هكذا كان عنوان التوصية الثالثة في اللقاء التشاوري الذي انعقد في دمشق في بعد شهور من بداية الثورة، وتم إقراره عبر توقيع لجنة الصياغة إلى جانب السيد فاروق الشرع رئيس المؤتمر.
وأذكر جيداً أن السيد فاروق الشرع حين التقى لجنة الصياغة بعد إتمام إنجاز التوصيات التي استغرقت الليل كله، وأمسك القلم بيده وتردد في التوقيع، ليس نظارتيه وقرأ بعناية مقترح تأسيس المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، وكان في المداولات الرسمية لهذه التوصية أن رئاسة هذا المجلس ستكون لشخصية حقوقية من المعارضة، وكان ذلك يعني بصراحة تقديم ضباط ورجال مخابرات كبار ولغوا في الدم السوري للعدالة والتحقيق، وهو أمر لا يمكن تصوره في سوريا حتى اليوم.
أعاد السيد فاروق الشرع تركيز نظارتيه على التوصيات، ثم استأذن لعشر دقائق، غادر اللجنة وأجرى اتصالاً مع رأس النظام وبعد ذلك عاد مستبشراً ووقع الوثائق باسم الدولة السورية، وكان ذلك اليوم أكثر الأيام أملاً وتفاؤلاً بالخلاص من الكارثة التي كنا على وشك السقوط فيها في تلك الأيام الرديئة، وأذكر انني تحثت بعد ذلك بتفاؤل كبير في عشرات المحطات قبل أن أكتشف أنني كنت أبيع الوهم وأن التوصيات لم تكن إلا آمالاً طوباوية، لن تخرج أبدأً من الأدراج الحديدية للدولة العميقة.
والمجلس الأعلى لحقوق الإنسان هو دوماً أبرز معالم الدولة الحرة المستقلة، حيث يحظى هذا المجلس بوضع سيادي يخوله مراقبة الجيش والمخابرات ومتابعة ما يصدر عن المسؤولين النافذين ومحاسبة المسيئين عبر وسائل العدالة والحماية الاجتماعية.
تأسست هذه المجالس في أوربا حين كانت تلك البلدان زاخرة بأساليب القمع والتعذيب الوحشية كالخازوق التتري ومقلاع الثدي وشوكة الهراطقة والمرشة الحديدية وكاسر الأصابع والمخلعة والتابوت الحديدي وعجلة كاترين والاجاصة والحمار الاسباني، وهي أدوات رهيبة تكفي أسماؤها لاستحضار ما تحمله من رعب وقهر، وهي ليست إلا نموذجا من وسائل التعذيب الرهيبة التي كانت منتشرة في أوروبا من قبل، وهي مشاهد هول ما كان لنا أن نصدقها لولا ما رايناه من الأهوال في السنين الأخيرة، حيث لا زال الإنسان يتصرف كوحش غادر لم يتعلم من درس الحياة شيئاً.
حين قامت هذه المجالس في الغرب لم تكن عصا سحرية لتغيير الواقع المرير ولكنها كانت بداية مشوار طويل لإنصاف المظلوم من الظالم، ورفع معاناة المقهورين والمعذبين، وخلال عقود دفع كثير من الناشطين من رجال حقوق الإنسان حياتهم ثمناً لهذه الآمال الكبيرة، ولكن التاريخ يكتب دوماً في فصله الأخير انتصار الدم على السيف ويعزز الحقيقة الخالدة أن الله خلق هذا العالم من أجل نهاية سعيدة عامرة بالعدالة.
فهل يكون واقعيا ً اليوم أن يطرح هذا الأمر مجدداً عبر مؤتمر موسكو؟
للأسف إن أوضاع حقوق الإنسان في روسيا لا تبدو جيدة بالمقارنة مع الدول المتحضرة ولكنها على كل حال أفضل منها في بلدنا المنكوب، ولست أدري هل هو من السذاحة السياسية أو من الواقعية السياسية أن نتصور حماس الروس اليوم ناهيك عن قدرتهم على تحقيق تقدم حقيقي في إطار حقوق الإنسان في سزريا ورفع المعاناة عن الناس عبر قيام المجلس الأعلى لحقوق الإنسان في سوريا.
