Uncategorized

أوروبا والإسلام… مستقبل الصدام والوئام

أصبح من المؤكد أن القارة العجوز على موعد قريب مع تحديات ديمغرافية بالغة التأثير، تفرض شكلا جديداً من الحياة، فالتكاثر الذي تتميز به الجاليات الاسلامية في اوروبا وموجات النزوح والتوطن في بلدان أوربا دفعت مراكز الأبحاث إلى تقديم قراءات استشرافية لمستقبل القارة الأوربية ، ويمكن بسهولة الوقوف على عشرات التقارير والدرسات التي تؤكد تجاوز نسبة المسلمين لثلث السكان في أوروبا خلال عقود قريبة.

ولا شك في أن ذلك التنامي في عدد المسلمين قائم على نسبة الخصوبة والتكاثر في المقام الأول، والهجرة والتحول الديني في المقام الثاني.

قناعتي أن اختلاف التحليلات لا يلغي الحقيقة الاتفاقية، وهي أن الإسلام ليس في آخر أيامه وأنه لا يشهد أي نوع من الأفول الذي يتمناه له خصومه؛ بل هو في منعطف انطلاق جديد وهو بكل تأكيد وباتفاق الكل مؤهل للاستمرار في التأثير والحضور لقرنين تاليين على الأقل.

ولكن من المؤسف أن الإسلام الجديد المتمدد في القارة الأوربية ليس من نوع الاسلام الروحي والصوفي الذي جاء بمراد هوفمان وأوغست كونت وروجيه غارودي إلى الإسلام؛ بل هو إسلام عنيف من نوع اسلام المئات من الفرنسيين والبلجيكيين والبريطانيين الذين أقنعهم سيد قطب بجاهلية القرن العشرين ثم سحرهم ابن لادن بخطابه العابر للقارات، ثم اختمرت في أذهانهم فكرة السلفية الجهادية، وكانوا ينتظرون صيحة البغدادي ليهبوا من المدن الأوربية الغافية بشعورهم الشقراء المتدلية في حالة رفض هبيزي لكل قيم الحضارة ونواتجها والعمل على اسقاط الحضارة برمتها بأدوات الجهاد القديمة، وقد ظلوا خلال العقدين الماضيين على رأس الأخطار التي تهدد الأمن القومي الأوروبي برمته.

ولكن ذلك الحضور المدوي للجهاديين الأوربيين لا يزيد عن واحد في المئة من الحضور الإسلامي في أوربا في حين أن معظم التحولات الديمغرافية قادمة مع المهاجرين الذين استقروا في أوربا وأصبجوا جزءاً من حياتها ومستقبلها وواقعها، وحملوا جنسيات البلدان التي نزحوا إليها ولديهم نسبة خصوبة عالية تتجاوز الثلاثة في المئة مقابل نحو واحد ونصف بالمئة في معظم الدول الأوربية وهؤلاء في الغالب أيضا نازحو قهر ولجوء، ومع أنهم وجدوا في القوانين الأوربية ما يحميهم ويكفل لهم كثيراً من حقوقهم ولكن النقمة المتصاعدة على الانسانية برمتها لا تزال تستعر اواراً وتبحث عن منافذ للتعبير عن هذا الهوان والغضب.

وكان لهذا الشعور المرعب أثر كبير في الانتخابات الفرنسية الأخيرة ومع أن اليمين المتطرف لم يربح الانتخابات الإنسانية ولكنه وصل إلى 44% وحقق أغلبية في الانتخابات البرلمانية التالية، وهو ما ينذر بقوة باستعار الصراع وفق منطق الإسلاموفوبيا وصدام الحضارات.

