Uncategorized

جودت سعيد

رحل جودت سعيد الإمام الفريد الذي عاش رسالته وحلمه في الإخاء الإنساني ولم يتنازل عن شيء من مبادئه، وظل وفياً لرسالته الفريدة في اللاعنف على الرغم من العنف الطامي الذي طبع العقود الأخيرة، في البلاد العربية والإسلامية، ومع أنه كان دوماً إلى جانب الثورة، ولكنه لم يتورط أبداً في تبرير الدم.

وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة للرجل، واعتبار فكره وكتبه مادة أساسية في الدراسات الدينية والاجتماعية، ولكنه اختار أن يغادر العاصمة ويقيم في قرية بعيدة على حدود القنيطرة “بير عجم”، كان يمارس فيها عملاً زراعياً بسيطاً كفلاح ونحال، يتكسب من جنى النحل، ويركب دراجته إلى المسجد، ثم يعود إلى بيته المتواضع تماماً كما هي سنة الآمرين بالقسط من الناس.

كان جودت أول من تحدث بصراحة وشجاعة عن بؤس الاستبداد في سوريا، وقد كلفه ذلك باستمرار مطاردة السلطات الحاكمة وقد دخل السجن مرتين دفاعاً عن أفكاره، ومع أنه لم يقدم نفسه زعيماً سياسياً ولكنه كان بالفعل كذلك.

A picture containing text, person, indoor, glasses

Description automatically generated

ومع أن أشهر ما ميز جودت هو موقفه من العنف كله، واختياره سلوك اللاعنف منهجاً وسبيلاً، ولكن الجانب الذي تقصده هذه المقالة هو موقف الأستاذ الجليل من إخاء الأديان والإخاء الإنساني عموماً.

كان الشيخ جودت أول من شرح بإسهاب ووضوح خطورة احتكار الخلاص الذي يمارسه أتباع الديانات عموماً، وبشكل خاص رجال الدين في الإسلام، وما يعنيه ذلك من غرور المسلم ونرجسيته، حيث يتم تقديم المسلمين كأمة خاصة محظية عند الرب، لا يعترف بأمة غيرها!! ويتم تصوير الإسلام سبيلاً وحيداً للوصول إلى مرضاة الرب، وأن جميع الأديان والملل والنحل زاهقة خاطئة، لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً، وأن سبيل الخلاص هو الكفر بشرائع الجاهلية وتحطيمها والاحتكام إلى الإسلام.

وشرائع الجاهلية كما يقصد رجال الدين هنا لا تقتصر على الوثنية القرشية التي كانت تعظم الأصنام وتكفر بالنبوة وتحاربها بل إنها تتوجه ضد كل المنقول في ثقافات الأديان، ويشمل ذلك نسخ الأديان جميعاً من مسيحية ويهودية وصابئة ووجوب البراءة من كل ما فيها من قيم وخير، واعتبار أي اهتمام بها بمثابة الزندقة والتهوك على الإسلام! .

وبالطبع فإن هذا الحال من إنكار الآخر ليس شأن الخطاب التقليدي الإسلامي وحده بل هو أيضاً شأن الخطاب المسيحي واليهودي، فقد تورط الجميع في احتكار الخلاص ورفض إيمان الأمم، وبدا لكل دين أنهم يملكون مفاتيح الجنة فيما يملك الآخرون مفاتيح الجحيم!

لم يقبل جودت أن تمنح أمة من الأمم مزية على الأمم بسواد العيون، وظل يعتقد بأن أخطر ما وقعت به الأديان أنها تلغي الآخر.

لقد ظل يصرح دوماً بأن الإنسانية أسرة الله وعائلته، وأن الخلق جميعاً عيال الله، وأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.

صرح جودت بأن أربعة أمراض وقعت فيها الأمم وحدثنا عنها القرآن:
1.​وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق!
2.​وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم!
3.​وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا بل ملة إبراهيم حنيفاً!
4.​وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب!