ولكن قراءة الأحداث من زاوية المصالح قد تحمل بعص الامل، فالروس مهتمون بتحقيق شيء ما على الأرض في سوريا، وربما كان إنجاز شيء من هذا النوع دافعاً لهم ليبرروا للعالم ولشعوبهم على الأقل أنهم يقومون بدور أخلاقي في سوريا.
مجلس أعلى لحقوق الإنسان يشارك فيه النظام والمعارضة، يقوم بالذهاب إلى كل الأماكن التي يهان فيها السوريون إلى الأماكن المحاصرة والسجون المظلمة ومراكز الاعتقال، ويقدم المجرمين التي مارسوا التعذيب في عنابر الموت إلى المحاكمات وينصف المظلوم من الظالم…
يشارك في أعمال هذا المجلس مراقبون من الأمم المتحدة، ومراقبون متطوعون من الهيئات المدنية والاحتماعية والإنسانية، ويتولى المجلس الادعاء المباشر في القضاء المحلي والدولي على كل من يقوم بخرق حقوق الإنسان مهما كانت رتبته وموقعه.
سيقول لي أصدقائي وأي حقوق إنسان تريد أن تراقبها في بلد تخترق فيه ارضه وسماؤه بالبراميل والهاون والدوشكا وأشكال السلاح اللعين الذي لا يتوقف كل يوم، فهل أنت جاد في توهمك وهل تتصور أن هذه البرامج الوردية لها نصيب من الأمل في زمن الحرب…
لدي شعور برغبة الروسي في فعل شيء، ولدي قناعة بأن الضمائر موجودة على الضفتين، حية وميتة، ومشاهد التعذيب الوحشي التي تعرض لها أحد عشر ألفاً من أبناء سوريا في أشرس عنابر الموت لا تشرف أحداً، ولا أشك أبداً أنها أدمعت عيون كثيرين من أبناء النظام نفسه، لا يملكون فضاء الإعلام الذي نملكه، وأنهم باتوا يلعنون المجرمين الساديين القتلة، ولكنهم لم يجدوا سبيلاً ليرفعوا الصوت كما يجب.
أشك أن رجلاً واحداً من أهل الموالاة في سوريا له بقية من ضمير يمكنه أن يدافع عن هذه الوحشية السادية في التعذيب، حيث قدمت لنا الوثائق القاطعة صور أحد عشر ألف سوري ذاقوا على يد جلاديهم أبشع أشكال القتل والقمع والسحل وسمل الأعين وصلم الآذان وبقر البطون وسلخ الجلود، وهي بطولات حقيرة لا تشرف أحداً، وغالبا ما يكتب الله للمجرم مصيراً يماثل ما صنعه بضحاياه، ولكن لا أحد يتعلم!!
نكفر بعقولنا حين نعتقد أن الضفة الأخرى بدون ضمير والموالون ليسوا بالضرورة جلادين أو ساديين، إنهم في أحيان كثيرة رافضون معترضون، ولكن لا توجد لديهم أداة محاسبة ولا تحقق، وأطن أنهم يتوقون إلى نظام مسؤول يفرض وقف هذا اللون من الجرائم.
إنني على يقين أن هذا المجلس لن يكون أبداً حلا سحريا لمشاكلنا، وقد يعجز بالفعل عن وضع حد للضباط الكبار الذين تحولوا إلى آلهة لا يسالون عما يفعلون، ولكنه بكل تأكيد سيوقف كثيراً من الجرائم الوحشية، وحين توضع أسماء المجرمين على مطالبات الأنتربول الدولية، وتقوم دول الجوار بإدراجهم كمجرمين قتلة، وحين تقدم طائفة منهم للعدالة فإن الأشرار سيقومون بالعد إلى مائة قبل أن يقدموا على تعذيب إنسان.
إنها أحلام وردية بكل تأكيد، ولكن من يدري ..
ما بين غمضة عين وانتباهتها.. يبدل الله من حال إلى حال…
previous post
next post