قناعتي أن أشرف رسالة يمكن أن يحملها المرء في عصر كهذا هي رسالة الإصلاح الديني في الجانب الإسلامي والمسيحي على السواء، وخاصة في مواجهة أحلام الاستكبار التي تتجلى في الجانب الإسلامي في ثقافة: أمة فوق الأمم ونبي فوق الأنبياء ودين فوق الأديان وتاريخ فوق التاريخ، وتتجلى هناك في الريادة الأوربية الحضارية في اليونان والرومان ومركزية أوربا في الزمان والمكان، حتى إن أوربا وحدها تحدد معنى العصور القديمة والوسطى الحديثة، وتحدد مكان الشرق والغرب مع أن الأرض كروية وكل بقعة فها شرق وغرب، فنحن مثلا شرق أوربي ولكننا غرب صيني والهند بدورها غرب استرالي ولكنها شرق أوربي وهكذا دواليك، ولكن لا يمكنك أن تفهم مصطلحات الحضارة الجغرافية الحديثة إلا بعد أن تقر بأن أوربا هي مركز العالم.

لا يزال الأوربيون يعيشون عقدة الاستعلاء القومي الذي فرصته الامبراطورية الرومانية على العالم، ولا يزالون يعتقدون أن مواجهاتهم مع جيرانهم في جنوب المتوسط وشرقه هي لون من استمرار هذا الصراع وهي صراع بين الحضارة والبرابرة، بين الثقافة والهمج، بين الحضارة على الشاطئ الشمالي للمتوسط وبين البرابرة القادمين من الشاطئ الحنوبي للمتوسط، ولا تزال الذاكرة الأوربية مشحونة بغزوات هنيبعل المتتالية في اسبانيا وفرنسا وايطاليا في المئة الثانية قبل الميلاد واسقاط الامبراطورية الرومانية الغربية على يد اوداكر الذي أطاح بالإمبراطور رومولوس أوغستولوس رأس الإمبراطورية الرومانية الغربية والذي اعتبر قائد البرابرة على الرغم من اصله الجرماني ولكنه ظل رمزاً لاجتياحات الشواطئ الجنوبية البربرية على اوروبا المتحضرة، وهو المشهد الذي ارتبط بالاجتياحات الاسلامية لاسبانيا عبر الأمويين والمرابطين والموحدين، واكتمل بأسر الامبراطور رومانوس على يد السلطان السلجوقي ألب أرسلان وأخيراً سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح.

في أكثر من خمسة وعشرين قرناً لم تحتلف الصورة كثيراً لدى الاوربي التائه الذي ظل مسكوناً بهاجس الدفاع عن حضارته في وجه البرابرة الذين يحاولون تحطيم حضارته.

ومن الجانب الإسلامي فإن المسألة تبدو أكثر وضوحاً ومباشرة، فالمواجهة مع قادة الحروب الصليبية والاستعمار والوجود الصهيوني واحدة ومستمرة، وان اختلفت اشكالها وتسمياتها ولا بد من اعمال كل ادوات هذه المواجهة حتى النهاية.

ومع أن هؤلاء لا يشكلون اغلبية واقعية لا في الجانب الإسلامي ولا في الجانب الأوربي ولكنني أتحدث عن أقلية لها شأنها وحضورها وقد تكون أقوى تأثيراً من الأغلبية المؤمنة بالتعايش الحضاري والتبادل الإنساني والقانون الدولي.

ولكن هذا الجدل التاريخي وجد طريقه أيضاً للحضور في النص الديني، وتم تقسم الناس كاثوليكياً إلى معموديين وغير معموديين، وتم تقرير احترام المعمدين فقط، ثم خطا التعصب الديني خطوة أخرى فتم تقرير خلاص الكاثوليك وهلاك الآخرين، وهذا ما صرح به بوضوح البابا السابق عام 1998 عندما أعلن عن احتكارالخلاص لصالح الكاثوليكية وهلاك الآخرين بعيدأً عن شفاعة الرب في تراجع مخيف عن رسالة الفاتيكان الصادرة 1962 والتي قضت باحترام الأديان واعتبارها سبلاً موصلة للخلاص.

