رحل جودت سعيد الفقيه الإسلامي المستنير الذي استطاع أن يقدم صورة أخرى للإسلام المتسامح في غمار عقود طامية من العنف.
ليس جودت سعيد كاتباً عادياً، فهو لم يكتب قط في ثقافة القطيع، ولم يكتب قط ما يطلبه المستمعون، لقد كتب دوماً ما يحتاجه المستمعون، وهذا النوع من الكتابة هو بالضبط أيضا ما تكرهه الملوك وتقلق له عروش المستبدين.
رحل جودت سعيد بعد ان قاوم بضراوة دين العنف الذي بات سمة واضحة لثقافة الجهاد في الفقه التقليدي، حيث نقوم باستمرار وبدون أي تردد بتدريس طلابنا مسؤولياتنا تجاه الأمم ملخصة بالخيار المثلث الإسلام أو الجزية أو السيف، مقروناً برواية الحديث المشهور: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا نكف عن تبرير هذا الخيار باعتباره مظهراً لتسامح الإسلام! دون أن نعي ان هذا الخيار الموهوم ليس إلا انقلاباً على كل قيم القرآن الواضحة في قوله تعالى: لا إكراه في الدين، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وهو أيضاً انقلاب على مواثيق الأمم، ودساتير الشعوب، وإعلان الحرب بين الإسلام والعالم ودفع العالم للمغالاة في فوبيا الإسلام القادم من الشرق ورسالته الإسلام أو الجزية أو السيف!
ومع أن هذا الوعي العنيف القتالي غير قابل للتطبيق بالمرة وأن المسلمين في وضع المغلوب لا الغالب، ولكن مشايخنا لا يقبلون مناقشة هذه الحقائق ويصرون على أن تكرار الغزوات الإسلامية التاريخية هي السبيل الصحيحة لحماية الإسلام من مكر الشرق والغرب!
وأما آيات الرحمة والتسامح فلم يتردد عدد من قادة الفكر العنيف أن يشطبوها بكلمة واحدة كما فعل الواحدي النيسابوري والنحاس وابن الجوزي وابن حزم بأن كل آيات التسامح والرحمة والتعاون مع الأمم منسوخة بآية السيف، وحتى لا نمضي إلى التخمين فإن ابن سلامة المقري على سبيل المثال نص أن 124 آية من آيات التسامح والرحمة في القرآن الكريم قد نسخت بآية السيف!
كانت رسالة جودت سعيد هي اللاعنف وفي ذلك كتب كتبه: كن خير ابني آدم، ومذهب ابن آدم الأول، والإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً، وآيات الآفاق والأنفس، وعلى الرغم من موجات العنف الضارية ولكن جودت تمسك بموقفه في اللاعنف، وبات يؤصل له كل يوم، يقدم الدليل والبرهان من النص والواقع.
الإيمان بالسلاح هو الذي جعل الخلاف الفكري يتحول إلى صراع مسلح، تلتهب به المجتمعات الإسلامية، ويكرر جودت بحرقة وأسى أن المسلمين قتل بعضهم بعضاً بواقع عشرين ضعف ما فعله بهم أمريكا وفرنسا والمحتل الإسرائيلي، وعنف الأنظمة والمعارضات تحولت إلى جحيم دامية يكتوي بها الشعب، وتندلع بها الحروب الأهلية المريرة.
اللاعنف هو مذهب ابن آدم الأول الذي تحتاجه الأمة في هذه الأيام العصيبة، بعد أن سقطت في حمى العنف والعنف المضاد، وليس أمام هذا الواقع من مخرج إلا المنطق القرآني الشجاع: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين).
اللاعنف عند جودت سعيد ليس مقاومة سلبية تقوم على المظلومية والاستعطاف والبكاء، ليست لطميات نبكي فيها هزائمنا وخيباتنا، ليست تراجيديا يتغنى فيها الإنسان بمصارع الشهداء، ثم يمضي العمر بالبكاء على أطلالهم وتعداد مناقبهم.
اللاعنف كفاح صادق وجريء يقض مضاجع الاستبداد ويوجع الظالمين والمستكبرين، اللاعنف نضال سياسي وحقوقي ودبلوماسي واقتصادي، وله أدوات وأظفار ومخالب، لا يؤمن بقوة العضل ولكنه يؤمن بقوة الكلمة، لا يؤمن بقوة السلاح ولكنه يؤمن بقوة البرهان، وقوة الكفاح السياسي والدبلوماسي، وفي سوريا التي تعيش حالاً من الرعب والخوف كان الشيخ جودت سعيد أحد القادة الاجتماعيين النادرين الذين صوتوا بوضوح وعلانية ضد الرئيس نفسه عند الانتخابات الرئاسية، واعتبر ذلك موقفاً ديمقراطياً مسؤولاً في مواجهة ممارسة غير دستورية ولا ديمقراطية، وحين رفض مدير المركز الانتخابي تسجيل موقف جودت خوفاً عليه من الأذى، ذهب جودت يشتكيه إلى المحكمة المتخصصة، وبالطبع فقد كان الموظف في المحكمة أخوف من الموظف في المركز، وطويت المسألة في مملكة الرعب والخوف.
