تستقبل أربيل غداً زيارة بالغة الأهمية يقوم بها بابا الفاتيكان الحبر الأعظم في سياق زيارة يقوم بها إلى العراق يزور فيها مدينة أور مهد النبي إبراهيم ويلتقي المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، وقد اختار أن يقيم قداساً شعبياً في أربيل.
ومع أن هذه صفحة رأي وليست صفحة أخبار، ولكن لا يمكننا أن نتجاهل المعنى الكبير لهذه الزيارة والوصول إلى أرض صلاح الدين حيث شهد التاريخ أعنف ملاحم الصراع بين الشرق والغرب بين ملوك أوروبا الذين تحركوا بجيوش سائبة طامعة بتحريض من البابا، وبين إرادة الشرق في الحرية والاستقلال التي كان يمثلها عن جدارة ووعي القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي.
إنه بطل التحرير الذي يحظى بشعبية عارمة في الشرق الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، بالتأكيد سيكون حضور البابا هنا ذكرى بهجة وأنس لتلك البلدات التي شهدت طفولة صلاح الدين في محافظات صلاح الدين ونينوى وكركوك، حيث يكون قدومه هذه المرة مختلفاً بالمطلق عن حضور أساطين حروب الفرنجة الذين جاؤوا من دوقيات أوربا المختلفة عبر نداء أوريان الثاني الذي كان عملاً طائشاً همجياً قلب طبيعة العلاقة الودية بين الإسلام والمسيحية إلى سياق آخر وأوقد نار الكراهية بين الشرق والغرب قروناً طويلة بحيث لا زالت تطل بين الحين والآخر ذكرى الحروب الصليبية التي دفع المسلمون والمسيحيون من أبناء المنطقة على السواء ثمناً باهظاً من نفوسهم وأرواحهم من أجل سداد فواتيرها .
لقد ظل المؤرخون العرب جميعاً قروناً طويلة لا يستخدمون لفظة الحروب الصليببية نظراً لأنهم لم يصدقوا أبداً أن الرمز الديني يمكن أن يكون أداة للحرب والكراهية، واستخدموا بدلاً من ذلك صيغة أكثر واقعية حين سميت هذه الحروب بحروب الفرنجة، على الرغم من أن الفرسان من بارونات الحرب كانوا يصرون أن لا تغيب صورة الصليب عن صدورهم وجباههم كلما تقدموا صفوف الكتائب التي كانت تحمل رياح الموت، ومع أن المسلمين يحتفظون بوعي آخر في مسألة الصلب ولكنهم لم يشاؤوا أن يطبعوا أنفسهم بخيارات الفرنجة في العصور الوسطى الذين كانوا لا يتورعون عن استخدام سائر الوسائل مهما كانت مقدسة من أجل إذكاء نار هذه الحرب .
كان صلاح الدين أكبر بطل قومي وديني في بلاد الشام، وحول ضريحه تفوح رائحة مئات الألوف من الشهداء من المسلمين والمسيحيين على السواء الذين وقفوا من حوله يدافعون عن هذه الأرض في وجه أطماع الفرنجة في العصور الوسطى، وهو المعنى الذي أكدته دراسات كثيرة محايدة من الشرق والغرب تعد بالألوف .
لقد طوى التاريخ صفحاته، وصارت جزءاً من الماضي ولكنني لا أشك أن الغرب والشرق جميعاً باتوا يحترمون الموقف النبيل لصلاح الدين في قيادة الأحرار من أبناء الشرق لمواجهة الغزوات الأوربية الفاجرة، في حين بات المؤرخون في الغرب يشعرون بالعار لهذه الحروب المجنونة التي كانت بدون معنى، وأن موقف صلاح الدين ورجاله كان موقفاً نبيلاً يستحق الإكبار والتقدير والاحترام.
