وكأن ما بالناس من مآس وعذابات لا يكفيهم، فإلى جانب الموت والقهر والعذاب والدماء والدموع وحصاره في أرضه وبلده وإغلاق الحدود الأربعة بمن فيها عليه تطارده الفتاوى المترافدة اليوم في تحريم هجرة المسلم إلى بلاد الكفار.
فما هي بلاد الكفار وما هي بلاد المسلمين؟
من المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم لا يزالون يقسمون العالم الى دار اسلام ودار كفر، وهذه النظرة المتعالية على الآخر كانت سبباُ في تخلف الأمة وسقوطها في مستنقع النرجسية والغرور الأجوف وهو ما عبر عنه الغزالي في كتابه الشهير: حصاد الغرور.
ومع أن الحوار هنا ليس نقاشا فقهياً بل هو مواجهة فكرية محضة ولكن دعونا نمارس الانتقائية إياها ونشير إلى عدد من نصوص القرآن الكريم التي ترفض هذا اللون من التعالي الأجوف وتدعو إلى بناء علاقات ندية متعادلة مع العالم سواء اتفقنا أو احتلفنا معه في تحليل الأشياء.
• وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
• قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون
• وقل الحق من ربكم فمن شاء فليكفر ومن شاء فليكفر
ويملك بالطبع من يعارض توجهك هذا أن يشير إلى نصوص قرآنية صادمة في رفض الآخر رفضاً مطلقا كما تدل له الآيات:
• يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس
• ومن يتولهم منكم فإنه منهم
• يا أيها الذبن آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعصهم أولياء بعض
والآبات بهذا المعنى كثيرة وحين تضعها في سياق متقابل فإنك لا محالة ستقبل ظاهر طائفة منها وتتأول الأخرى، ونحن يهذا المعنى شركاء مع أشد التيارات السلفية في الانتقائية، وقناعتي أنه لا يمكن فهم القرآن بدون هذا وهذا هو سياق التاريخ، وهو ينسف الموروث الإنشائي الخطابي الذي نتغنى به: صالح لكل زمان ومكان، إلى السياق الواقعي القرآني نفسه: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها.
والحالة الوحيدة التي نهى فيها النبي الكريم أصحابه من الاقامة بين ظهراني المشركين كانت في صحابي من خثغم… ترك المدينة وراح يسكن في مكة بين مشركي قريش الذين كانوا يحاربون الرسول ويغزون المدينة كل عام، وهؤلاء قطعاً لا يصح الاقامة بينهم، وهم بكل تأكيد اعداء محاربون وليسوا مجرد مختلفين في العقيدة، ومن المنطقي أن يقول الرسول الكريم: لا أحل لمسلم أن يقيم بين ظهراني المشركين….. لا تتراءى ناراهما!!
وحين انتقل الصحابي الخثعمي ليقيم بين المشركين المحاربين، فإنه يشبه في ذلك السوري الذي ينتقل للمقام في تل أبيب، وهي دولة عدوة محاربة، وليس المقصود أبداً ذلك المسلم المهاجر الذي تقذفه عواصف البحار إلى عواصم الغرب المتحضر ليقيم في بقية من كرامة وحياة.
ولكن هل هناك أدنى قياس بين هذا اللون من الخيانة والتواطؤ مع أعداء الأمة المحاربين وبين إقامة المسلم في بلد متحضر يحترم حقوق الإنسان والحريات وتبنى فيه المساجد والمدارس الاسلامية ويحتكم الى قانون عادل لا يظلم فيه أحد؟؟؟
إن الرواية الأقرب لواقعنا اليوم هي قوله للصحابة: اذهبوا الى الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده أحد…. وكان بالطبع مسيحيا ومن حوله بطارقته وكهنته وقساوسته….
ومن كلام الرسول الكريم من رواية أحمد: البلاد بلاد الله والعباد عباد الله وحيثما أصبت خيراً فأقم.
وقال فديك: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من ارض قومك حيث شئت) -اخرجه الطبراني
إننا هنا بين طائفة من النصوص تؤسس للعيش المشترك مع المختلف دينياً بشرط توفر الكرامة والحقوق، في مقابل نصوص أخرى جاءت في معاداة الكفار، ولا أشك أبداً أنها وردت في المقاتلين والمحاربين، وليس في أولئك المختلفين دينياً، أياً كانت أديانهم ومذاهبهم.
الغرب الكافر مصطلح أعمى، استخدمه سيد قطب في خمسينيات القرن العشرين ثم أصبح صورة متوترة لوصف الآخر المختلف، وفق توزيع جغرافي أصم لا يؤمن بالمؤشرات الحضارية على الإطلاق وينحبس في القفص الايديولوجي القاتم، بعيداً عن قيم الإسلام العليا في الإخاء الإنساني والعدالة القائمة على السلوك وليس الاعتقاد.
