Uncategorized

عبد الحميد الأتاسي – يرحلون وتبقى مدارسهم

ودعت سوريا السياسي المخضرم عبد الحميد الأتاسي الذي رحل في فرنساعن عمر تجاوز الثمانين عاماً، وهو أحد أبرز الموقعين على إعلان دمشق، وعضو المجلس الوطني السوري، وأحد أشهر المناضلين من أحل حرية السورين واستقلالهم.

ومع أنني لم أكن من رفاق المناضل ولا أصحابه، ولم يكتب لي لقاؤه ولا التواصل معه، ولكنني سعيد بالدور النبيل الذي تقوم به ابنته الكاتبة الشجاعة لمى الأتاسي، وأرجو ان تقع هذه الكلمات في باب مشاركتها العزاء الجليل.

عبد الحميد الأتاسي بدا إعلانه رفض الاستبداد قبل خمسين عاماً وقد فرض عليه موقفه هذا مغادرة سوريا عام 1976 ولا أدري لماذا يجب على المعارض أن يرحل من بلده وأي خير يرجى في الأنظمة التي تضيق بمعارضيها وتغلق عليهم نوافذ البر والبحر وتلقيهم في الشراد.

والكتابة عن عبد الحميد الأتاسي ليست فقط للحديث عن دوره ونضاله، وهو تاريخ واضح ومشرف في مقارعة الاستبداد، ولكنها مناسبة للكتابة عن الآباء المؤسسين في سوريا وعن الدور الوطني الكبير لرجالات سوريا التاريخيين الذين يتم تهميشهم وغمرهم في غمار خطاب الممانعة والمقاومة والتصدي والصمود.

فقد مضى الاستبداد عن عمد وقصد في إطفاء جذوة البيوت السياسية العريقة في سوريا، وعلى الفور اعتبر أن القيادات التي أسست للديمقراطية في سوريا أعداء للثورة، وبدأ يطارد الرجال الذين كانوا يمثلون طموح الشعب وآمال الناس، وهكذا فقد تم ترحيل الشخصيات السياسية الكبيرة وباتت عائلات السياسة التقليدية التي عرفها الناس في مقاعد البرلمان والوزارة من عائلات الأتاسي والجابري والقوتلي والخوري والحسني والعابد والعظم وغيرهم من العائلات العريقة أعداء تقليديين لللنظام، وكان التعامل معهم يتم على أساس الجينات المعادية للطبقة الكادحة من العمال والفلاحين، ثم تحول الأمر إلى الجينات الرافضة لمنطق المقاومة والممانعة الذي حول البلد كله إلى بلد عسكري توضع كل موازنته ومشاريعه وبرامجه في خدمة المعركة، فالتنمية مؤجلة والتعليم مؤجل والرفاهية مؤجلة والفن مؤجل إلى حين الانتصار في المعركة، ويجب حشد الطاقات كلها من أجل المعركة، وهي المعركة التي توقفت بالكامل منذ نصف قرن ضد الصهاينة، وتحولت إلى قتال وبراميل ضد الشعب يتم فيها تشريد الملايين ولا يزال العنوان هو العنوان المعركة المصيرية الحاسمة مع أعداء الأمة!

هذه العائلات السياسية الكبيرة في سويا ثقافة وتراث، ويجب الاعتراف أنه قد تم عن عمد وسبق إصرار وتصميم تنفيذ حملات تشويه مبرمجة ضد هذه الأسر العريقة، وممارسة أشد أشكال الإلغاء والتهميش والتمييز ضدها حتى وجدت نفسها تلقائياً خارج الوطن وباتت تتحدث عن الحرية والكرامة والديمقراطية بحيث يسمعها كل أحد في العالم إلا الشعب السوري المظلوم المحكوم ببوق إعلامي يكرس ليل نهار للتسبيح بحمد القائد وتبجيله والثناء عليه.

إنها مسؤولية أخلاقية ومجتمعية أن تقوم مراكز الدراسات السورية بتدوين أعمال هذه الأسر العريقة، والترويج لها بوصفها جزءاً من الذاكرة السورية التي تختزن أجمل ما في سوريا من ذكاء وأناقة ودبلوماسية.

في كل دولة في العالم أرشيف وطني، يتولى القيام عليه فريق وطني يؤمن بقدرات القادة والمفكرين والمبدعين في الوطن ويدونها كما يليق بها في الأرشيف الوطني باعتبارها تراثاً وطنياً مجيداً، ويتم بذل جهد مضاعف للوقوف على الدور الوطني للمعارض السياسي، باعتباره المستشار المجاني للحكومة وباعتباره ذاكرة الوطن وتاريخه.

لا أعرف في العالم أمة تطارد مفكريها وأحرارها كما تفعل هذه الأمة، وفي أمريكا وأوروبا مليون معارض كلهم يقفون بشراسة وعزيمة ضد الرئيس، ويطالبون بإسقاط النظام في النهار وينامون في بيوتهم في الليل!!  وحدها الدول الفاشلة تطارد أحرارها وأبرارها وتنصب لهم مشانق الموت على الكلمة والتعبير واللايك!

أدى هذا السلوك الذي مارسته حكومات البعث المتعاقبة إلى تصحر في الحياة السياسية وغياب متعمد لتاريخ جميل من المشاركة السياسية المتفوقة التي قدمها جيل من المخضرمين في السياسة الذن جعلوا فترة الخمسينات من القرن الماضي أغزر فترات الأداء الدستوري عطاء ونجاحاً.

كل كلمة نكتبها اليوم في نزاهة شكري القوتلي وبراعة هاشم الأتاسي وذكاء فارس الخوري فهي خدمة للذاكرة السورية وحماية للمجتمع ووفاء للوطن.

إنني أثني من القلب على الجهود التي يقوم بها كاتبون مميزون يحفظون الذاكرة السورية بدءاً من البديري الحلاق وصولاً إلى سامي مبيض وعماد الأرمشي وسهام ترجمان ومحمد قجة وشمس الدين العجلاني وعبد العزيز العظمة وغيرهم كثير، فهي دراسات تنعش الذات السورية الغنية، وإني آمل بصدق أن لا يتورط هؤلاء الكتاب في زخرفة الاستبداد، وأشعر بالعار أننا مارسنا ذلك زمناً، فسوريا ملك لتاريخ طويل له رجاله ونساؤه من المؤسسين للمجتمع الديمقراطي الحيوي وهو المجتمع الذي حكم عليه الاستبداد منذ نصف قرن بالعمالة والرجعية حتى صارت صفة البورجوازية تهمة جاهزة ضد كل معارض تحل عرضه وعقوبته.

في إحدى جولاته في حلب تلقاه أحد الغاضبين وأمسك بثوبه وقال له: شكري بيك.. بدنا حرية… ضحك شكري القوتلي وقال: أيها العزيزها أنت تمسك بمعطف الرئيس وتشده إليك وتطالب بالحرية، فماذا تريد أكثر؟! وضحك شكري وضحك الرجل وضحك الجميع… إنها بالفعل ذكريات لم يعد بالإمكان تصديقها بعد عصر التأليه السياسي للحاكم الذي سحق الحرية والديمقراطية ونعمة الاختلاف.

لقد صارت مواقفهم مثلاً للشعوب في نشدانها الحرية وإعجابها بالبراعة الدبلوماسية ويمكنك أن تقرا في عشرات الصحف العربية مواقف فارس الخوري كعميد للدبلوماسية العربية، وخاصة موقفه في مجلس الأمن حين كانت سوريا عضواً غير دائم فيه وكان رئيس الوفد السوري فارس الخوري وقد اختار أن يجلس على مقعد المندوب الفرنسي، وأخبره البروتوكول بأن هذا ليس مقعد سوريا بل فرنسا، ولكن فارس الخوري ظل على الكرسي ووصل المندوب الفرنسي ووجد الكرسي مشغولاً من المندوب السوري وحين طلب إليه أن يتحول إلى كرسيه رفض وأصر على الجلوس على مقعده سبع عشرة دقيقة والجميع متعجب من سلوكه وموقفه ومخالفة للبروتوكول، ولكنه التفت بعد ذلك امام دهشة الجميع وقال للمندوب الفرنسي لقد أغضبك أني جلست على كرسي فرنسا سبع عشرة دقيقة، ولكن ليعلم العالم أن هذا الرجل وحكومته يحتلون بلادي منذ سبع عشرة سنة، أمام سمع العالم وبصره وبمعرفة مجلسكم الموقر.

من المؤسف ان تقرا هذه القصة في صحيفة الفجر الجزائرية والبيان الإماراتية والجزيرة القطرية ولكنك لا تقرؤها في صحيفة رسمية سورية!!

رحم الله العزيز عبد الحميد الأتاسي، لقد كان رحيله مناسبة للفضفضة عن غياب الروح السورية الأصيلة التي يتعمد الاستبداد تغييبها، ونتورط نحن في تجاهلها وتناسيها، ونطفئ عن عمد تلك الشموع الكريمة التي منحت أجيالنا الحكمة والنور.

Related posts

اليابان… تكنولوجيا الإيمان

drmohammad

الصراع في ثوب العقيدة- أردوغان وماكرون

drmohammad

ميلادٌ مجيد… قراءة في لاهوت الإيمان

drmohammad