يمثل إدوارد سعيد منارة معرفية سامية زرعت في بيت المقدس وتوازع حصادها وجناها في عواصم العالم المتحضر وراء البحار، وليس من المبالغة في شيء أن نشير إلى مدرسة ادوارد سعيد التي ستظل لعقود في مكان الريادة في إطار العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب.
بدأ حياته شريداً عن أرضه، فقد كان ابن ثلاثة عشر عاماً حين شردته النكبة إلى مصر، ومع أنه لم يسكن في الخيام حيث وفر له والداه في القاهرة حياة كريمة، فقد كانا يعيشان أصلاً في القاهرة، وقد تمكن دون عناء من دخول جامعة فيكتوريا في القاهرة، ولكنه ظل يعيش معاناة الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.
وفي هذه الكلية الارستقراطية التي كان من رسالتها أن تنشئ جيلاً من النخبة متصالحاً مع العصر الكولونيالي، صرح ادوارد سعيد “أنه يواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة” لقد كان في واقع دقيق وتقتضي العادة أن من يدرس في ظروف كهذه فهو في النتيجة واحد من اثنين إما عميل طبيعي للاستعمار، أو ثائر عليه في غمار حرب تحرير دامية، وقل أن تنتج هذه المدارس الارستقراطية موقفا متوازناً كذلك الذي قدمه ادوارد سعيد في كفاحه الثقافي من أجل الدفاع عن الهوية العربية والفلسطينية خصوصاً.
وفي كتابه “غزة – أريحا.. سلام أمريكي” سجل أيضاً أنه تحمل نصيبه من الشتات والحرمان، ولكنه لم يبتعد بفكره وقلبه عن العالم العربي، وأنه بعد اضطراره للنزوح “من فلسطين بسبب نكبة 1948 وجدتني أعيش لفترات متفاوتة في مصر -التي قضيت فيها سنوات الصبا- وفي لبنان وفي الاردن” قبل أن يستقر في الولايات المتحدة.
وفي الولايات المتحدة حيث استقر به المقام حقق ادوارد سعيد نجاحاً لافتاً في الجامعات الكبرى في أمريكا فمن معهد ماساشوتس إلى جامعة هارفارد إلى جامعة برنستون ظهر نبوغ سعيد وتمكنه ،وأتيح له أن يمضي الشهور الطويلة أستاذا زائرا في كبرى الجامعات الأمريكية قبل أن يستقر أستاذا مقيماً في جامعة كولومبيا.
وقد بدأ ادوارد سعيد يرسم ملامح موقفه من الحضارة الغربية من خلال مشاهدات تركت في نفسه أعمق التأثير حول عقدة الاستعلاء التي مارستها الثقافة الغربية تحاه العرب والمسلمين.
ومع أن دراساته كانت دوماً تحمل طابع النقد المستمر للحضارة الغربية، وبشكل خاص بحثه الأحفوري في قيام الولايات المتحدة، والمظالم التي تورط بها المستكشفون الأوائل وقيامهم بإلغاء حضارارت المايا والأزيتا، ولكنه لم يشأ أبداً أن يتحدث عن الغرب على أنه حالة سقوط حضاري مـتأزم، وحين أشار بعض النقاد إلى كتاباته التي تمارس نقداً عميقاً للحضارة الغربية ووصفها بأنها تعيش جاهلية القرن العشرين رفض الانسياق وراء هذا التجني، ودافع عن موقفه بأنه لم يقصد أبداً أن يكون عدواً للتفكير الغربي والحضارة الغربية على الإطلاق، وإنما قصد هدم جدار الوهم الذي طبع الغرب في تعامله مع المسالة الشرقية، نتيجة فكر استعلائي مؤسس على الأساطير، التي جاءت بشكل تلقائي في خدمة المشروع الكولونيالي الأوروبي.
وفي أعقاب النكسة 1967 وجد ادوارد سعيد نفسه يتوجه إلى دور سياسي أكبر، ولم تعد المقاعد الجامعية أكبر همه، ولكنه على حال اتخذها مبنراً لنقل عناء الشعب الفلسطيني التائه ومنبرا لرفع هذه المعاناة إلى كل مكان في العالم، وكانت قراءة المأساة عميقة الغور في خطابه السياسي، فقد تمكن من جمع ألف دليل على تواطئ غربي – أمريكي بشكل خاص- مع الإدارة الصهيونية التي مارست وبدون أي تردد أعمالاً إجرامية ضد الفلسطينيين، ولكنها ظلت تحظى بدعم السيد الأمريكي؟
كتب ادوارد سعيد أن المسالة بحاجة لفهم الجذور، إن الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني لا تزال حاضرة في المخيلة الخلفية للخطاب الأوروبي، وهي عينها الأساطير التي حركت في الحاضر البوارج الأمريكية لخوض الحروب في اليابان وفيتنام في الحاضر كما حركت في الماضي وبشكل مثير طلائع المستكشفين الأمريكيين في العالم الجديد.