هكذا رددنا بكل بلاهة ما قالته الأمم الأولى!! فقلنا نحن أولياء الله وأحباؤه، وقلنا لن يدخل الجنة إلا من كان مسلماً، وقلنا ليست اليهود والنصارى على شيء، ولن يدخل الجنة منهم أحد، ثم قال جودت بمرارة: “لقد كررنا ما قالوا، واتبعنا سنن الذين من قبلنا شبراً بشبر وذراعاً بذراع!! حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلنا فيه”!

لا يمكن لدين أعلن عن نفسه رحمة للعالمين أن يفكر بهذه الطريقة، كيف يمكن للمسلم أن يؤمن بأن الله خلق المسلمين للجنة وخلق الآخرين للجحيم!! ولماذا لا يقبل الله العمل الصالح من كل قلب نظيف؟ وإذا كانت هذه الأمم غير مؤهلة للسعادة ولا للرحمة فلماذا يخلقهم من جديد؟؟ إن نسبة المسلمين ثابتة منذ قرون وهم يشكلون ربع البشر، فلماذا يخلق الله ثلاثة أرباع الكوكب ويرسلهم إلى الجحيم؟؟؟ مراراً قال: “هل يتصور أحد ظلماً مثل هذا؟؟ سبحانك هذا بهتان عظيم”.

وطالب جودت سعيد أن ندرك منطق المساحة المشتركة التي نصبها الإسلام مع الأديان، وهي في زمن رسول الله الكلمة السواء التي شرحها القرآن الكريم: أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فهذان الشرطان البسيطان لا يزيدان على اعتقاد وجود الخالق والعدل بين الناس، وهذا يكفي لبناء علاقة إيجابية حميدة بين الإنسان والإنسان.

وراح جودت يؤكد أن المساحة المشتركة هذه ليست قدراً لازباً على التاريخ كله، بل هي مناسبة في طوائف محددة من النصارى، ولكن هذه المساحة المشتركة لا تغني شيئاً اليوم في بناء الثقة والتعاون بين المسلمين وبين الصين مثلاً أو اليابان، حيث لا يمكن اعتبار وحدانية الله شرطاً جامعاً مع هذه الأمم العظيمة، بل يجب البحث عن مساحة مشتركة أخرى تحظى بالمقبولية وتتفق مع مقاصد القرآن، فهذه المساحة المشتركة مع الأديان تطرحها الآية منهجاً منتجاً للمواقف المناسبة في كل تعاون، وليس قدراً أصم يحكم التاريخ!

في دمشق اختار جودت أن يزورنا في كل شهر مرة في جامع الزهراء، فيصلي معنا أول يوم جمعة في كل شهر، ثم يتحدث للحضور الكريم، وكان أحبابه ومريدوه يعرفون ذلك ويحضرون للصلاة في ذلك اليوم، ليستمعوا للرجل الذي كان يفيض صفاءً واستقامة ويبشر بعصر من الإخاء والمساواة بين الإنسان والإنسان.

في خطبتي على المنبر تحدثت ضد احتكار الخلاص، دفاعاً عن عدالة الله تعالى، وقلت فيما قلت: “إن العالم مليء بالأمم التي لم تسمع بالإسلام، وإن الله لن يحاسب الأمم التي لم تسمع بالإسلام، ولا بد أن تقوم الحجة البالغة على الناس قبل أي شكل من الحساب”.

وقلت في خطبتي: “إن في غابات الأمازون ومجاهيل أستراليا وأفريقيا شعوباً وقبائل لم تسمع بالإسلام، ولا بنبي الإسلام ولا بنصوص القرآن فكيف يحاسب هؤلاء؟ وأي عدالة هذه التي تقضي بزج هؤلاء في النار؟؟؟ وقلت إنهم دون شك ناس من أهل الفترة الذين لا يحاسبهم الله في الدار الآخرة، وفق نص القرآن الكريم: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)”.

