مقالات

عبادة الأساطير

قراءة عند قبر شمعون بار يوشاي

44 قتيلاً و150 جريحاً من الإسرائيليين الحصيلة الأولية لقتلى التدافع في الحفل الديني الذي أقيم في الجليل الليلة، عند جبل ميرون في احتفال لاك بوعومر السنوي، وهو رقم لم تسمعه إسرائيل منذ عقود طويلة.

ومن المخزي بالطبع أن إسرائيل مارست أشد البطش بحق الفلسطينيين الذين تمردوا على الإجراءات وأصروا على الصلاة في بيت المقدس، ولكنها عجزت عن فعل الشيء نفسه في مواجهة قطعان الهائجين المحتفلين بيوم شمعون بار يوشاي في الجليل وجلست تتفرج عليهم حتى كانت الكارثة الماحقة.

وتمضي هذه المقالة لتناول الأمر من زاوية أخرى حيث تقدم هذه الحادثة الدامية أوضح دليل لما يمكن أن يفعله التعصب الأعمى بعقول الدهماء، ففي عصر الكورونا التي تجمع الهيئات الصحية في العالم على أنه التزام حتمي وليس خياراً مستحباً ويفرض العالم كله عن بكرة ابيه إجراءات صارمة لوقف تفشي الكورونا، فإن رجال الدين يهزؤون من العلم والمعرفة والمعلومات المخبرية ويحثون الناس على مزيد من الهياج للمشاركة في حفل ديني قائم على سلسلة من الأساطير والأوهام.

وفي إسرائيل التي تعتبر من أسوأ بلاد العالم في تفشي كورونا وانتشاره، وفي بلد يقول إنه يضم أرقى الجامعات ويشهد حالة متقدمة من التكنولوجيا، وينال طرفاً من جوائز نوبل في كل موسم، لا يزال الخطاب الديني يعيش على وهم الخرافة والأساطير المؤسسة للكيان الإسرئيلي، ولا زالت الخرافة تعصف بكيانه ووجوده في الشكل والمضمون ولا شك أبداً أنها تحكم قدراً غير قليل من سياسته في الداخل والخارج، وتحرضه على مزيد من المظالم والجنون.

والأسطورة يتبناها بشدة اليهود الحريدوم وتقضي بوجوب أن يتوجه كل يهودي أرثوذكسي إلى الجليل لرؤية العجائب التي تظهر من قبر الحاخام شمعون بار يوشاي كل عام في أواخر أبريل حيث يتم التهاب النار المقدسة ومن خلالها تشرق معارف الحاخام المقدس في الرعية بفضل قوته الروحية العابرة للزمان والمكان.

والحاخام شمعون بار يوشاي، رجل دين يهودي عاش في القرن الثاني الميلادي في الجليل، ويعتبر من وجه نظر اليهود مؤسساً للتعاليم الدينية التي أضيفت إلى التوراة، والتي صارت أصل التلمود اليهودي.

والأسطورة التي يؤمن بها اليهود أنه في أعقاب ثورة شمعون باركوخبا في فلسطين ضد الإمبراطورية الرومانية 134م فإن الامبراطور الروماني هيديريان قام بالبطش بالقدس وتخريب الهيكل وقتل باركوخبا والقضاء المبرم على دولة اليهود التي أسسها باركوخبا ودمرها بالكامل، وقام ببناء مدينة وثنية رومانية فوق الهيكل والمعبد وأسماها كولونيا إيليا كابيتولينا ومنع اليهود من الدخول إليها.

وخلال ذلك هرب الحاخام الشهير شمعون بار يوشاي إلى مغارة عكف فيها عدة سنوات حتى مات الامبراطور هيديريان 138م، وبعد ذلك خرج على الناس بإلهامات جديدة دخلت في المشناة والجمارا التي صارت أهم كتب اليهود الدينية وهي عمدة التلمود.

وتمضي الأسطورة فتشير إلى أن يوشاي طرد الأرواح الشريرة من القدس وأمرها أن تذهب إلى قصر الامبراطور في روما، وبالفعل فإن الشياطين ذهبت إلى روما  واقتحمت قصر بيوس وأفسدت عليه حياته وتسببت في جنون ابنته انتقاماً لما فعله سلفه هيديريان باليهود، ولم يجد الامبراطور سبيلاً للخلاص إلا التوسل إلى الحاخام يوشاي فأرسل إليه رسولاً يرجوه إنقاذه وإنقاذ أهله من الشرور الشيطان والأرواح الشريرة ولكن يوشاي رفض حتى تعهد له الامبراطور بفعل ما يأمره به، وبالفعل فقد سافر يوشاي إلى روما مع اليعازر بن خوسيه وتمكن من معالجة الامبرطور بيوس الذي كان يعاني من مس الجن مع ابنته ونجح يوشاي في طرد الأرواح الشريرة وصعق الشيطان من القصر الامبراطوري وكان شرط الحاخام بالطبع أن يسمح لليهود بالعودة إلى القدس وبالفعل وبأمر إلهي صادع وتراتيل توراتية خاصة استجاب الامبراطور وسمح لليهود بالعودة إلى القدس وبناء معبدهم من جديد

وهكذا فإن بوشاي في الذاكرة اليهودية هو منقذ الدين والدنيا، وهو صاحب الإلهامات الروحية التي كتب بها التلمود والمشناة والجمارا كما أنه صاحب الخلاص الذي حرر به اليهود من آثار تدمير هيديريان.