وفي أفق آخر كان الشيخ جودت في أول الموقعين على إعلان دمشق دمشق الذي وقعه الأحرار من فرسان هذا الشعب النبيل عام 2001 وفيه يطالبون بالتحول الديمقراطي وتداول السلطة ووقف تغول الظلم والاستبداد.
اللاعنف نضال حقوقي ودبلوماسي، هو تمرد على قوانين المظالم، هو صرخة في وجه الجلاد، هو خروج الناس إلى الشوارع وتعطيل إرادة المستبد، وكان جودت سعيد حاضراً في معظم التجمعات التي كان ينظمها الناشطون على باب المحكمة أو الأمم المتحدة أو السفارات المعنية بحقوق الإنسان.
لم ينجح جودت في الحفاظ على منبر جمعة، ولم تكن لديه حكمة المداهنة والمصانعة لكسب رضا المتغلب، وقد قام الاستبداد بعزله مراراً من المنبر، وسجنه مرتين، ولكن كان يتحول باستمرار من المنبر الحكومي إلى المنابر الممكنة، فيقدم للشباب رسالته الواضحة في ممارسة اللاعنف، مقاوماً وشجاعاً ومتحدياً، ورافضاً بكل شموخ كل شروط الاستبداد.
جودت سعيد صوت صارخ في برية العنف والجنون، لقد أكد الرجل أننا مسكونون بالعنف حتى الثمالة، وأشار إلى ثقافة السيف التي طبعت التاريخ الإسلامي وأطفأت ما فيه من نور الوحي وبرهان النبوة، حيث صار السيف حكماً بين المسلمين، به تقوم الخلافة وبه تنقطع، وبه يتحدد الحق والباطل، واعتمده الفقهاء أيضاً حين قرروا حق المتغلب وقاموا بإلغاء حق الناس في الحرية والكرام والشورى.
اللاعنف الذي ينادي به جودت سعيد ليس ثقافة بلهاء تجلعنا نجلس القرفصاء على أطراف هذا الكوكب العاثر نعاني ممارسات الظلمة وهم يأكلون أموالنا ويضربون أبشارنا ثم نحسبل ونحوقل عاجزين! اللاعنف جهاد حقيقي، كلمة حق تزلزل عروش الطغاة، اللاعنف هو كفاح سلمي نقاوم به الظلم والاستبداد.
يرى جودت أن تعليمنا قائم على ثقافة اتهام الآخرين، وأن تخلفنا سببه تآمر العالم علينا، وأننا ضحايا الاستعمار والإمبريالية والماسونية والمخططات الخفية للشر، ولكننا ننكر تماماً أن أصل البلاء والمشكلة هو أنفسنا، لقد أعلن الله والملائكة وآدم أيضاً أن المشكلة فيك وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن ما نعانيه من تسلط الدول الكبرى علينا هو بسبب قابليتنا للاستعمار، فنحن من نحني ظهورنا للمستبدين ونمنحهم فرص التسلط بسبب خيباتنا وشقاقنا وتنازعنا، وهي بذلك سنة الله التي فطر الناس عليها.
اللاعنف لا تعني أبداً أن نربت على كتف الظالم، ونبتسم له في جرائمه، اللاعنف نضال إيجابي حقوقي واجتماعي وسياسي، يتفاعل فيه المكافح مع منصات العدالة في العالم لإنصاف المظلومين وحساب الظالمين.
الغضب والصياح والزمجرة لا ترفع الظلم عن مظلوم، ولا تسوق المجرم إلى قوس العدالة، ولكن النضال الحقوقي الطويل هو من يحقق النتائج.
ومن المؤسف ان مذهب ابن آدم الأول كما يسميه جودت لم يكن على الإطلاق محل احترام أو اعتبار لدى القوى المسلحة في بداية الثورة السورية لا في النظام ولا في المعارضة، وفي يوم حزين دخل الغاضبون إلى قرية الشيخ جودت بئر عجم ولم يترددوا في إطلاق النار على شقيق جودت الذي سقط على الفور شهيداً، وحفظ الله جودت على الرغم من موقفه الصريح في وجه السلاح وقامت أسرته في عجالة بتأمين انتقاله إلى تركيا دون أن يحقق العنف نهمته، ودون أن ينجح المستبد في إرغامه على تغيير موقفه.
برحيل جودت سعيد تفقد الأمة الإسلامية أحد أقوى أصواتها في التمرد على الاستبداد بوسائل اللاعنف، ويغيب القائد الاجتماعي الأبرز في المقاومة السلمية والذي بات في ضمير الجميع غاندي العرب.