واشتعلت الحرب الدامية بجنونها وتوحشها ومآسيها، وتشير وزارة الدفاع الروسية بعد أسبوع من الحرب أنها فقدت 500 مقاتل فيما تشير أوكرانيا إلى أنهم عشرة آلاف معظمهم حول العشرين من العمر من المجندين الإجباريين الذين أرسلوا إلى حرب لم يفهموا سبباً لها!
ولكن أكثر الناس بؤساً وسوء طالع، هو المجند الإجباري الذي يقاد إلى حرب لم يؤمن بها يوماً، ثم يقف عند مصيره الأسود: اقتل.. أو تقتل.
من المؤلم أن التطور الحقوقي في العالم لم يدرك بعد أول حقوق الإنسان، وأشدها إلحاحاً وعدالة وهي حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة، وأن يرفض حمل السلاح، فليس من حق أحد، فرداً أو فصيلاً أو دولة أن يجبر أحداً على حمل السلاح..
لا يمكنني التقليل من دور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1946 وقد حظي باحترام العالم كله بلا استثناء ووقعت عليه كل دول العالم المنضوية في الأمم المتحدة، فقد نجح هذا الإعلان في وقف حروب كثيرة وأسهم في استقرار العالم ومنع سقوطه في قبضة التوحش، ونجح في أن يكون دستوراً عالمياً لكرامة الإنسان وحقوقه.
ولكن الاحترام العالمي الطامي لهذا الإعلان لا ينبغي أن يحملنا على منحه المزايا المقدسة التي تعودناها لكتب المؤسسين؛ بل من حقنا أن نقترح المراجعات باستمرار، وهذا جزء من غاياته ومضمونه، وحين نتوقف عن انتقاده بوصفه الوثيقة الوحيدة التي وقعت عليها كل شعوب الأرض فنحن إذن نمارس تصنيم هذا المثال والتحول به إلى غير غايته.
وتدفعني الحرب الأليمة وكوارثها المتلاحقة أن أكرر في مقالي هذا ما طرحته في منابر كثيرة في منظمات ترتبط بالأمم المتحدة، حول حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة، وقناعتي أنه أرسخ الحقوق وأكثرها بداهة ومنطقية، فليس أقسى على الإنسان أن يساق إلى حرب لم يؤمن بها يوماً لمجرد أن قيادته السياسية رأت الدخول في هذه الحرب.
وسيكون السؤال تقليدياً: ما هي الحرب الظالمة وما هي الحرب العادلة ومن يقرر ذلك؟ وجوابي على الفور هناك شخص واحد يحق له أن يقرر ذلك وهو العسكري المقاتل الذي سيضع روحه على كفه ويخوض هذه الحرب، هو فقط دون سواه يحق له أن يقول إنها حرب عادلة أو ظالمة، من حق الدولة أن تفسر إقدامها على هذه الحرب بكل الوسائل مرئية ومسموعة ومفصلة، ولكن في النهاية القرار للإنسان.
حسناً: سيقول الجندي دوماً إنها حرب ظالمة ولا أريد ان أشترك فيها!! بالتالي لن تنجح الدولة في خوض الحرب.
وجوابي إنها إذن أفضل النتائج، أن تتوقف الحروب وأن يبحث السياسيون عن بدائل أخرى لحل مشكلاتهم…
لو علم القائد السياسي أن جنوده يملكون هذا الحق عبر مواثيق دولية تقررها الدساتير الوطنية فإنه بالتأكيد لن يتخذ قرار الحرب أصلا ولن يلجأ إليه وسيبحث من البداية عن البدائل الواقعية لتجاوز الأزمات دون اللجوء إلى الحرب.
ليست هذه النظرية طوباوية حالمة؛ بل هي واقعية تماماً، وهي بشكل أو بآخر مطبقة في الدول التي تلتزم سياستها الحياد الإيجابي، وفي التاريخ الإسلامي نجح الرسول الكريم في تطبيق هذه القاعدة وفي معركتي بدر وأحد لم يجبر أحد على القتال، وأصر على سماع رأي الأنصار قبل خوض معركة بدر، ومن الواضح أنه لو رفض الأنصار خوض الحرب فإنه سينسحب ولن يجبر أصحابه على خوض القتال، وفي يوم أحد فإن عدداً كبيراً من الصحابة رفضوا الخروج للحرب يقدر عددهم بثلاثمائة محارب لسبب ان الحرب ستقع خارج المدينة وأنهم غير ملزمين بالقتال في الخارج، مع تأكيدهم أنهم سيقومون بالدفاع عن المدينة في الداخل.
إن أهم ما يشعل الحروب هو شعور القادة السياسيين أنهم يملكون نهراً متدفقاً من البشر وأن عليهم أن يمارسوا توظيف هذه الطاقات المهدورة في مكانها في خدمة الأوطان وتوسعها وهيمنتها واستعلائها.
وفي موادهة هذه النزعة المدمرة التي تتفاعل باستمرار مع الديكتاتوريات فإن من واجب الدولة أن تخلق المنصات الواضحة والمراقبة قضائياً وحقوقياً وإعلامياً ليقول العسكري ما يريد في حماية القانون، وعند ذلك سيذهب السياسيسون إلى القرارات المناسبة.
للأسف لا يبدو هذا الحق إلى اليوم محل اعتبار في المحافل الدولية، ولا تزال الأمم المتحدة مكبلة بتابو السيادة الوطنية، الذي يمنع الأسرة الدولية في التدخل بخيارات الحكومات المحلية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية فإن محمد علي كلاي وهو أشهر رياضي جلب المجد للأمريكيين حين رفض القتال في فيتنام، لم يحمه القانون الأمريكي واعتبرا فاراً من الزحف وتم تجريده من اللقب والحكم عليه بالسجن!
في العقود الأخيرة بدأت بعض القوانين تدرك بؤس فكرة الحرب الإجبارية على المواطن، وتتقبل فكرة رفضه المشاركة في الحرب التي لا يؤمن بها، وفي القانون الأمريكي مثلاً بات القانون يجيز للمواطن المجند أن يمتنع عن المشاركة في حرب ضد بلد تمثل له خلفية قومية أو دينية، وهي خطوة في العودة إلى نظام الفطرة الذي يقر بحق الناس في رفض الحروب والالتزام بالسلم.
ومع ذلك وأياً كانت ذرائع الدخول في حروب الموت فإن من الضروري أن نذكر الإنسان، أياً كان هذا الإنسان بقاعدة اتفقت عليها الأديان جميعاً، ولا ينكرها إلا مطموس البصيرة:
كل الكبائر والفظائع تحل في حال الإكراه إلا القتل، فهو يبقى حراماً وإثماً وجريمة حتى لو وضع على رأسك المسدس وقيل لك اقتل أو تقتل.
القتل حرام ولم يحل في دين ولا شريعة، وأحقر الناس من قتلوا الآخرين ثم قالوا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وأعظم الناس من خسروا حياتهم لأنهم رفضوا أن ينهوا حياة الآخرين.