أثارت تصريحات محمد بن سلمان ولي العهد السعودي لمجلة أتلاتنتك الأمريكية جدلاً واسعاً في المجتمعات الإسلامية؛ إذ أفصح عن تشكيل لجنة خاصة لتنقية السنة، حيث لا يوجد في الأحاديث من المتواتر إلا بضع مئات من الأحاديث وأنه لا حاجة لما جمعه الرواة بعشرات الآلاف من السنن النبوية.
وبالطبع يعتبر هذا الموقف الجريء ثورياً ومصادماً لهيئات التعليم الديني التي لا تزال متمسكة بآلاف الأحاديث وتمنحها في التشريع قوة القرآن، ومع ذلك فقد أصدرت الهيئة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإفتاء بياناً أيدت فيه خطوات الأمير الشاب وقالت إن تنقية السنة عمل جليل وهو منهج العلماء الأقدمين في الجرح والتعديل والحكم بالصحيح والضعيف على ما ورد من سنن، ودون أدنى شك فإن موقف هذه الهيئة سيكون أشد التقريع والاتهام لو أن هذا الاقتراح جاء من أي شخص آخر غير الأمير.
وهكذا فقد بدا لبعضهم أن هذا الموقف سينهي تماماً دور البخاري ومسلم وغيرهم من رواة الحديث وستتم إحالتهم إلى المحاكمة التاريخية بتهمة تشويه الإسلام وتغيير ما أنزل الله فيه، وأعادت هذه التصريحات إلى الواجهة دراسات قدمها عدد من الباحثين الغاضبين بعنوان جريمة البخاري وجناية البخاري وافتراءات البخاري وإنقاذ الدين من إمام المحدثين وغيرها ….
ومن المؤسف أن معظم الذين يكتبون في التنوير يشنُّون الحرب على البخاري باعتباره اخترع ديناً جديداً، وأنه كان واجهة لمؤامرة مزدكية خرمية قرمطية كانت تهدف لتبديل دين الله واختراع دين جديد!! وقد عنونت قناة الحرة حواراً كبيراً شارك فيه آلاف من الغاضبين بعنوان: هل حانت نهاية البخاري
شخصياً لا أجد نفسي متفقاً مع هذا التوجه في قليل ولا كثير، ولا أعتقد ان البخاري أو مسلم هو من رسم ملامح الدين الإسلامي؛ بل هو سياق تاريخي طبيعي مرت به كل الديانات في التاريخ، والحقيقة أن البخاري ليس إلا رجلاً مجتهداً مارس نقداً حاداً وحوكمة دقيقة على مجموعة مرويات التراث ونجح إلى حد بعيد في الدفاع عن رأيه في التصحيح وقد حظي ذلك بقبول عدد كبير من الرواة والمحدثين خلال التاريخ، وهو رجل يستحق مهنياً الاحترام والتقدير لدوره التوثيقي الواضح.
ولكنني لا أعتقد أن مشكلتنا مع الحديث بكل تفاصيله، فالمعاني التي ننكرها في الحديث موجودة في القرآن أيضاً ولا يسوغ منهاجياً أن نتولى السنة بالنقد ونجبن عن انتقاد القرآن، ونصوص العنف في القرآن الكريم كثيرة ولن يتغير منها شيء إذا قمنا بتكذيب النصوص العنيفة الواردة في البخاري، وماذا يمكن أن يفيدنا مثلاً إنكار قتال الناس حتى يسلموا ولدينا في القرآن الكريم: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، وماذا سيفيد تكذيب حديث أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ولدينا آية تقول قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؟
المشكلة مستمرة في النص الأول بغض النظر عن مؤيداتها في النص الثاني، فهل سنتوجه في الخطوة التالية لحدف عشرات الآيات القرآنية ليكتمل مشهد التنوير؟
لا أعتقد أن التفكير بهذه الطريقة يخدم العلم ولا المنطق ولا طبائع الأشياء، ولا توجد أصلاً طريقة لحذف التراث إلا عن طريق دفن الرأس في الرمال، بل إن النصوص المحذوفة ستغدو أكثر اشتهاراً في يد الجيل الغاضب، وستكتسب لدى المتطرفين طاقة جديدة للإقناع باعتبارها تعرضت لمؤامرة أمريكية صهيونية ماسونية متعددة الأطراف، وهي أجدر بالثبات والرسوخ والاتباع.