مع وصول البرتغاليين والأسبان إلى العالم الجديد في أمريكا في أعقاب ترحيل المسلمين من الأندلس على يد إيزابيلا وفرديناندو، ووريثهما الأسطوري جورج الخامس، وما تبع ذلك من محاكم تفتيش رهيبة، كانت هذه الأساطير جاهزة أيضاً لتلهب حماس البحارة والملاحين الذين ركبوا أهوال الأتلانتس بحر الظلمات ليصلوا الى العالم الجديد، حيث كانت الأسطورة في خدمة الفتح الجديد وتم التأكيد أن نبوءات الكتاب المقدس حول أرض الميعاد وكنعان الجديدة وهرمجون المقدسة وغيرها ستكون جميعأ على الشواطئ الجديدة للعالم، حيث تم منح المستكشفين شرف تحقيق نبوءات الكتاب المقدس، وتم تأويل الأرض الجديدة بأنها كنعان الجديدة وأصبحت سفن كولومبوس وأمريكو تحظى بتأويل إعجازي لكل ما ورد في الديانة عن المخلص والفادي ورجل آخر الزمان، وتم تأويل هرمجدون في كل مكان واجه فيه المحتلون مقاومة وطنية، وتماما كما تم تبرير العودة الصهيونية إلى فلسطين بالأساطير الدينية قام التأويل الديني بالدور نفسه قبل قيام اسرائيل بنحو أربعمائة عام.
وهناك تم تبرير ارتكاب أفظع المذابح وأبيدت حضارات المايا والأزيتا، وأطلق اسم الهنود الحمر على أبناء الشعوب الأصليين وتمت ممارسة أبشع أشكال القهر ضد حضارات حقيقية في الغرب، وظل القانون الأمريكي يفرض جائزة مجزية لكل من يأتي بفروة رأس رجل من الهنود الحمر!! إلى عام 1864، إنها نفس الدوافع التي حركت المركب الكولونيالي الأخير سواء كان استعماراً أوربيا للشرق أو هيمنة أمريكة على العالم أو منظومة اشتراكية تتحكم فيها إدارة متخصصة بدكتاتورية البروليتاريا.
في قراءته للاستعمار الغربي يعود سعيد الى الجذور “الى المجازر التي ارتكبها الغربيون عندما اكتشفوا أمريكا، حيث قتلوا عددا يتراوح بين 60 و 100 مليون من سكانها الاصليين، وكانوا يرون في ما يرتكبونه من مجازر ومذابح واجباً إنسانياً ودينياً وأخلاقياً، ولا زالت الروايات والافلام الأمريكية تمارس الدور الاستعلائي نفسه في اضفاء صفات الوحشية والتخلف على السكان الاصليين الذين تم وصفهم بالهنود الحمر.
ويرى سعيد أن هذه الثقافة ليست قطعة من التاريخ الآفل، بل هي جزء من منطق التعاطي الأمريكي مع الأحداث اليوم، وأن هذه الإحداثيات يمكن تأملها في الثقافة النيتشوية التي سادت في الغرب وبررت أشرس الحروب بمنطق بناء الإنسان السوبرمان الجديد، وبررت للطيار الأمريكي ألقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناغازاكي وهو يشعر بأنه يقوم بعمل وطني مجيد من أجل مستقبل الحضارة التي لا مكان فيها للضعفاء والواهنين.
وفي روايته التي صدرت ترجمتها العربية بعنوان (خارج المكان) يقدم ادوارد سعيد نقداً عميقاً لقيم الحضارة الغربية في النموذج الأمريكي الذي يفرض ثقافته في العالم مبشراً بنهاية التاريخ.
وحين يتحدث ادوارد سعيد عن العقل الاستشراقي الغربي فإنه لا يكتفي بتقديم نماذج من القراءات التراثية كما في حالة غولد زيهر وجول لابوم وفنسنك وكارل بروكلمان بل يذهب إلى قراءة الأمثلة الأكثر وضوحاً من خلال دراسة مقاربة ومتعمقة في سلوك بلفور وكرومر ولورنس العرب، ومع أن هؤلاء لا يصنفون عادة مع المستشرقين بالمعنى التقليدي ولكن ادوارد سعيد تحدث عنهم بوصفهم النتيجة الطبيعية للاستشراق عندما يؤتي حصاده.
لقد استخدم بلفور وكرومر عدداً كبيراً من الأوصاف بحق العق العربي، فالشرقي غير عقلاني، وفاسد وضال ومتخلف ومثل الطفل، ومن ثم فالاروبي عقلاني وفاضل وناضج وسوي.
