قدمت التصريحات التركية والروسية المتتالية إشارات واضحة عن سايكس بيكو جديد ترسمه إرادة الروس والأتراك والإيرانيين المتناقضة على أرض سوريا بعيداً عن رأي أبناء هذا الوطن المنكوب، وبات من المؤكد أن أي خطوط ترسم على الخريطة السورية البائسة ترتبط مباشرة بخطوط مرسومة في أوكرانيا، وباتت المقايضة على المكشوف بين الأنظمة التي تعتاش على الكعكة السورية، في مشهد تذكرك كل تفاصيله بالاتفاق المشؤوم سايكس بيكو.
كان سايكس بيكو الأول أوضح وثائق الخيبة والضياع الذي عاناه السوريون في القرن الأخير، واشتهرت الوثائق باسم الرجلين سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي عندما تم التفاهم بينهما على رسم خريطة بلاد الشام والعراق على مزاج يتناسب مع أطماع القوتين الاستعماريتين في المنطقة، وتم ذلك في عام 1916 وبقيت اتفاقا سرياً حتى قامت الحكومة الروسية بالاعلان عنها في عام 1917 بعد قيام الثورة الحمراء.
وتحظى هذه الاتفاقية بسمعة سيئة في كل الأدبيات التي أرخت لمرحلة سقوط الدولة العثمانية واعتبرت ذلك تآمراً على الوحدة العربية، ولم يشر هؤلاء الباحثون إلى الظلم الواقع على الكرد الذين استبعدوا تماماً من أي إشارة لحضورهم التاريخي، كما ارتبطت هذه الثقافة السوداء بتكريس الانقسام وبأنها ردة على أدبيات الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين والتي كانت بهدف قيام كيان واحد من المحيط إلى الخليج، ولكنه كرس انقساماً جلياً في الشرق العربي ولم ينتج أي حالة وحدة في المغرب العربي.
ولكننا لم نسأل أنفسنا السؤال الحقيقي إزاء هذا الضلال التاريخي، من هو المسؤول حقيقة عن هذا الهوان السياسي وضياع الكرامة الذي جعلنا لعبة للأمم وجعل مصائرنا تقرر نيابة عنا في دهاليز السياسة الأوروبية؟
قناعتي أن سايكس وبيكو والوزير الروسي الذي ظلَّ اسمه مغفلاً في الاتفاقية ولولا قيام الثورة الحمراء لكان اسم المتآمرين ثلاثة، قناعتي أن هؤلاء الثلاثة لا يتحملون في الحقيقة إلا دور مهندس الغرافيك في أي عمل درامي، فقد تكفل الخصام والشتات العربي وإنكار حقوق الكرد في الجوار والعشرة، والريب والانقسام الثقافي والحضاري للعرب بمهمة الإخراج لواقع الانقسام والتجزئة، فيما قام الحكام العرب فيما بعد بأداء دور المخرج المنفد لكل مخرجات سايكس بيكو على الأرض.
من المدهش أن سايكس بيكو رسما صورة المشرق العربي على الورق، فيما قام الحكام العرب خلال الأعوام التسعين الآتية برسم ملامح هذه الحدود في الجغرافيا والواقع، وشدوا الأسلاك الشائكة وأحياناً الملغمة على طول الحدود، ونشروا قوات الهجانة الصارمة ببنادقها لتضرب في الميان كل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء رفع الحدود بين العرب، والدعوة إلى الوحدة العربية، وهكذا فإن حكام العرب قاموا بلعن هذه الاتفاقية مائة عام بدون توقف ولا يزالون، ولكنهم في الواقع مارسوا حراسة هذه التجزئة بكل حماس واندفاع، وقاموا بتعميدها بالدم، وتحولت خرائط سايكس بيكو إلى مسلمات وطنية يقاتل عليها العرب، وتصدرت هذه الخرائط كل مراكز الثقافة والسياسة العربية من المتاحف والمدارس والجامعات والمراكز الثقافية والصحية والخدمية وأمانة العاصمة والسفارات في الخارج، وكأنما نزل تكريس حدود الدولة القطرية في القرآن أو الإنجيل، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسجلت في سبيل الدفاع عن هذه الحدود الملعونة نحو تسعة حروب خلال هذه الفترة بين العرب أنفسهم، منها غزو العراق للكويت وحرب تحرير الكويت بالتعاون مع الامريكان ومنها الحرب الأهلية في لبنان والحروب في اليمن الشمالي والحنوبي والصراع الجزائري المغاربي على الصحراء، ونزاع حلايب ومواجهات رفح، وحروب ليبيا وحروب الثورة السورية وحروب الشقاق العراقي التي تتفجر كل يوم ولا يبدو أنها قريبة النهاية.
