ظهور الصحابة والأنبياء في الافلام
أثار الرحيل الكبير لحاتم علي تساؤلات كثيرة في الفن والاجتماع والسياسة، ولا بأس أن نشير إلى جدل خاص حول الظهور الفني لشخصيات أساسية في الإسلام، حيث ظهر في فيلم عمر الصحابيان الجليلان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، في تجاوز واضح لفتاوى الأزهر المتتابعة في تحريم ظهور الصحابة والأنبياء، ويجب القول إن الازهر الذي يمثل أكبر الهيئات الشرعية في العالم الإسلامي لا يزال يتبنى مواقف متشددة فيما يتصل بالفن والمسرح، وقد أصدر بيانات واضحة في منع فيلم الرسالة 1976 والمهاجر 1994 وآلام المسيح 2004 وفيلم يوسف الصديق 2010 وفيلم نوح 2014 والسبب دوماً هو ظهور أنبياء أو صحابة.
وفتوى الأزهر ليست للأسف إلا صدى لفتوى هيئة كبار العلماء بالسعودية 1973 التي تحرم بشكل قاطع ظهور الأنبياء والملائكة والصحابة في أي عمل تلفزيوني أو مسرحي، (بل إنها قد أفتت من قبل بتحريم الفن كله والمسرح كله والتلفزيون كله).
وفي فيلم عمر نجح حاتم علي في تجاوز موافقة الأزهر المعقدة واختار لجنة من فقهاء مشهورين، ومع أنهم جميعاً أزهريون أو سلفيون ولكنهم تجاوزوا بثقة فتاوى الأزهر، وتجاوزوا فتوى السلفية، وهذا دليل آخر على أن الفقيه المجتهد أقدر على التطور من المؤسسات المترهلة.
وتشير شارة الفيلم أن لجنة علمية متخصصة قد قامت بدراسة النص ووافقت على السيناريو وفيها الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة وعلي الصلابي وأكرم ضياء العمري.
فهل حان الوقت لنطرح السؤال مجدداً في موقف الفقه الإسلامي من تمثيل أدوار الأنبياء والصحابة على المسرح؟
من المؤكد ان مسألة تصوير النبي صلى الله عليه وسلم في الأفلام أو المسرح مسألة غير منصوص عليها في النصوص الشرعية المعتبرة قرآناً أو سنة، وأن لا دليل قطعي الثبوت في أمر ولا نهي، ولا دليل في القطع أو الظن يستند إلى قطعي الثبوت في إباحة أو تحريم.
وإذا كان ذلك كذلك فإن مدار الفتيا في هذه المسألة هو الاجتهاد المحض، وفق قواعد الشريعة ومصالح الأمة.
وقد اختار عدد من الفقهاء المعاصرين التحريم على قاعدة القياس، فاعتبروا ذلك مقيساً على ما ورد من النهي على الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، المنصوص على تحريمه وتجريمه في قوله في المتواتر من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
والحق أن هذا القياس غير مستقيم، لاختلال جامع العلة بين المقيس والمقاس عليه، فلا يزعم الممثل ولا يقع في خاطر المشاهد أنه النبي أو الرسول نفسه، بل يعلم حق العلم أنه بمثابة الراوي عنه بالتسلسل على الوصف، وهو مشروع عند الرواة كافة، بل هو أعظم أجراً وذخراً ووثاقة.
والمسألة عند الحنفية في محل الاستحسان أكثر مما هي في محل القياس، لأن بابها هو العدول عن قياس جلي إلى قياس خفي لعلة تقتضي ذلك العدول، أو لدليل ينقدح في عقل المجتهد يعسر التعبير عنه.
ومدارها عند السادة المالكية مفارق للقياس وآيل إلى قاعدة المصالح المرسلة التي لم يرد دليل من الشرع على اعتبارها ولا على إلغائها ومدارها على ما تراه البصيرة السليمة وفق مقاصد الشرع ومصالح الأمة.
ومدارها عند الشافعية يتعدى القياس إلى الاستصحاب وهو أن الأصل في العادات الإباحة إلا ما ورد فيه النص في التحريم، وأن الأصل في الأحكام البراءة الأصلية حتى يطرأ عليها صريح حاظر أو مبيح.
وتأسيساً على ذلك فإن الاجتهاد المحض الصادر في محله وبشرطه ومن أهله، يؤول إلى دراسة الأمر في دائرة المفاسد والمصالح، ورأي أصحاب الشأن من الغيارى على الإسلام وأهله، والناظرين بإحسان لمقام النبوة الكريمة.