ويبحث ادوارد سعيد أحفوريا في الأسباب التي تجعل هذا الاستخدام ممكناً لشعوب بحالها، فلم يكن ذلك ممكناً لولا التقاليد الاستشراقية التي قامت خلال قرون بتقديم رؤية متعالية للإنسان الغربي على الإنسان الشرقي، وقد مكنت هذه الثقافة الأوربيين خلال الفترة من 1815 إلى عام 1914 من توسيع نظاق سيطرتهم من 35 من سطح الأرض الى 85 بالمائة منها، ولا بد من مواجهة الجهد الاستشراقي بجهد معرفي مماثل يتأسس على منطق المساواة بين الشعوب والتكامل بين الحضارات وليس الصدام والصراع..
وقدم ادوارد سعيد خدمة جليلة للمعرفة من خلال موقعه المحايد في شرحه لعلاقة الغرب بالإسلام، حيث ينحدر الرجل من أبوين مسيحيين يحملان الجنسية الأمريكية، ويتحدث الانكليزية كلغة أصلية في محيطه المنفتح، إضافة إلى اللغات الفرنسية والألمانية والعربية والعبرية.
ويوضح ادوارد سعيد أن الصدام بين الإسلام والغرب بدأ مع وصول الإسلام إلى بلاد الشام ورحيل الاحتلال الرومي الذي سيطر على الحياة الاجتماعية والسياسية لبلاد الشام أكثر من ثلاثة عشر قرنا، وخلال ثمانية قرون فقد كان التواصل بين الإسلام والغرب يختصر في المواجهة العسكرية بين العرب وأوربا وحروب الروم والفرنجة التي تكرست أخيراً في الحروب الصليبية الدامية وما أفرزته من نتائج كارثية لم تتح بناء اي علاقة ثقة بين الشرق والغرب، وكان الغرب ينظر الى الاسلام على أنه في احسن الأحوال حركة آريوسية خاصة، أو بتعبير الياس المر؟ “الإسلام بدعة نصرانية مارقة، ولكن محاولات فهم الإسلام بوصفة ظاهرة ابستمولوجية بعيداً عن غرائز الفاتحين والملوك والمحاربين لم يبدأ إلا في القرن الخامس عشر.
وينقل ادوارد سعيد خبراً مثيراً على لسان سذرن عندما حاول أربعة من العلماء هم جون السيجوفي ونيكولاس القومصي وجان يرمين واينياس سيلفيوس التصدي للإسلام من خلال مؤتمر ” مع الاسلام” حيث كان هذف هذا المؤتمر دعوة المسلمين جملة للتحول عن عقيدتهم، تأسيساً على أن أي نفقة تبذلها أوروبا في هذا السياق لن تكون أكثر تكلفة من الحرب، ومع أن المؤتمر لم ينته إلى شيء ولكنه كان يعكس الرغبة العارمة لدى الحركة الاستشراقية الأورببية لتحويل المسلمين عن دينهم، وذلك نتيجة استقرار عقيدة الاستعلاء القومي التي مارسها الغربيون عموماً على سائر الشعوب التي عملت في كنفهم.
ولكن موقف ادوارد سعيد يتجلى في تحليل ظاهرة شيطنة الإنسان العربي الذي مارسته السياسة الغربية وقام الاستشراق بدور لئيم في خدمة هذه الفكرة الملعونة، ويشير بشكل خاص إلى تعاظم هذه الفكرة (شيطنة الإسلام) بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وإدراك الغرب أنه بحاجة إلى عدو، وهو ما صرحت به آنذاك مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا بقولها لقد سقط النظام الشيوعي وأمامنا الآن من يتهدد الحضارة الغربية إنه ببساطة الأصولية الإسلامية.
ولقد واجه ادروارد سعيد هذا التوجه الغربي المنحاز عبر نقده الشديد لزميله الكاتب الأمريكي برنارد لويس الذي يشير ادوارد سعيد إلى دوره الخطير كرجل نافذ التأثير في السياسية الأمريكية ، بحيث تعتبر دراساته جزءا من الوثائق التي ترسم السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
تبنى برنارد لويس فكرة عنصرية حاقدة حول الإسلام، وفي ذلك يقول : إن الإسلام ظاهرة غير عقلانية تستلهم منطق القطيعأو الجماهير وتسيطر على المسلمين بالانفعالات والغرائز وضروب الكراهية الخالية من الفكر….. ويقول برنارد لويس: إن الإسلام لا يتطور، مثلما المسلمون لا يتطورون، فهم موجودون وحسب وعلينا أن نحذرهم بسبب جوهرهم الخالص الذي يتضمن كراهية مطلقة طال عليها الأمد لليهود والمسيحيين.
