مقالات

ضد طواحين الهواء

ضد طواحين الهواء

النائبة الفرنسية انا كريستينا لانغ تخرج من جلسة استماع برلمانية بسبب وجود امرأة محجبة مريم بوجيتو نائبة رئيس اتحاد الطلبة في فرنسا..

إنه موقف تمييزي بكل تأكيد. يستوجب الإدانة…

والخبر تتلقاه وسائل إعلام انفعالية تعيش على تأجيج المشاعر استدعاء لموجة غضب عارمة غضبة لله ورسوله لوقف تنمر الكفار على المسلمين في الأرض…

ويتم استدعاء الصيحات الهائجة وامعتصماه، ويتم توجيه الغضب لكافة المسلمين في الأرض على قعودهم عن نصرة دينهم…..


ولكن هل هذه هي الحقيقة؟

في الواقع لايتعدى الأمر موقفاً لنائبة تنتمي إلى يمين متطرف تريد استغلال لحظة ما لمآرب سياسية، وقد خرجت من قاعة الاجتماع، ولكن بالقدر نفسه يجب الاشارة الى موقف النواب الذي رفضوا موقفها وردوا عليها وعلى رأسهم رئيسة الجلسة ساندرين مورتش التي ردت عليها ورفضت سلوكها وتابعت الجلسة، وهو موقف يستحق التقدير…

وبالقدر نفسه فإن عاصمة الحرية تستحق الاحترام حيث وصلت فتاة محجبة في بلد لائكي لمنصب نائب رئيس اتحاد الطلبة…..

إنها محض إشارة لحدث بات يتكرر كل يوم، فقبل أسابيع اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي غضباً ضد رجل تافه لم يسمع به أحد نشر على صفحته انه يريد حرق القرآن الكريم، وعلى الفور انطلقت صفارات الإنذار في مسامع المسلمين من المحيط إلى المحيط للدعوة للثأر لدينهم، ومع أن الدولة السويدية قد أعلنت بوضوح أنها تعتبر هذا العمل طائشاً وغير قانوني، ولكن التحشيد والتهويل الإعلامي استمر بطريقة هائجة، وخرج بالفعل عشرات من اللاجئين في السويد ليقوموا بتحطيم عدد من المحلات غضباً لدينهم، ويعلنون خطاب الجهاد ضد الغرب كله وضد البشرية كلها لأنها تسكت عن هذا اللون من إهانة المقدس الإسلامي!!

بالطبع كان لهذه المظاهرات الهائجة أسوأ الأثر في إحراج النواب السويديين من أنصار المهاجرين، وبالتالي فقد قدم هؤلاء خدمة مجانية للتيارات التي تطالب بتغيير سياسة الحكومة تجاه المهاجرين.

في الواقع فإن أدنى دراسة للأدبيات الإسلامية تدعوك للوعي بموقف الإسلام الحكيم في التعامل مع حملات الإساءة، فالقرآن الكريم نفسه طافح باتهامات متتالية لرسول الله نفسه بأنه مجنون وساحر وكاذب ويملي اساطير الأولين… ولكن لم نسمع أنه حشد أصحابه في تظاهرة غضب يحرق فيها متاجر قريش أو يدمر بيوتهم، ومن أكثر المواقف حكمة وبصيرة أنه جاءه عدد من الأصحاب يروون له بحزن وغضب ما يتناقله المشركون من شتائم وأنه باتوا يسمون النبي الكريم مذمماً لا محمداً، في إشارة للإساءة والتحقير… تلقاهم رسول الله بأنس وبسمة وثقة وقال: ما لكم غاضبين؟ ألا ترون كيف صرف الله اسمي عن شتائمهم؟ إنهم يسبون مذمماً وأنا لست مذمماً أنا محمد!! وانتهى الأمر.

لقد استطاع الرسول الكريم بهذه الروح المسؤولة أن يوقظ بواعث الخير في تلك الألسنة الطائشة وأن يدعوها إلى إعادة التفكير، وطالما قتل الخلق الحسن خلق السوء، وعاد الشعراء الذين أنشأوا القصائد في ذمه، يكتبون القصائد في الثناء عليه وبات يلقي عليهم بردته الكريمة للعفو والغفران بعد سنين طويلة من الصدود والأذى والبهتان.

اليوم يتبارى متطرفون حاقدون في كل بلد فيها حرية لممارسات صبيانية تافهة لإهانة المقدس الإسلامي والمسيحي، ونحن نتطوع على الفور بمنحهم الشهرة والسمعة التي يرغبون، فمن الناس من يحب الشهرة ولو بالصفع على القفا، وهكذا فإنهم يبلغون أوهامهم وأمانيهم على مركب الانفعاليين الذين قال عنهم صالح بن عبد القدوس:

ما يبلغ الأعداء من جاهل… ما يبلغ الجاهل من نفسه

في الواقع لقد باتت هذه الممارسات جزءا من حملات متعاقبة تهدف في الجوهر إلى تكريس القطيعة بيننا وبين العالم، وإعادة الأفكار الإقصائية إلى الواجهة، وإعلان ان العالم ينقسم إلى فسطاطين دار إيمان ودار كفر، وأن هذا الصراع قدرنا المحتوم إلى نهاية الدهر.

بالتأكيد فإن الدول المتحضرة ليست بريئة من النزعات العنصرية والتمييزية … ولكن يجب التعامل مع ذلك بعقل وروية .. ونبذ القبيح ونشر المليح….


أنني لا أنكر الشر، فهو موجود في العالم .. ولكنني لا أعتقد انه مخصص ضد المسلمين أو العرب… بل هناك قدر من الشر في كل الأمم …

ولكن الأمم نجحت في التغلب على إرادات الشر فيما لا نزال نحن نخبط بأرجلنا الأرض ونصرخ: إنهم يتآمرون علينا ويمنعوننا من القيام!!

في وعي فريد يؤكد دوركهايم أن قدراً من الشر والجريمة ضروري في كل مجتمع.. والمجتمع الذي ليس فيه جرائم هو مجتمع غير حقيقي، وحين تقدم دولة ما سجلاً بعدم وجود مجرمين فيها فهذا له أحد تفسيرين:

  • إما أنه مجتمع من قبور غلب عليه القمع والقهر ومنعه من الحراك..
  • أو أنها قوائم كاذبة..

الحيوية والنشاط تقتضي حتماً ظهور بعض الجرائم والأطماع .. والمجتمع الحي هو الذي يتعامل مع هذه الظواهر ليعالجها ويقللها ولكن لا أمل مطلقاً في إنهاء الشر كله…..

الشر موجود .. وقد واجهه الياباني والصيني والماليزي والنرويجي والاسترالي والكندي… ولكنهم تعاملوا معه بذكاء وشقوا طريقهم نحو المستقبل..

أما أولئك الذين يفتحون حرباً لكل مخالف.. وصراعاً مع كل مختلف.. وزمجرة وتهديداً لكل معترض.. فسيمضون أعمارهم في مطاردة طواحين الهواء…

Related posts

د.محمد حبش- الإسراء والمعراج…حوار في السماء من أجل الحياة في الأرض 12/8/2007

drmohammad

د.محمد حبش- حوار فنلندا: من احتكار الخلاص إلى احتكار الحياة 8/12/2006

drmohammad

الديانة الإبراهيميَّة

drmohammad