وقد نهج الأزهر الشريف منذ بدء ظهور المسرح التاريخي والأعمال الفيلمية على منع ظهور الأنبياء جميعاً أو زوجاتهم ومنع ظهور العشرة المبشرين في الجنة وذلك باجتهاد محض، مبناه منع التقدم بين يدي الله ورسوله، والحفاظ على هيبة النبوة وعدم وجود من يستحق أن يكون ممثل صورة الرسول الكريم أو وجهه أو جسده.
ويمكن القول إن الفتوى التي اختارها الأزهر دائرة على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن قيام بعض الممثلين بالظهور في مكان الأنبياء أو العشرة المبشرين سيكون سيء الأثر على المتلقي حين يظهر ذلك الممثل في صورة مختلفة في فيلم آخر لا يليق بمكان الأنبياء.
وقاعدة هذه الفتوى اجتهادية محضة وليس فيها كما ترى قطعي الدلالة من النصوص الثابتة.
ومن حق الأمة بعد صدور هذا الفتاوى بخمسين عاماً أن تراجع النظر فيها استناداً إلى مصالح المسلمين ودورهم في التعريف بصاحب النبوة وصحبه الكرام.
والذي أراه والله أعلم أن هذه المحاذير التي كانت مبررة قبل خمسين عاماً لم يعد لها ما يبررها اليوم، وأن ظهور الأنبياء في الأفلام أو العشرة المبشرين صار أمراً مفهوماً للعامة والخاصة ولا يكاد يلتبس على كبير او صغير، ولم يعد في الناس من يعتقد أن فلاناً نبي، بجامع أنه يصعد خشبة المسرح ويؤدي كلام الأنبياء.
وإضافة إلى ذلك فإن الواقع السائد في العالم اليوم أن تمثيل الشخصيات التاريخية حق من حقوق التعبير، ولا يوجد ما يمنع من قيام الناس بذلك بغرض الإشادة أو الإساءة، ومن الوارد تماماً أن يثب إلى المسارح والأفلام من يمثل صور الأنبياء على غاية الإساءة والسخرية، ولا تطاله القوانين في معظم دول العالم.
وإزاء ذلك فإنني أعتقد ان الاجتهاد لمصلحة الأمة وبيان شرف الرسالة الخاتمة وطهرها ومقاصدها يستدعي اقتحام ساحة الفن بكل ما يتطلبه المقام من شجاعة وبصيرة، فهذا استحسان صحيح على مذهب أبي حنيفة وتحرير أصولي على قاعدة المصالح المرسلة عند مالك، واستصحاب للإباحة الأصلية في الأحكام عند الإمام الشافعي.
وهي تتصل عند السادة المحدثين بوصف الحديث المسلسل الذي يأتي على صفة فعلها الرسول الكريم فيتعين في كل من يرويه أن يحاكي تصرف النبي الكريم في الرواية فيضحك كما يضحك ويشرب كما شرب ويتكئ كما اتكأ وغير ذلك مما يعرفه أصحاب الفن في علم المصطلح، ويكون تمثيل فعل النبي الكريم مندوباً ومستحباً لكل راو للحديث حتى يصح وصفه بالحديث المسلسل.
بل إنني اجزم أن دخول هذا الباب عبر هيئات إسلامية محترمة تشرف على عمل فني كهذا يدخل في باب فتح الذرائع المحمودة وسد الذرائع المردودة، يشبه أن يكون واجباً كفائياً على الأمة، لتقديم صورة صحيحة عن النبوة سليمة من التحريف والتزوير، وهو أنجع السبل لقطع الطريق أمام الذين يريدون تشويه الإسلام ورسالته.
من المؤسف أن يكون رأي الأزهر إلى اليوم منع فيلم الرسالة وهو أكبر منابر التعريف بالإسلام في العالم، وأن يمنع فيلم المهاجر ليوسف شاهين لأنه يظهر النبي يوسف (حصل شاهين فيما بعد على حكم قضائي لعرض فيلمه في مصر) وقد نال المبدع شاهين في أعقاب الفيلم جازة الأوسكار العالمية.
والأمر الأشد تحدياً هو فكرة القداسة التي نلقيها على الماضي ونفرض له طقوسه ورسومه المزنرة بالتابو، والمرصودة بالتحريم والمنع، مما يحول دون نقد حقيقي للتاريخ والتراث، ولا أشك أن الأمة التي لا تملك الشجاعة لنقد تاريخها لن تستطيع أن ترسم مستقبلها، وقناعتي أن الماضي المقدس ليس مجداً لوارثيه المرتعدين منه، وإذا كان ماضينا مقدساً ألا يجب أن يكون مستقبلنا مقدساً؟