وإزاء هذه المواقف العنصرية لبرنارد لويس فإن ادوارد سعيد كان يتحدث من موقعه كعربي مسيحي لا يمكن اتهامه بالنوازع السلفية أو الأصولية، يقدم الأدلة تلو الأدلة على العيش المشترك الذي نجح الإسلام ببنائه تاريخياً، مركزاً على تجربة أرض فلسطين التي كانت خلال التاريخ أرضاً للتعايش والمحبة والسلام وأن السطور السوداء في حياة العيش المشترك هنا هي الأيام التي أعلن فيها الغرب الحروب الصليبية اللئيمة، ثم الأيام السوداء التي أعلن فيها الغرب مرة أخرى قيام قاعدة حضارية له في فلسطين باسم اسرائيل.
ولكن حديثه عن الأطماع الغربية الاستعلائية لا يدفعه إلى إنكار حقيقة موقفه من الأساطير الدينية المؤسسة للشقاق والفوضى في فلسطين، وبريشة الفنان المبدع يرسم سعيد صورة فلسطين بقوله: يا له من مصير رهيب لفلسطين!!، فقد جذب الخيال الديني ودراما نهاية العالم، بكل مآسيها وأهوالها، لا مرة واحدة فقط بل ثلاث مرات اليهودية والمسيحية والإسلام.. ….. وما إن نزيل طبقة النفاق الديني الخارجية ….. حتى ينكشف مرجل يغلي بالخرافات الفظيعة والأعمال الوحشية وأنهار من الدم، وعدد لا يحصى من الجثث.
ثم يأخذه الهول والذعر من الجنون المطبق الذي تؤمن به الأصولية المسيحية كمصير حتمي للأرض المقدسة وفق نبوءات الكتاب الأول:
وفقا للسيناريوهات التي اقترحها هؤلاء الأصوليون المسيحيون فإن روسيا وإسرائيل يأجوج ومأجوج ستحوضان معركة نهائية مدمرة تنتصر فيها روسيا حتى يتدخل المسيح (لا ذكر للعرب هنا إطلاقا) وبعدأن ينتهي القتال سيعيدهم المسيح إلى القدس التي سيحكمون العالم منها!!
ويخلص ادوارد سعيد إلى النتيجة المنطقية هنا وهي ظهور الجوقة الإسلامية كردة فعل لهذه الأساطير التي ترسم ملامح الشرق الأوسط والعالم كله على أساس نبوءات العهد القديم في فلسطين.
وفي معركته مع الأصولية المسيحية واليهودية والإسلامية في قراءة مستقبل فلسطين يبذل ادوارد سعيد جهداً كبيراً في تفكيك الأساطير المؤسسة للكيان العنصري الصهيوني كما هي الأساطير المتوعدة بتأسيس كيانات مماثلة، ويجتهد أن يرسم بريشته كمقدسي شاهد على العصر صورة أخرى لفلسطين بلد محبة وسلام لجميع أهلها، يتم فيها ترحيل الأساطير كافة إلى قسم الآداب والتراث فيما يدعو إلى حمل الملف الفلسطيني عبر النضال الوطني والتضامن الدولي إلى الأمم المتحدة كقضية حقوقية وإنسانية واجتماعية، تستلهم روح العدل والكرامة لكل أبناء هذه الاض الطيبة.
ومع أن ادوارد سعيد قبل دعوة الرئيس عرفات للالتحاق بالمجلس الوطني الفلسطيني، ولكنه ظل يرفض بالمطلق اتفاقيات السلام المبرمة مع الجانب الفلسطيني، ليس على أساس ثيولوجيا ميتافيزيقية بقدر ما كان يناضل على أساس حقوق إنسانية ووطنية مشروعة للشعب الفلسطيني حيث لا تبدو اتفاقية أوسلو معنية بشراد هذا الشعب وعذاباته، وكتب في ذلك كتابه: سلام بلا أرض .
بعد رحيله عام 2003 يمكن القول إن ادوارد سعيد لم يكن أول من كتب في الاستشراق ولن يكون آخرهمK ولكنه يظل أكثرهم إقناعاً بعد أن عاش لغة القوم ونال من ثقافتهم وحلب في إنائهم، ودرس في مدارسهم، وفي الوقت نفسه عاش شراد الفلسطيني الهائم وعذاباته وآلامه، ثم أمسك القلم ببصيرة وعمق رؤية، كأنه هو المقصود بقول إقبال:
ليس يخفى على القلندر فكر ……… ساور النشا ظاهراً أو خفياً
أنا عندي بكل حــــالك خبر …………. فبهذا الطريق سرت مليـــاً