لقد تبادلنا الأدوار مشايخ وسياسييت في تسويد صورة الغرب الكافر وتجميل صورة الشرق المؤمن، والحق أنه ما من حكم مطلق، وما نحاول تسويده ليس بأسود، وما نحاول تجميله ليس بحميل، بل كل امرئ بما كسب رهين، وكل حضارة مرهونة بسلوك أبنائها والتزامهم الحضاري والإنساني، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
قبل سنين كتبت لي أول زيارة لليابان، ذلك الكوكب الرائع الذي أنهكته الحرب العالمية دماراً وموتاً ولكنه أصر على استئناف الحياة من جديد وتمكن من بناء كوكب مختلف داخل هذا العالم وأصبحت حضارته وانجازاته تملأ العالم.
كانت فرصة لي لرؤية العالم الحديد، في أرقى صور بهائه ورونقه، وعندما عدت إلى دمشق صعدت منبر الجمعة وقلت للناس: منذ عشرين عاما وأنا أصعد هذا المنبر وأفسر لكم سورة الرحمن وسورة الفرقان، واليوم سأفسر لكم سورة اليابان…!!!
كان طرحاً صادماً يستدعي ألف سؤال حائر حول سورة اليابان…
قلت لهم: لو أن الرسول الكريم قرر اليوم أن يزور هذا العالم، وركب البراق الذي تركبه الأنبياء ونزل من برزخه العلوي ووقف في سماء الدنيا يختار أرضاً ينزل فيها، أين هي أمتي؟ إنهم بالتأكيد من نجحوا في تطبيق وصاياي، وعملوا على تحقيق ما حملته لهم من الخير والعدالة.
سيسأل أولاً عن أول كلمة جاء بها من السماء: اقرأ… فأين هي الأمة التي استجابت لله والرسول حين دعاها لما يحييها؟ تبلغ نسبة الأمية بين العرب 30 في المائة عموما وترتفع لتبلغ وفق موسوعة انكارتا 75 بالمائة بين نساء اليمن وفي السودان 78 وتبلغ في الصومال المسلم 90 بالمائة من النساء أميات لا يقرأن ولا يكتبن.
إن أمة اقرا لا تقرأ… فيما تمكنت اليابان من دفن آخر أمي في عام 1971 وأصبحت اليابان خالية من الأمية تماماً.
ولو سأل عن الآية الكريمة: وإن هذه أمتكم أمة واحدة… فإنه سيجد أن العالم الإسلامي يتألف من 57 دولة وهي تختار سياسات متناقضة ومحتلفة وتعجز عن توحيد رأيها في المحافل الدولية في حين أن اليابان التي يبلغ سكانها 130 مليون إنسان يمثلهم وزير خارجية واحد في المحافل الدولية ويصدرون عن راي واحد يفرض احترامه على العالم كله.
ولو سال عن قوله: بورك لأمتي في بكورها فإنه يمكنك أن ترى اليوم الياباني يبدأ في الخامسة صباحا فيما يبدأ اليوم العربي في العاشرة قبل الظهر.
ولو سال عن قوله: إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه، فسيكون الجواب واضحاً تحدده الأسواق بين ما صنع في عواصمنا وما صنع في اليابان.
ولو سال عن قوله: ما آمن بي ساعة من نهار من أمسى شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم، فإن النتيجة الصادمة أن المجتمعات العربية لا تزال تغلي باللاجئين والنازحين والمتسولين والفقراء فيما يستعرض مترفوها سياراتهم اللامبارديني والرولزرايس وقصورهم الفارهة ولا يطالهم قانون تكافل حقيقي يقضي على الفقر فيما قصت اليابان على التسول كله تقريبا ووفرت للمحتاجين كفالات كريمة تغنيهم عن سؤال الناس.
ولو سال عن قوله الطهور شطر الإيمان، وشاهد الواقع البيئي وتردي النظافة في السوارع العربية فيما تطوف النهار كله في شوارع اليابان فلا تقع على عقب سيجارة!
ولو سأل عن قوله: أن الله يكره العبد البطال، ووفق وثائق الأمم المتحدة فإن نسبة البطالة تبلغ في البلاد العربية 22 بالمائة وفي ليبيا قبل الحرب الأخيرة نحو 35 بالمائة غير البطالة المقنعة التي تضاعف عدد العاطلين فيما تتحدث اليابان عن معدل بطالة لا يتجاوز 4 بالمائة
ولو سأل عن قوله: النساء شقائق الرجال، فإنه سيجد المرأة اليابانية تشغل 30 بالمائة من المناصب القيادية في اليابان في حين أنها لا تزال ممنوعة من قيادة السيارة في أرض الحرمين.
وطرحت عليهم في المسجد عشرين سؤالاً مماثلاً بالطريقة إياها: السؤال من القرآن والجواب من الأرقام…. ثم تساءلت: فهل يلام النبي العربي الكريم إذا قرر ان يهبط حيث طبق الناس تعاليمه في طوكيو؟؟
أما لو سال عن أطول الأمم لحى وأكبرهم عمائم وأغلظهم سواكاً فلا شك انه سيهبط في مقديشو أو قندهار.
حان الوقت لنعود بقيم الإسلام العليا إلى شعار: أمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، ونبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء، ودين بين الأديان وليس ديناً فوق الأديان…..