بعد الخطبة تحدث الشيخ جودت رحمه الله، وعلى الفور قال للناس: إن الشيخ حبش يقول إن هناك قبائل وأفراداً في غابات الأمازون وفي مجاهيل أستراليا لم يسمعوا بالإسلام، ولا بالرسول ومن غير المنطق أن يحاسبوا ولم يصلهم البلاغ المبين! وطالبنا باعتبار هؤلاء من أهل الفترة الذين لا يقع عليهم حساب ولا عذاب!

وبعد صمت استنكاري التفت إلي الشيخ وقال: “يا أخي، وهل تعتقد أن الناس في أوربا وآسيا وأمريكا قد سمعوا بالإسلام؟ ما هو الإسلام الذي سمعوا عنه وقامت عليهم به الحجة؟ لقد سمعوا بالإسلام الذي قدمته لهم القاعدة في غزوة مانهاتن!!! وفي تفجير الأنفاق في باريس ولندن، وفي حروبنا وخيباتنا واقتتالنا الذي لا ينتهي وتنسكب فيه الدماء ويظهر السيف ويغيب القلم، وفي تخلفنا الحضاري عن ركب الأمم… أهذا هو الإسلام الذي تقوم به حجة الله على عباده”؟

قال لي: “يا شيخ هناك ناس في لندن وباريس لم يسمعوا بالإسلام الذي تقوم به الحجة! هناك ناس في بلدك هذا لم تقم لله عليهم حجة، فهم لم يسمعوا من الإسلام شيئاً يقنعهم ليغيروا بلادهم وأوطانهم وعوائلهم ومجتمعاتهم ويلحقوا بالمسلمين… ثمّ قال لي: “يا أخي الناس لا تتحول من دين إلى دين بفصاحة خطيب، ولا بموعظة واعظ… لا يمكن لأي خطيب مهما كان فصيحاً أن يقنع العالم بأننا رائعون وأن الحضارة فاشلة، لا يمكن أن نعيش البؤس والفشل ثم نقول للناس نحن أهل الحق.. اتركوا أديانكم واتبعونا!

وفي حديثه عن القيم الموجودة في التوراة والإنجيل، كان يرسم ملامح قاعدة علمية بسيطة يكررها كل يوم: “نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم”.

في كل أمة حكمة وفي كل كتاب نور، واختيار الرجل قطعة من عقله!، ونحن مأمورون أن نستمع القول فنتبع أحسنه، وقد أمرنا الله تعالى بقوله: “اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم”.

وربما كان جودت سعيد أكثر دعاة الشرق شجاعة وانفتاحاً، وكان يذكر عمانويل كانت وسبينوزا وليبتنز ورينيه ديكارت إلى جانب الغزالي والشاطبي وابن رشد، فالإنسانية عائلة واحدة، والخالق مولى الجميع، وأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله.

وفي وعي إنساني فريد تجاوز الشيخ جودت العائلة الإبراهيمية وانطلق إلى العائلة الإنسانية، ونشأت علاقة واثقة بينه وبين الدالاي لاما رأس الديانة البوذية، وربما كان الفقيه العربي الوحيد الذي تواصل مع البوذية، وأشار للمشترك الإسلامي البوذي في إخاء الأديان وكرامة الإنسان.

رحل الرجل الذي ملأ حياتنا إيماناً بالإنسان، وظل ينادي بوضوح وصراحة: “يا ناس! نحن أمة من الأمم، ولسنا أمة فوق الأمم، دين بين الأديان ولسنا ديناً فوق الأديان، نبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء، والخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق على الله أنفعهم لعياله”.

Related posts

السلاح الأعمى.. قتال الإخوة الأعداء 20/5/2016

drmohammad

هل الإسلام في أزمة

drmohammad

الفقهاء الراشدون.الدكتور محمد حبش 30/07/2016

drmohammad