الحب في زمن الحرب
لعل أصعب أنواع الكتابة أن تكتب عن الحب في زمن الحرب، وعن المودة في زمن الكراهية، وعن اللاعنف في غبار الحرب…ولكن هذا القدر من التحدي هو ما يجعل الكتابة في هذا الباب جهاداً في سبيل الله وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وسداً لذرائع الأذى عن الأمة وفتحاً لذرائع الوصال مع الأمم.. وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.
وخلال سنوات الحرب التي فرضت قدراً على السوريين بات خطاب التسامح والإخاء أوهن الأصوات وأضعفها في حين صعدت إلى الغاية نبرات خطاب الثأر والانتقام وتحولت خطابات الموادعة والسلام إلى خطابات استسلام وهزيمة، فلا صوت يعلو صوت المعركة، وقد نطق الرصاص فما يباح كلام وجرى القصاص فما يتاح ملام إلى ىخر هذه التحديات الحربية الهائجة التي أدخلت بلادنا في صراع مع كل شيء وزجت بطاقاتنا وقدراتنا في حروب طواحين الهواء العابثة، لا هدف ولا غاية، وستعلم بعد رحيل العمر بأنك كنت تظارد خيط دخان..
فهل صار الحديث عن المحبة مجرد وعظ لاهوتي لا علاقة له بالحياة؟ وهل يتعين بالفعل أن نستكمل المعارك الطاحنة لنتفرغ فيما بعد على ثقافة الحب والسلام؟
قناعتي أنها أشرف رسالة يحملها القلم، وهي مواجهة مباشرة مع أشد أمراضنا العاثرة رسوخاً وتفشياً، وهي رسالة صعبة ومريرة حيث يحيط الاتهام من كل وجه، وما أهون أن تقذف بالعمالة والزندقة، ولكنها في العمق رسالة الصديقين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم وهم يقدمون للناس مكان الإنسان في مملكة الله زميلاً وشريكاً وليس قاضياً ومهيمنا على الناس.
لقد تلقينا عبر خطابنا السياسي باستمرار أن الآخر في الداخل خائن وعميل، والآخر في الخارج متآمر ومستعمر، أما خطابنا الديني فلم يكن أحسن حالاً إذ أطلق في مسامعنا أن الخلق مؤمن وكافر، ولا برزخ بينهما، فمن آمن بكتابنا وصلى صلاتنا وصام صيامنا وعظم صحابتنا فهو المسلم، وأما الآخر فهي كافر شقي، مآله جهنم وبئس المصير.
في برنامج تلفزيوني على قناة الرسالة كان الشيخ يتحدث عن الآية: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، وقد جعل الشيخ هذا النص القرآني الذي ورد في جماعة خاصة حكماً سرمدياً يصنف فيه البشرية إلى نوعين مسلم مستهدف وعالم كافر يستهدفه، وراح الشيخ يضرب الأمثلة في ذلك، في تأكيد ان الحرب بين الإسلام والعالم نهائية وإن علينا المضي في رسالة الجهاد حتى يظهر الإسلام على الدين كله!!
ساله سائل
على الهواء: يا حضرة الشيخ نحن نعيش في أستراليا في ظل قانون ديمقراطي يوفر الحققو
كلها، وبإمكاننا بناء مساجدنا ومدارسنا في ظل القانون ولا نشعر بأي ضغوط علينا
كمسلمين، ونشعر بالمساواة والعدالة، ولا نجد سبباً لاستمرار الصراع..
كان جواب الشيخ مؤلماً وقاسياً وقال بغضب: كيف تقول إنهم لا يستهدفون الإسلام؟؟ إن
الله يقول ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم، صدق الله وكذبت ظنونك، صدق
الله وكذبت أوهامك، بل عليك أن تدقق في الأمر فستجد انهم أعداء وإن أظهروا لك
المودة، وما تخفي صدورهم أكبر! وإن الله تعبَّدنا بالبراء والولاء، ومقتضى ذلك أن
نبغضهم في الله، حتى يتركوا ما هم فيه من شرك ويخلعوا ضلالاتهم ويدخلوا في الدين
الحق.
بالتأكيد لم يعد لهذا اللون من الخطاب بريق في المجتمعات الإسلامية على مستوى المؤسسات الرسمية ولكن يجب القول إنه لا زال حاضراً في خطاب التطرف ولا زالت له منابره ومراصده، وهو يفرض مسؤولية مباشرة أمام رجال الكلمة والحكمة، ويستدعي جهوداً متصلاً لوقف خطاب الكراهية وعودة خطاب الحب.
من المؤلم أن يتم إظهار نصوص الحرب الطارئة في القرآن وتغييب نصوص الحب الطافحة التي تملؤ القرآن الكريم وتأمر بالوصال بين الإنسان والإنسان، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً، ومثل المؤمن كمثل الغيث أينما وقع نفع، والخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
إنه يؤلمني أن حروب الربيع العربي أوقظت أسوأ ما فينا، وأعادت إنتاج ثقافة التطرف والريبة والإقصاء، وهي مشاعر تجد من يغذي صداها في الطرفين، وما حادثة مسجد نيوزيلاند عنا ببعيد.
إنني أشعر بالحرج أن يمضي جيل آخر إلى هذه الثقافة الارتيابية البائسة في معاداة العالم كله، وافتراض الشر والشرك والكفر في كل المجتمعات التي تختلف في الإيمان والانتماء!! مع أنه يقرا قرىنا حكيماً بدأ خطابه بصيغة الحمد لله رب العالمين ولم يقل رب المسلمين ولا رب المؤمنين، وختم حروفه بقوله: رب الناس ملك الناس إله الناس، في إشارة واضحة لعلاقة المسلم بالعالم من حوله، وما بين المبدأ والخاتمة ألف دليل ودليل أن الأرض أرض الله والخلق عباده وأن الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله