نحو لغة إنسانية
في ترانيم الدعاء
ليست هذه الصفحة بكل تأكيد محراباً مناسباً لتعليم الديانة أو لتلاوة التراتيل الدينية، ولكنها منبر مناسب لنشر الوعي، واستخراج أجود ما في الإنسان.
والدعاء في الأصل علاج نفسي حقيقي، وهو ليس مجرد تمائم دينية بل هو حفر في باطن الإنسان، ومعالجة أخطر أمراضه، واستنطاق التداعي الحر بأعمق حاجات الإنسان.
إنه من الخطأ تصور العالم وقد وثب على قدميه ونفض غبار الماضي وما فيه من أذواق وأشواق، وترياق وإشراق، وراح يكتب بهندسة رياضية صماء، لا مكان فيها للقلب والمشاعر، بل إن الإنسان مهما كان علمياً وتقنياً يكتم في جوانحه طفلاً غائراً يتوق إلى عالم الغموض والإثارة والعجائب، وقد دخلت الكاتبة البريطانية جوان رولينغ باب التاريخ الواسع كأول ملياردير يثرى بقلمه عبر كتابها الشهير هاري بوتر وهو كتاب عجائب وخوارق يكفر بالفيزياء ويؤمن بالإنسان، ومن العجائب أن يكون أهم كتاب في سيكولوجيا القرن العشرين على الإطلاق هو كتاب فرويد وعنوانه تفسير الأحلام!
إنها المحاولة البصيرة للعلم لاكتشاف غار الإنسان الغائر، وهندسة آماله وأحلامه ومشاعره، وبناء الإنسان الجميل في كهوفها وتلالها وسهولها.
وفي السنة النبوية فإن الرسول الكريم كان يعلم أصحابه الدعاء، ويدعوهم إلى ابتكار غرائبه وعجائبه، وكان يعتبره أوضح صورة من التداعي الحر يظهر فيها الإنسان أعمق ما في جواه، وأرق ما يحدوه من أمل وأعذب ما تجود به روحه من رجاء.
ولكن الممارسات الشائعة اليوم من الدعاء، توقفت منذ زمن بعيد عن رسالتها الإشراقية، وتحولت إلى محض تمائم ترتل دون هدف حقيقي، ونجح قادة الكراهية في جعل صيغ الدعاء الشائعة رسالة عديمة الأخلاق، وركيزة في الشقاق، وصنعوا من الله الذي هو محبة ورحمة محض مستبد غاشم ينتظر أن يقدر على عباده المشغولين عنه فيبطش بهم قهراً وجبروتاً.
تقوم المنابر برسالة الأخلاق ولكن بات مألوفاً ان يستبد بالخطيب الغضب كلما ذكر العصاة والمخالفين في الدين، وبدلاً من روح التسامح والمحبة يصرخون بنزق في بث مشاعر الكراهية في الإنسان باتجاه المختلف عنه في الدين والموقف: اللهم دمر جمعهم وشتت شملهم ورمل نساءهم ويتم أطفالهم واقطع نسلهم وامحق بذرهم !!
اللهم غضباً ماحقاً وموتاً ساحقاً اللهم أحل بهم سخطك وانزل عليهم غضبك ونقمتك وارنا بهم بطشك وقوتك اللهم انهم لا يعجزونك فانت جبار السموات والارض ارنا بهم عجائب قدرتك اللهم جمد الدماء في عروقهم اللهم وشل اركانهم اللهم اجعل طعامهم سماً وهوائهم حماً وايامهم غماً ونومهم هماً، اللهم دمرهم تدميرا والعنهم لعنا كبيرا واصلهم سعيراً واحعلهم وأكفالهم ونساءهم غنيمة للمسلمين
وتعلم المسلم أن ينصت لكل هذه المشاعر الغاضبة، ويعتبرها جزءاً من الإيمان.
لقد جعل هؤلاء الدعاء قطيعة عن الواقع وانفصالاً من الحياة، ثم صار انغماراً في رغائب المستبد والظالم وتمكيناً لديكتاتوريته، ومضى على ذلك أمر الآباء جيلاً بعد جيل، حتى انفجر جيلنا الغاضب بالتمرد وراح يصرخ مع نزار قباني: انا قتلت الإمام!! قتلت إذ قتلته كل الطفيليات في حديقة الإسلام، كل الذين يطلبون الرزق من دُكَّانَةِ الإسلام!!
في المحاولة التالية اقتراب من وعي آخر بثقافة الدعاء باعتبارها سيكولوجيا العقل العابد، وهي منسوبة إلى شكري الديابي وإلى خالص جلبي وأرجو أن يكون لي منها نصيب:
اللهم ابعث فينا ملكة النقد الذاتي، والإجتهاد في العمل والتعلم..
اللهم إبعد عنا روح التقليد وإزرع فينا روح الأبتكار….
اللهم علمنا إحترام الوقت، والثقة بالإنسان، والرحمة بالناس، وتقدير المراة، والشغف بالعلم، والبحث العلمي، وعشق الكتاب….
اللهم ارحمنا من نار التعصب وألهمنا روح التسامح…..
اللهم حررنا من الجمود العقلي وعلمنا ترقية عقولنا وألا نخاف من العلم.
اللهم علمنا النظافة، وروح الجمال، ودقة المواعيد، وإتقان العمل، والذوق الرفيع فى قيادة السيارات…
اللهم علمنا أن نحافظ على بيئتنا نظيفة من التلوث..
اللهم علمنا الأناقة فى كل عمل، وحسن الأداء والألفاظ الكريمة، والتعامل بإحترام مع كل البشر، والوفاء بالتزاماتنا وديوننا فى مواعيدها..
اللهم حبب إلينا الحوار وفن الأصغاء والصبر على مخالفينا فى الأفكار
اللهم علمنا ألا نطلق أحكام التكفير والزندقة على الناس وحبب إلينا الإختلافات والتعددية…
اللهم حبب إلينا زراعة الورد والعناية بالشجر وأحترام القانون والنظام وكراهية الفوضى والتسيب الوظيفي.
اللهم ازرع فينا روح السلام وأبعد عنا روح العنف وعقلية التآمر
اللهم إمنحنا قدرة ضبط النفس عند شدة الانفعال ونار الغضب وعدم الأنقياد خلف الدعوات للعنف والكراهية والتطرف.
اللهم ساعدنا وألهمنا الصبر وصلابة الإرادة لنغير ما بأنفسنا ونسعى بجدية وعزيمة لتحقيق كل هذه الأحلام والأمنيات.
اللهم أكرمنا بوطن لا ظلم فيه ولا قهر، تسود فيه الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان
اللهم إني أسألك محكمة ينتصر فيها المظلوم ويذل الظالم، ينال فيها الراشي والرتشي الذل والهوان والإفلاس.
اللهم إني اسالك مجتمعاً نقياً يحتكم إلى القانون ولا يبغي فيه أحد على أحد، ولا يظلم فيه أحد أحداً
اللهم إني أسألك جنة في رضوانك أخدم فيها نفسي بنفسي، ولا أذل لاحد ولا يذل لي أحد، ولا يكون فيها سيد وعبد، ولا امة ولا رقيق.
هل حان الوقت لنقوم بإصلاح ثقافة الدعاء؟ محراب القلب وقنديل الروح؟ بعد ان بطشت السياسة بروحه النقية وحولته إلى تمائم من غضب وسخط تفسد الأخلاق وتقتل الأذواق؟
السؤال رهن أئمتنا الواعدين في المحاريب والمنابر.
فكان أهل مكة في جفافها وقحطها إذا سالوا الله شيئاً طلبوا منه جنات تجري تحتها الأنهار، وأنهاراً من عسل مصفى وأنهاراً من لبن وأنهاراً من خمر لذة للشاربين، وكانوا يطلبون الحور العين والغلمان المخلدين كأنهم لؤلؤ مكنون، ويطلبون أشجاراً من سدر مخضود وطلح منضود وماء مسكوب، قطوفها دانية وعينها جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، وهذا في الواقع كان أملاً يرجوه أبناء تلك الصحراء فإذا غمرهم الله بحنانه أظهروا إليه حوائجهم ومسائلهم.
وليس شيء من ذلك
وكذلك نحن أنني حضرت تلك المجالس النبوية وسالني الرسول الكريم أن أطلب من الله ما أشاء في الجنة فإنني لن اتردد أن أطلب في الآخرة ما حرمنا منه في الدنيا، اللهم أكرمنا برغد الحنة وأسعدنا فيها بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان، واجعل الديمقراطية نمط حياتنا وشكل تضامنننا وتكاملنا وتكافلنا.