قناعتي أن التغيير المطلوب هو في العقول وليس في التراث، ولسنا بحاجة لإعادة اختراع العجلة، فالعالم كله مر بهذه المراحل، وقبل قرون كان النص الديني المسيحي وبشكل خاص في العهد القديم يبرر العنف بطريقة مرعبة، ومن خلال هذه النصوص نجح أوربان الثاني وبطرس الناسك وفرسان الهيكل والإسبتارية بحشد مئات الآلاف من المحاربين الدمويين من أقصى أوربا إلى أقصاها للقتال في أرض فلسطين والساحل السوري وارتكاب أفظع المجازر باسم الرب، يرأسهم أكثر الكهنة تقوى وزهداً وتنسكاً، وحظيت هذه المجازر بتقدير كبير لدى المجتمع المسيحي في أوربا، وتسابق الأباطرة فريدريك الأول وكونراد الثاني وهنري الرابع وفرديريك الثاني وريتشارد قبل الأسد وفيليب الثاني للانخراط في الحروب الصليبية المقدسة، وبات الامبراطور أو الملك مشكوكاً في إيمانه إلى أن يشارك بنفسه في حملة صليبية، وبقدر فظائعه وجرائمه سينال احترام الجمهور المسيحي المتدين في أوربا، وفي تاريخ فرنسا تسعة عشر لويس ولكن لويس الوحيد الذي نال لقب القديس هو لويس التاسع، وقد نال هذا اللقب بجدارة من البابا والكهنة والشعب لأنه تحديداً شارك بنفسه في الحملة الصليبية السابعة وأسر بيد الملك الأيوبي توران شاه، ورجاله من المماليك في معركة المنصورة، ولأنه بعد فدائه من المماليك عاد مرة أخرى للحرب الصليبية، وأعلن انه سيقاتل تحت صليب الرب ألف عام أخرى التزاماً بما أوصى به الكتاب المقدس!
وحين استيقظت أوربا بعد قرون طاحنة من الدم، أدرك حكماؤها أن المصيبة كانت في النصوص المقدسة التي حملت الناس على العدوان والحرب واسترخاص الدم والفتك في سبيل الدين، وفي مواجهة ذلك قام فلاسفة التنوير بدور نقدي كبير لأنسنة النص الديني، ولكن قراءة واعية لجهود فلاسفة عصر الأنوار ستكشف لك أن المواجهات الحدّية والإلحادية مع النص الديني جاءت بعكس المقصود، ولم تفلح في تحقيق أثر يذكر، ولكن التأثير الحقيقي كان في أنسنة الإنسان ونشر الوعي بروح أخرى للتعامل مع المقدس، تعاملاً يحترمه ولا يتهمه، ولكن يضعه في سياق الزمان والمكان.
في كتابه موسيقى الحوت الأزرق يثير أدونيس نقطة بالغة الأهمية فيقول إن الغرب لم يحدّث دينه وإنما حدّث دنياه، إن النص الديني الذي كان يتلى في العصور الوسطى ويحشد جيوش الحروب الصليبية لا زال إلى اليوم بين دفتي الكتاب المقدس ولم يحذف منه حرف واحد، ولكن الإنسان هو الذي تغير، لقد حدّثوا دنياهم ولم يحدّثوا دينهم، فالنصوص التي كانت تشعل الحروب في الماضي لا تزال ترتل في الكنائس ولكنها لم تعد تشعل الحروب، وصارت تلاوة النص المقدس ترنماً كهنوتياً يرتبط بالماضي ولا يفرض اي تبعات في الحاضر أو المستقبل.
لا أعتقد ان علينا أن نحذف حرفاً واحداً من القرآن ولا من السنة ولا حتى من كلام الفقهاء، فالتراث تراث بعجره وبجره، ومن حق كل كلمة قيلت أن تحفظ في مكانها الصحيح، وتغييب أي حرف من الرواية هو بمثابة خيانة للكلمة، ولكن المطلوب هو تحديث الإنسان، وإعداده ليتعاطى مع النص بروح نقدية إيجابية، ويستخدم أدوات العقل الجريئة التي استخدمها الفلاسفة والأصوليون من الفقهاء في العصر الذهبي للإسلام ، ويؤصل بشجاعة وثبات للحد من سطوة النص الدني عبر آليات شهيرة استخدمها الفقهاء بشجاعة: ومنها مبدأ المنسوخ والمقيد والمخصص والمؤول والموقوف والمتشابه في القرآن الكريم نفسه، وكذلك في السنة، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، ويوقن أنه لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
إنني لا أنكر أهمية المبادرات الجريئة التي يقوم بها ولي العهد السعودي، وهو تطور يأتي في سياق خطوات متعددة اتخدها الملوك السعوديون خلال العقدين الماضيين، في الانفتاح على الأديان، وتمكين المرأة، ووقف تغول جهاز الشرطة الدينية في حياة الناس، وتكمن اهمية هذا التوجه بشكل خاص في اعتباره منهاج رابطة العالم الإسلامي وهي المؤسسة السلفية الحكومية العريقة والمؤثرة في العالم الإسلامي، وكذلك قيادة المؤسسة الدينية السلفية التقليدية التي تفتي باستمرار بمنطق اسمعوا وأطيعوا، وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، وهي تقود بأسلوب لاهوتي صارم مئات المدارس الشرعية الدينية وسيكون حدثاً جيداً للعقل ان تتعدل المناهج وفق توجه كهذا، وأن يتم منع صدور فتاوى رسمية بناء على نصوص العنف في السنة، وهي مبادرة كبيرة وهائلة خاصة أنها تأتي عبر أهم حكومة إسلامية في العالم وهي حكومة الحرمين الشريفين، ولكن على أن لا نقبل بحذف اي حرف من التراث، وبذلك لا نجبن عن مواجهته ونقده، ووضعه في سياق الزمان والمكان الذي ورد فيه بعيداً عن الغلو والسرمدة والإطلاقية.