قناعتي أن سايكس بيكو لم تفرض على العرب واقعاً جديداً وإنما قرأت الواقع المتشظي للمنطقة، وعكسته على مرآة محايدة، ورسمته على الورق، فيما قام بالدور الانفصالي بكل حماس حكام العرب من أصحاب الجلالة والعظمة والفخامة والسمو، يأمرون الناس بالبر والوحدة وينسون أنفسهم في قوقعة الخصام والتفرقة والتجزئة والضياع.
ومع انتشار المد القومي في الخمسينات ووصول القوميين إلى الحكم في الستينات فإن هذه الصيحات الثورية للوحدة العربية التي كرستها حنجرة عبد الناصر القوية، والخطابات الرنانة لحكام سوريا والعراق، لم تتعد طبول الإيكو، فيما استمر الحكام العرب بختم سايكس بيكو بكل أمانة على كل جواز يتحرك في ربوع العرب، وظلت العملات الوطنية وفية لسايكس بيكو ولم يستطع الحكام العرب على الرغم من صراخهم وعويلهم حول السيادة والوحدة العربية والكرامة العربية أن يوحدوا بين درهم أو دينار أو ليرة أو جنيه، ولم يتمكنوا من توحيد قوانين الهجرة أو الحنسية أو التعليم أو القضاء أو الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو التصدير، وظل لكل مشيخة عربية أنظمتها ومراسيمها وبلاغاتها وإراداتها الملكية والأميرية والمشيخية والرئاسية والسلطانية والجماهيرية… وظل العرب في شتات، وظل مأمور الحدود يتلقى يوماً بعد يوم مزيداً من الأوامر حول ضبط الحدود، وتعقيد الشروط، وضبط الطوابير وتفنيش المخالفين ورصد مجانين العرب الذين ظلوا يحلمون مع غوار الطوشة بغربستان وشرقستان العربية في فلك الحدود.
واليوم تشتد السؤالات عن سايكس بيكو الجديدة التي يتم الإعداد لها في الأستانة بين الروسي والتركي والإيراني، لكتابة خريطة جديدة لسوريا، يرسمها الإيرانيون على مقاس حزب الله ومشروعه، ويرسمها الروسي باعتبارها قرماً ثانية، فيما يرسمها التركي على قدر حاجته الانتخابية وأحقاده ضد الكردي السوري المحارب، وما بين ثلاثة مشاريع متناقضة متلاعنة ينتظر السوريون خطاب الرحمة من الذئاب الضارية المتداعية إلى الكعكة السورية، ومن المؤكد أن الحل الداني ليس خطاب الرحمة بل رصاصة الرحمة.
ولكن السؤال الكبير هنا من يتحمل وزر سايكس بيكو الجديد بكل هوانها وشرذمتها وانقساماتها؟
الجواب برأيي هو نفس ما قدمه الفيلسوف العربي الكبير مالك نبي تحت عنوان القابلية بالاستعمار، وهو ما يسميه كتاب عرب آخرون الاستحمار، حين يبحث المرء عن فوائد التبعية والذيلية، ويزخرف عيدان قفص سجنه، ويشك في ذاته وقدراته ويتكئ على إرادة الغرباء، ويتعلق بها بوصفها السلوك الأكثر سلامة والأقل خطراً، وهو اليوم ما تقدمه حركات عربية كثيرة على مذبح الصراع في الشرق الأوسط.
المشهد الدولي البائس وعجز الأمم المتحدة عن فرض حل في سوريا، وترك ذلك لنظام طائش دمر البلاد حجراً حجراً، أو للحكومة التركية التي ترسم بمدافعها ما تشاء من سيناريوهات متناقضة، أو للإيرانيين الذين لا يملكون إلا سلعة واحدة وهي السلاح الذي صار بلاء ولعنة على السوري المنكوب، كل ذلك يجعلنا أمام تحديات الواقع الصارخ، ويجبر السوري أن يؤوب إلى أخيه السوري وأن نتقاسم معاً قرار الحرب والسلام، وأن يتسع بعضنا لمعاناة بعض، وأن نستعيد قرار سوريا بيمين أبنائها من عرب وكرد، بعيداً عن إرادات الغرباء.
قال مارتن لوثر كينغ: لا يستطيع أحد أن يركب على ظهرك إلا إذا وجده محنياً.