مقالات

ميلاد مجيد

ميلاد مجيد

مع أن التهنئة بالأعياد هي أكثر وسائل التواصل والتكامل بين أفراد المجتمع الواحد، ولا أعتقد انها تحتاج إلى أي إثبات من المنقول والمعقول، وهي تندرج في البداهة والفطرة التي فطر الله الناس عليها لنشر المحبة والود ولكنها باتت اليوم أكثر أشكال التنازع والجدل البيزنطي العقيم، وباتت تؤدي عكس هدفها تماماً، وما إن تنشر تحية وتهنئة لأصدقائك من أتباع ديانة أخرى حتى يطل عليك الأتقياء المهذبون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يحذرونك من الضلال في العقيدة والمنهج واختلال فقه الولاء والبراء ووجوب البغض في الله لكل ما هو غير مسلم!

وحتى لا نتهم بالمبالغة فبإمكانك أن تعود إلى صفحة النجم الرياضي المصري محمد صلاح على الفسبوك ليلة الميلاد حيث نشر صورة له ولاسرته وابنته (مكة) بثياب بابا نويل مع شجرة الميلاد، وخلال لحظات كان عليه أن يتلقى مئات الآلاف من الاعتراضات الغاضبة التي تتهمه بالكفر والردة والزندقة وتنشر في فضاء الفيس بدون تردد فتاوى منسوبة لابن تيمية وابن القيم وابن باز تنص أن أشد كفر يمكن أن يقع به المرء هو تهنئة النصارى في أعيادهم!! وتولى اليوتيوبي الشهير إياد قنيبي تحليل المسالة لمئات الآلاف من المتابعين أيضاً بانها طعن في جوهر الدين وأن من يهنئ النصارى فهو يخدعهم مرتين لأنه يقرهم على شركهم ويترك إرشادهم وإصلاحهم وإنقاذهم من الظلمات إلى النور.!

ولعل قائلاً يقول لماذا تأخذ فضائحنا وممارسات الجهلة منا إلى هذا المنبر الاسترالي، وبالفعل فلو كانت المسالة حواراً في الغرف المغلقة لكان من الإساءة أن تنشرها على الملأ ولكنها اليوم جدل الفسبوك الأول، ويتبناها دون أدنى مبالغة ملايين كثير باتوا مقتنعين تماماً بانه لا إخاء بين الأديان ولا لقاء بين شيخ وكاهن ولا بين محراب وقداس، وأن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا!!

ويتم تدريس هذا السلوك تحت عنوان البغض في الله، أو الولاء والبراء، وكلاهما يتخذ صيغة منهج تربوي حاقد يهدف أن يكون أبناؤنا أكثر صلابة وكراهية وبغضاً للآخرين، وبدلاً من خطاب المودة والرحمة للعالمين الذي أمرنا به القرآن يتم تعميد هذه البغضاء باسم الرب، حيث يتم رسم صورة إله غاشم ساخط لا يكف عن اللعن والتنديد والوعيد والتهديد، يدعو أتباعه إلى بغض البشرية في الله، وهو بغض اعتقادي بات شيوخ السلفية يصبونه على كل أحد من غير المسلمين مهما كان إحسانه ولطفه وعمله الصالح!

فهل هذه المطالبات التي بتنا نقرؤها كل صباح على صفحات الفيس هي بالفعل وجه الإسلام الذي نقدمه للعالم؟

من المدهش أن أول سورة في القرآن الكريم هي سورة الفاتحة وهي سورة يحفظها كل مسلم، وهي تفتتح بذكر الله بصفتين متقابلتين الرحمن الرحيم، ثم تكرر الصفتين مرة أخرى الرحمن الرحيم، ومع أن أسماءه الحسنى تعالى تسعة وتسعون وهي تدور بين الرضا والسخط والنفع والضر والقبض والبسط ولكنه اختار الأسماء الأربعة في سورة الفاتحة من سياق واحد وهو سياق الرحمة والمحبة، وينص المفسرين في التفريق بين الرحيم والرحمن، أن الرحيم يرحم من يستحق، والرحمن يرحم من يستحق ومن لا يستحق وأن رحمته شاملة للعالمين!

وتؤكد الفاتحة أيضاً أنه وحده مالك يوم الدين، وحده يملك مفاتيح الجنة والنار، وهي أيضاً تقرأ بقراءتين مالك وملك وتقطع الجدل كله في حق أي إنسان أن ينصب نفسه قاضياً أو حاكماً أو مالكاً أو ملكاً ليوم الدين وحساب عباده!

وفي سورة الفاتحة استهلال بكلمة رب العالمين، ومن المدهش أنه لم يقل رب المسلمين أو رب المتقين أو رب الموحدين بل قال بوضوح إنه رب العالمين، فيشمل كل الأديان والملل والمذاهب والقوميات، وإذا كان هذا هو أول سطر في القرآن فإن آخر سطر هو رب الناس ملك الناس إله الناس، وهو نص شامل لكل البشرية على اختلاف أعراقها وألوانها وأديانها، وما بين الفاتحة والخاتمة ذكر بوضوح أدياناً وأنبياء وشعوباً وقبائل نعرفها ولا نعرفها ودعانا لاحترامهم جميعاً، ثم أشار بوضوح أن في القرآن رسلاً قد قصصناهم عليك وفي القرآن رسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً.

إنه أمر محزن أن تتسلل فكرة البغض في الله إلى مناهجنا وسلوكياتنا وأن يغيب من الإسلام الوجه الإنساني الذي أكدته عشرات الآيات ومئات السنن، والأشد حزناً أن يتطاول بعض المفسرين فيمسكون بآية السيف فاقتلوهم حيث ثقفتموهم التي نزلت في ظروف حرب أليمة، وتخص أفراداً محددين بالاسم والوصف، ثم يعتبرونها نصاً مطلقاً في الزمان والمكان، ناسخاً لكل ما في القرآن الكريم من آيات الرحمة والتسامح والإحسان؟ وحتى لا تشعر باي تردد فإنه يصرح بوضوح أن آية السيف قد نسخت وأبطلت سبعين آية من القران في الرحمة والمحبة!!

مروا بجنازة فوقف النبي الكريم احتراماً لها فقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فالتفت إليهم مستغرباً: أوليست نفساً؟؟ إنما بعثتم مبشرين ولم يبعثوا منفرين، فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر.

وحين مات النجاشي قال النبي الكريم لأصحابه مات الليلة أخوكم أصحمة بن أبحر النجاشي، قوموا بنا نصلي عليه!

قال بعض الصحابة: كيف نصلي على علج من علوح الروم ليس على ديننا؟ فانزل الله: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب….

كان الموقف غريباً على أسماعهم، فقد بلغوا من اليقين في دينهم حداً جعلهم أن الآخرين في ضلال مبين، ولا تليق بهم رحمة الله ولا إحسانه، وازداد استغرابهم من موقف النبي الكريم في الصلاة على رجل لم يصل صلاتنا ولم يستقبل قبلتنا ولم يستبدل بطارقته وكهنته بشيوخ وأئمة! لقد كانت الفكرة الأقرب إلى أذهانهم أن البشرية في ضلال إلا من اتبعنا وسار على منهاجنا!!
ولم ينته الجدل بذلك وعاد بعض الصحابة يقولون كيف؟ وقد كان الرجل يصلي نحو بيت المقدس ولم يسجد لله سجدة إلى الكعبة؟؟!!

على الفور نزلت في جوابهم واحدة من أروع ما نزل من القرآن الكريم وهي نص جامع يمكن أن يكون عنواناً لإعلان عالمي لإخاء الأديان وكرامة الإنسان:


ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم

Related posts

الدكتور محمد حبش- أدب الاختلاف عند الدعاة إلى الله 7/7/2006

drmohammad

د.محمد حبش- الترشح للمناصب العامة في الإسلام 27/4/2007

drmohammad

المونديال… عيال الله

drmohammad