وفي النص الإسلامي حضر أيضا هذا الانشطار الرهيب عبر نصوص لا تكتفي فقط بالأمر بطرد الآخر من النجاة الأبدية، بل تأمر بقتاله بكل الوسائل حتى يكون الدين كله لله، وتهاوت بشكل منهجي أصوات المحبة والسلام الواضحة في الرسالة الأولى، عبر ثقافة حملت شعار: آية السيف نسخت سبعين آية من كتاب الله، وصار أبرز المنسوخ نصوص الرحمة والتسامح والإخاء، مثل: لا إكراه في الدين والخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.

إن ثقافة التحدي بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي ليست شأن الخطاب الديني وحده، الذي وصفهم بالكفر والانحلال، بل إن الخطاب القومي أيضاً قام بدور مماثل، حيث قدم الحكم القومي العربي خلال أكثر من نصف قرن خطابا طافحاً بالاتهام والتحدي واحتقار المنجز الحضاري الإنساني واتهامه بالعنصرية والانحياز والانسياق في هوى إسرائيل، وهكذا تواطأ السياسي والفقيه على فرض عزلة المسلم عن العالم، فقد علمنا الأول أن العالم استعمار وامبريالية، وعلمنا الثاني أن العالم كفر وضلال، وأسهم الخطابان في تقديم مسلم منغلق مسكون بثقافة المؤامرة على دينه وقومه من قبل شعوب العالم المتحضر.

إنني أعتقد أن أشرف عمل يمكن أن يقوم به العالم اليوم وأنبل ما يجب أن يعمل له الشرفاء من كل الملل والأديان هو العمل على الاصلاح الديني، والاصلاح الديني الذي نطالب به اليوم ليس شأنا يتصل باللاهوت أو الفقه أو الأصول بل هو الحقيقة الصارخة التي تفرض نفسها كل يوم وهي العيش مع الآخرين بإيجابية بناءة والإيمان بالوطن الإنساني والإخاء بين أبناء الأديان والثقافات والملل والنحل، ومواجهة الموروث الثقافي الاستعلائي أياً كانت مستوياته الإسنادية، واياً كانت نسبة الإجماع والاتفاق إليه.

خير أمة أخرجت للناس، وفضلتكم على العالمين، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون ولا يعقلون ولا يؤمنون، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث….. إلى غير ذلك من النصوص التي تقتطع من سياقها وتستخدم في ازدراء الآخر المختلف في الدين أو الثقافة….

إنها عمومات تؤسس لثقافة جاهلية القرن العشرين التي قدمها سيد قطب وهي جاهلية تحتم على المسلم القتال لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتابعها أبو الحسن الندوي في كتابه هو الآخر ردة ولا أبو بكر لها، وهكذا لم يعد العالم الغربي وحده مسكوناً بالكفر والجاهلية لقد صارت ديار الإسلام أيضاً ديار ردة، وأصبح المشروع إذن دعوة لخلع ربقة الجاهلية والردة جميعاً والانعتاق منها والدخول في الإسلام من جديد، ولا يكون هذا الإسلام مقبولاً إلا ببيعة صحيحة لأمير الجهاد الذي يعمل على إخراج الناس من الجاهلية والردة إلى الإسلام من جديد، وهدم الشرائع الوضعية وإقامة حاكمية الله، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

إن المطلوب باختصار نضال فكري حقيقي ومباشر لتصحيح ما عمل خطاب الإسلام السياسي عموماً على نشره خلال نهايات القرن العشرين، أسفر عن الدعوة المباشرة الى حمل السلاح وبسط السيف لإقامة الحاكمية في الأرض، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.

 المطلوب ثقافة تعود بنا إلى أيام الإسلام الأولى، أيام الإسلام المكي الطافح بالمحبة والذي نجح ديمقراطياً في إعلان أول دولة إسلامية في العالم على أرض المدينة دون قطرة دم واحدة.

ثقافة تجد تأييدها الكامل في قول الرسول الكريم: الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، وتجد تأييدها في الآية الكريمة: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.

Related posts

الدكتور محمد حبش-إرهاب الدولة

drmohammad

فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

drmohammad

الإصلاح الديني.الدكتور محمد حبش.2016

drmohammad