في حوار فريد نظمته دار الفكر قبل اثني عشر عاماً ضمن برنامجها: حوارات لقرن جديد، جمعني اللقاء مع العزيز الطيب الذكر الأب الياس زحلاوي، وكنا طرفي المنصة لنتحدث عن السلام والعنف في الديانتين الأعظم.
والأب الياس أطال الله عمره لمن لا يعرفه أستاذ نبيل في اللاهوت، وموسيقي فريد، يؤمن برسالة الفن في منح في بناء المحبة والجسور، وقد أسس فريق كورال فريد من الموهوبين والموهوبات يقدمن أروع الأغاني في التسامح والمحبة، وقد طافت فرقته بدول العالم وقدمت أناشيد لاهوتية كما قدمت أعذب أغاني المسلمين وعلى رأسها طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، وعليك صلاة الله وسلامة شفاعة يا جد الحسنين…
في بداية اللقاء تحدثت طويلاً عن ثقافة السلام وأشرت بحزن أن النصوص الدينية المقدسة تحتوي على العنف في التوراة والإنجيل والقرآن، وأن علينا أن نقوم بواجبنا في تأويل النص عندما يبدو عنيفاً، على أساس ظروف التنزيل وحاجات التأويل، وأوردت في هذا السياق آيات متعددة، مثل: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، وإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، وغير ذلك من الآيات التي يجب تأويلها لئلا يؤدي فهمها الظاهري إلى تبرير العنف.
أنهيت مداخلتي ودفعت المايك للعزيز الأب الياس، وأنا على ثقة أنه سيكمل ما بدأته، ويا للمفاجاة فقد ذهب الرجل إلى خيار آخر، وتحدث بلغة عمرو بن العاص في مواجهة أبي موسى الأشعري، وقال: لقد سمعتم ما قاله الشيخ محمد حبش حول آيات العنف في القرآن، وهذا صحيح بكل تأكيد، أشكره على هذه الشجاعة، ولكنني أؤكد لكم انه لا وجود لنصوص العنف في الكتاب المقدس!
صدمني جواب الأب الجليل، ويبدو أن رسالته المنغمسة بالحب والسلام حجبت عنه الرؤية فلم ينظر إلى حقيقة وجود هذه النصوص العنيفة في كل دين… ولكن ما العمل الآن؟ نظرت بين الحضور فوجدت العزيز عبده التشة وغمزته حتى صعد المنصة وقلت له: بأي ثمن أريد نسخة من الكتاب المقدس في الحال، ابحث في مكتبة المركز وستجد بالتأكيد!! لم تمض دقيقتان حتى كان الكتاب المقدس امامي على المنصة.
وحين انتهى الأب الجليل من كلمته، قلت له يا معلم، لقد قدمت حقيقة طبيعية ومشهورة أن نصوص العنف موجودة في الكتب المقدسة، وكنت كريماً من جانبي حين أتيت على أمثلتي في القرآن الكريم بدافع الاختصاص، وتركت لكم بيان هذه النصوص في الكتاب المقدس! ولكن يبدو أنك يا معلم مستغرق في السلام والمحبة إلى حد أنساك وجود هذه النصوص في الكتاب المقدس، وها أنا قد أحضرته وسأقرأ بين يديك، وقرات على الفور من إنجيل متى 10-34 على لسان المسيح عليه السلام: ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، ثم اخترت نصاً آخر من إنجيل لوقا 16-27 وفيه يروي المسيح خبر أحد القادة ويصفه بالشريف، وفيه يقول: أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي!
قلت له سيدنا.. هذه بعض نصوص في العهد الجديد، فهل ترغبون بالقراءة من العهد القديم، (التوراة)؟ بالطبع نصوص العنف والدماء تتكرر في كل صفحة في أسفار التوراة الخمسة، وفي أسفار الأنبياء؟
بالطبع ابتسم الأب العزيز، وقال كلنا ضد العنف وكلنا ندعو للمحبة والسلام.
لا أجهل أيها السيد أن لهذه النصوص تأويلات تصرفها عن العنف، وتجعلها في سياق المحبة والرحمة، ولكن هذا الفهم الذي وصل له الكهنة المحترمون ليس بالضرورة هو ما فهمه الشعب، فهناك من يفهم النصوص على ظاهرها ولا يرى تأويلنا إلا نفاقاً ومداهنة، وهناك زعماء دينيون وقفوا عند هذه النصوص تحديداً وجعلوا لها يدين ورجلين، ليعززوا ثقافة العنف ضد المختلف، وبإمكاني أن أسألك أيها العزيز: هل كان المحاربون الصليبيون القساة الذين جاؤوا من أوروبا بصيحات بطرس الناسك وأوربان الثاني إلا ضحية التفسير الحرفي لنصوص بالغة القسوة؟ هل كان فرسان الهيكل والاسبتارية حين يغتسلون بالدم ويركمون الجماجم لقتال المسلمين في القدس وكذلك لقتال إخوتهم المسيحيين الشرقيين هل كانوا يرتلون من آيات: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر؟ وهل كانوا يقرؤون أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم صلوا لأجل الذين يبغضونكم؟؟؟ أم كانوا يقرؤون من هذه النصوص العنيفة؟
قلت للجمهور الكريم: نحن أبناء هذا الماضي بكل ما فيه، وعلينا الاعتراف أن أجدادنا احتكموا إلى السيف، وحسموا خلافاتهم بالدم، وكان هذا هو شكل العالم، ولكننا اليوم في مكان آخر، وفي ساحة مختلفة، وعلينا الاعتراف ببؤس الماضي لننتقل إلى المستقبل.
ليس مطلوباً منا أن نحذف حرفاً من القرآن الكريم ولا الإنجيل ولا التوراة ولا سنن الأنبياء، بل علينا احترام هذا التراث بكل ما فيه، ولكن علينا أن نحدث الإصلاح المطلوب في عقولنا وأفكارنا ووعينا، أن ندرك أن الإنسان هو سيد قدره في العالم، وأن النصوص لا تلغي مكان العقل ومكانته، وأن النصوص محكومة بالزمان والمكان، ولا يجوز أن نقفز فوق سبب النزول وسبب الورود، وظرف النزول وظرف الورود، وأن نقرأ نصوص التاريخ بروح الزمان والمكان الذي نزلت فيه، وليس ان نسرمدها في الزمان والمكان، ونلغي عقولنا ووعينا.
دون أي تكلف، وبدون أي صعوبة
سنفهم أن الأمر العنيف ورد في حالة الحرب، والمخاطب به هو الجيش والدولة وليس
الأفراد قطعاً، ومن الواجب أن نصنف هذه الآيات جميعاً في ملف واحد ونرسلها لوزارة
الدفاع في الدولة الديمقراطية فهي من يخاطب بالنص العنيف وليس الأفراد قطعاً…
وبالسهولة نفسها وبالاحترام نفسه سنقرأ النص الذي يشمل كل مسلم بدون تمييز بالدعوة
إلى السلم والمحبة، وهو نص أبدي لكل فرد وجماعة وأمة وحكومة لا يختص بوزارة الدفاع
ولا قيادة الجيش: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات
الشيطان إنه لكم عدو مبين.
مستحيل أن يعطينا الله عقولاً ويخبرنا أنها أهم نعمه وأعظم عطاياه، ثم ينزل شرائع تخالفها!
الوحي نور والعقل نور والنور لا يطفئ النور…