ومع أن القصة طافحة بالخرافات والسحر والعجائب المشروخة ولكن القوم لم ينجحوا أبداً في جامعاتهم ومخابرهم بإقناع العقل المتعصب أن يتوقف عن تصديق خرافات كهذه، ولم ينجحوا أبداً في إقناع الأرثوذكس اليهود بان يتوقفوا قليلاً عن هذا الطقس الهائج إلى حين انتهاء كورونا أو تنظيمه في أماكن أكثر أمناً وبات من يشكك في فرضية هذا الطقس الديني متهماً بأنه من أعداء الديان وعبيد الشيطان.

ونشر العديد من حاخامتهم وواعظيهم خطباً ومواعظ كثيرة موجودة على يوتيوب وهي شبيهة بما نعرفه في العقل المتعصب في كل دين، أن الكورونا لن تجرؤ على الاقتراب من ضريح الحاخام المقدس يوشاي، وأن مقتل هذا الفيروس اللعين عند ضريح يوشاي، كيف لا وهو الذي طهر روما من الأرواح الشريرة وأنقذ بيوس وابنته من الموت، وهو من قضى على كورونا ذلك الزمان وسيقضي على كل كورونا إلى آخر الدهر.

ليس هدف هذا المقال شرح تاريخ اليهود في القرن الثاني ولكنها مناسبة نسلط فيها الضوء على أن التعصب ملة واحدة وعقل واحد وخرافة واحدة، ولم تنفع الدراسات العملية والتفوق الأكاديمي اليهودي في الجامعات الأوروبية والأمريكية وجوائز نوبل التي يحصدها اليهود على طول الخط في تخليص العقل المتعصب من الوهم والخرافة والتحول إلى عقل حضاري يحاكم الأشياء بالمنطق والمعقول.

وتعيش طائفة تولدوت أهارون من الحريديم التي تتبنى هذا الاحتفال في داخل المجتمع الإسرائيلي منعزلة بافكارها وتصوراتها ورؤيتها وتنص تعاليم الطائفة انها الفرقة الناجية بالتأكيد والآخرون كفار هالكون في الجحيم وأن العالم كله خارج تولدوت أهارون عالم مظلم وشرير.

ويرفض أفراد الطائفة بإصرار أي تطور علماني، ويصرون على محاكم خاصة وقوانين خاصة بشؤون الأسرة يمنعون أي تدخل حكومي فيها، ويصرون على التصرف ككيان متحد وليس كأفراد، ويرون أن العالم يتآمر عليهم لتمييع دينهم ولي أعناق النصوص فيه، ولذلك فإنهم يرفضون أي رأي خارج اختيار الجمهور ويعتبرونه خروجاً على الثوابت وزندقة ماكرة، كما يصرون على أنهم خير امة أخرجت للناس، وأن الله فضلهم على العالمين، ولن يدخل الجنة إلا من كان حريديم وبالذات من تولدوت أهارون.

إنها مناسبة نتذكر فيها تغلغل الخرافة في العقل المتعصب إلى درجة تعميه عن النظر في معنى احتفالات بائسة لا تمت للعقل ولا للمنطق ولا للتاريخ بشيء من الحقيقة، وتعميه كذلك عن النظر في أوامر العلم والصحة في وجوب التباعد والاحتراز في مواجهة كوفيد الذي بات وحشاً كاسراً يفتك بالبشرية، وتعميه عن الحقائق العلمية في اعتماد الطاقة الاحتمالية للجسور وأنها يمكن أن تنهار إذا تجاوزت الطاقة الاحتمالية ولو كان عليها شمعون بار يوشاي نفسه، فيما سيصر الحاخامات أن يوشاي هو من حمل الجسر بنفسه حتى نجا الآلاف من الزائرين وستنتصر الأسطورة من جديد.!!

إننا نتكلم بالطبع عن حادثة في المجتمع اليهودي، ولكنها مناسبة للعقل الخرافي الذي يفتك بكثير من شبابنا ويحمله على اعتقادات مدمرة تدفعه لإنكار الحقائق العلمية والواقعية، والتراكم حول مرجعيات تنشر الطائفية والحقد الأعمى وتحصر الدين والدنيا في حدود الطائفة، ثم تستميت في الدفاع عن الأسطورة، والقتال في سبيلها، وتعود إلى الإصرار أننا في أحسن حال ولا نحتاج أي تغيير أو تنوير.

إنه أفضل الوقت للتذكير بما حذر منه الرسول الكريم بقوله: لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.

Related posts

د. محمد الحبش- العصر الذهبي للدعوة إلى الله 2/11/2007

drmohammad

نوروز الإسلام – وعي جديد بيوم العيد

drmohammad

المونديال… عيال الله

drmohammad