايات المتحدة لا زالت 0.48% وباستثناء واشنطن العاصمة فإن أعلى ولاية وهي كاليفورنيا لم تبلغ نسبة واحد في المائة بل وقفت عند حدود 0.8% على الرغم من التسهيلات التي بات يقدمها القانون الأمريكي، ولا أشك أن الرقم أقل من ذلك، ولكن دافع التحدي والخروج على المألوف كان وراء تسجيل كثير من هذه العقود.

وتشير دراسات متعددة قدمها معهد غالوب ومعاهد أخرى إلى نسبة تقارب 90 % من الرفض في دول كبرى مثل أوكرانيا وروسيا وجورجيا ورومانيا على الرغم من الحريات الجنسية الكبيرة المتوفرة في هذه البلدان.

وبالطبع فإن الرفض أكبر من ذلك بكثير في المجتمات الإسلامية ولا تزال 57 دولة إسلامية ترفض ذلك بقوة ولا تقبل على الإطلاق أن تطرح قضايا كهذه في هيئاتها البرلمانية، وهو ما يتفق مع الوعي الديني الذي يشكل ذاكرة المجتمع وحيويته.

بالطبع لم أقصد أن أقدم دراسة إحصائية للواقع الجندري في العالم فقد باتت هذه الإحصاءات متوفرة بدقة كبيرة على سائر المواقع، وبمكنك التحقق منها، ولكنني متمسك بأن التطورات التي شهدها العقدان الماضيان في سياق الاعتراف بالأسرة الشاذة ليست سياقاً تاريخياً طبيعياً وقناعتي أنها قد بلغت ذروتها، وستأخذ في التراجع حين يتحقق التوازن بين منطق حماية الحريات وحقوق الإنسان ومنطق حماية الأسرة، وهو ما سينعكس بالتأكيد على استقرار الأسرة الطبيعية، وبالتالي تراجع حركة التبرير والتشريع للكيانات الشاذة.

نعم إنني أطالب بالإصلاح الديني في التعامل مع ظاهرة الشذوذ، بحيث نتعامل مع الشاذين كمرضى اجتماعيين يستحقون العناية والعطف وليس كمجرمين يجب قتلهم، وعلينا الاعتراف بأن الإصرار على الأحكام القديمة لقتل الشاذ يسيء إلى القضية ويخلق تعاطفاً غير عادي مع الفئات الشاذة، ويتعارض مع حقوق الإنسان بعد أن ثبت أن معظم حالات الانحراف الجنسي هي حالات مرضية وليس مجرد ممارسات طائشة عابثة.

الشذوذ آفة اجتماعية وليست نوعاً طبيعياً، وعلينا مقاومتها بوسائل القانون والعقل والتدبير الاجتماعي، وهي آفة كآفة الإدمان أو على الأقل كآفة التدخين، وإن على المجتمع أن يعترف بها كآفة وليس كنظام اجتماعي، بمعنى أن يقوم المجتمع بمساعدة من ابتلي بهذه الآفة، ومنع الاعتداء عليه، وتوعيته بأنه في اضطراب نفسي وجيني وعصابي، وأن المجتمع متعاون معه لتجاوز المحنة وعلى الأقل لمنع نقلها إلى الجيل القادم، وتقديم مزيد من الصبر والإرادة لمنع انتشار هذا اللون من الفحشاء.

من المؤسف ان تتبنى بعض منظمات المجتمع المدني العربية توجهات الدول ال24 وتتجاهل مواقف الدول 170 ، ومن المؤلم ان نتصور أن التاريخ قد قال كلمته في الاعتراف بالأسرة الشاذة في حين لا يزال 85% من سكان هذا الكوكب لا يقبلون على الإطلاق مساواة الفحشاء بالأسرة الطبيعية.

نعم إنني أراهن أن قيم الفضيلة هي قدر مشترك في الإنسانية جمعاء، وإن انجراف عدد من الدول نحو تبرير الفحشاء تحت عنوان الحريات هو مبالغة متهورة، وأرجو أن لا تحتاج الدول المنفلتة وقتاً أطول لتدرك أنها سارت في طريق خاطئة، وأن عليها إجراء مراجعات متوازنة، فما فائدة السرعة الفائقة في الطريق والجودة في المركبة إذا كان الاتجاه خاطئاً.

Related posts

د.محمد حبش-القتل باسم الرب إغتيال الشيخ رياض الخرقي

drmohammad

نحو أنسنة الدولة في الإسلام

drmohammad

ويسألونك عن الحسبة يوليو 24, 2016

drmohammad