اليوم يؤكد البابا من جديد عمق الروح التي تصل بين المسيحية والإسلام، بعد أن عانى هذا الشرق الروحاني تاريخياً من الفتاوى اللاهوتية الماحقة التي صدرت عن البابوية ضد الأديان المختلفة وضد الكنائس المختلفة أيضاً فكنائس هذا الشرق ومساجده صنفت مراكز ضلال مبين عند بابوات العصور الوسطى منذ خلقيدونية، ولكنه اليوم سيلتقي أبناء الإيمان المشرقي من مسلمين وأرثوذكس في صيغة اعتذار من الماضي، ورجاء نحو المستقبل، واعتراف بعظيم التشويه الذي تمت ممارسته نحو الله الذي تم احتكاره لإيمان محدد، وتم تصنيفه لصالح كنيسة محددة وبات مع الأمم الأخرى ساخطاً غاضباً لا يعفو ولا يرحم.
ومن وجهة نظري فإن هذه اللقاءات الكبرى مسؤولة ان تحقق تغييراً جذرياً نحو الآخر، بحيث تتوقف خطط التبشير المسيحي في العالم الإسلامي، وكذلك خطط الدعوة في العالم المسيحي، إذ سيكون واضحاً أن الإسلام والمسيحية ليسا إلا دعوة للإله الواحد وإن من العبث التخطيط لتنصير المسلمين في الأرض إذ هم يمارسون إيماناً صحيحاً، ويمكن بذلك أن يوفر التبشير المسيحي جهوداً وأموالاً طائلة ينفقها في هذا السبيل لتنفق في وجوه أخرى من التنمية في البلدان الفقيرة من دون ان تكون مكرسة لتحويل المؤمنين عن دينهم، وبذلك ندرأ أهم أسباب الكراهية التي لا تزال تشتعل في بلاد كثيرة عندما يكتشف الناس ان الآخر لا يرى في دينهم إلا ضلالاً مبيناً وهو ما يوقد رياح البغضاء والكراهية والحقد .
لقد كان حراكهم في البر والبحر وفي القفار البعيدة قاسياً ومضنياً وكان بارونات الحرب يزخرفون تلك النوايا المتوحشة بأنها إرادة الرب لإخراج الناس من الضلال إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور، فقد حدد الرب طريق الخلاص عند صخرة بطرس، ولم يعد في العالم إيمان مقبول إلا الإيمان الكاثوليكي، ولم يبال دواعش ذلك العصر ان يستخدموا عبارات دواعش هذا العصر لقد جئناكم بالذبح رحمة للعالمين، ولنا في كل نفس كافرة نزهقها أجر، ولا خلاص للبشرية من سيوفنا في الأرض، ومن عذاب ربنا في السماء إلا الخروج من أديانهم الباطله واعتناق الإيمان الصحيح، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى الجنة إلا عبر الطريق الصحيح وأن اقتضاء الصراط المستقيم البراءة من أصحاب الجحيم.
إنها الأمراض نفسها التي نعانيها اليوم عبر اجتهادات ضيقة الأفق تنتهي بفتاوى تكقير ودم، ومن المؤسف أن يتقبل قسم كبير من الناس هذه الفتاوى المتوحشة باعتبارها دفاعاً متيناً عن العقيدة.
إن من شروط النهضة ان يقرأ الإنسان التاريخ بعين بصيرة، ناقداً لا حاقداً، وإذاء ذلك فإن الأوربيين باتوا يعترفون باستمرار باخطاء متوحشة ارتكبوها في حق الشعوب التي كانت تدافع عن حريتها وكرامتها في وجه أطماع مجنونة ترتدي عباءة الدين ولكنها تثخنها بالجيوب المنفوخة بالمال الحرام والإثم الحرام، وباتت الدراسات التاريخية الموضوعية في أوروبا تشير بوضوح إلى الحروب الصليبية على أنها صفحة سوداء في تاريخ الإنسانية مارست فيها أوروبا أشد الخطايا جنوناً وإلحاداً ووصمت بها وجه الرب!
المشاهد المنتظرة من أربيل تحمل رسالة واضحة للناس بأن العالم قد تغير، وأننا أصبحنا في عالم جديد وأن الإيمان لا يعدو منحة من نعمة يمكن أن تسهم في إسعاد كل أمة، وان الله تعالى لا يمكن احتكاره لأمة ولا دين، ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم.