Uncategorized

الدكتور محمد حبش-على أطلال النكبة… هل من فرصة جديدة للإصلاح الديني…

ارتيط الإصلاح الديني في العصر الحديث باسمي محمد عبده وجمال الدين الأفعاني، وفيما مضى الأفغاني للإصلاح السياسي والدعوة إلى الجامعة الإسلامية في تناغم مع صيحات الكواكبي الحلبي فإن الشيخ محمد عبده هو الذي اقتحم بشجاعة ساحة الاصلاح الديني وخاض معارك ضارية مع التقليد الديني في مصر وبلاد الشام.

ويمكن تلخيص رسالته التجديدية في إصلاحات ثلاثة:
الأولى: دعوته إلى تحرير المرأة من غياهب الحريم ومنحها موقعاً مكافئاً في الحياة الاجتماعية يتناسب مع حقوقها الإنسانية وقدراتها في بناء الحياة، وهو ما حرره بإسهاب تلميذه قاسم أمين رائد تحرر المرأة في مصر والبلاد العربية.
الثانية: الدعوة إلى الإخاء الديني من خلال إحياء المشترك بين رسالات الأنبياء، والدعوة إلى التقريب بين الأديان والبحث في مقاصدها وإطلاق المشاريع المشتركة للتعاون الديني في سبيل إنهاء الحرب وإطلاق رسالة السلام في الأرض
الثالثة: الدعوة إلى الاجتهاد، فالنص يتناهى والحوادث لا تتناهى، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، وللشريعة عشرة مصادر ينبغي إحياؤها جميعاً، منها الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي.
ولا شك أن دعوته إلى الاجتهاد لم تكن تتحرك في فضاء سهل بل كانت تواجه المسألة من الجذور، حيث تقف مباشرة أمام السؤال الكبير أين هو أفق الاجتهاد المأذون به وأين هي فضاءاته، وهل يقتصر على إعادة إنتاج تراث القدماء وطباعة الكتب الصفراء على أوراق بيضاء.
في حواراته مع فرح أنطون كان محمد عبده يؤسس للون جديد من البرهان لا يعرفه المصريون، واختار محمد عبده أن يعود بالفعل إلى الأيام الذهبية للإسلام حين كانت الحوارات مع الدهريين والطبيعيين تجري على شاطئ دجلة، وبحضور الخلفاء وكانت تنتهي أيضاً كما بدأت بسلام حيث يعود المحاورون إلى بيوتهم من دون أن يجبروا على تغيير قناعاتهم التي كانت تتجه مباشرة إلى إنكار الخالق نفسه، بله الأديان والرسل والأنبياء، وهو مستوى من الحوار كان العقل الديني قد رفضه بالكلية مذ أقر في كتب الأصول الكبرى ذلك المبدأ الهمجي اللئيم: من بدل دبنه فاقتلوه.
إننا بكل أمانة نتحرج اليوم ليس من التفكير على منطق محمد عبده بل من مجرد الإشارة إلى آرائه التقدمية، ومع أن قدراً غير قليل من منابر الثقافة في العالم الإسلامي تأثر بفكر الرجل، وخصصت أقسام خاصة في الجامعات العربية لدراسة فكره وتجديده، ويطلق اسمه اليوم في الأزهر على أهم قاعات التعليم فإنه لا زالت المؤسسات التي تتخصص في التعليم الشرعي إلى اليوم تنظر بركام من الريب إلى فكر محمد عبده على سبيل المثال فإن الرجل الذي كان مفتياً في أكبر بلد عربي إسلامي قبل مائة عام يدرس اليوم في كليات الشريعة (دمشق مثالا) على أنه هرطوق!! ويتولى عدد غير قليل من رجال الدين المعاصرين تكريس سلسلة دراسات تهدف إلى وصم قادة التجديد الإسلامي بالماسونية، وأنه مفتون بالغرب وأنه عميل إنكليزي إلى آخر قائمة الاتهامات حيث يتم إدراج أسماء بالجملة: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد فريد وجدي ومصطفى المراغي وطه حسين، ومنصور فهمي، وعلي عبد الرازق و عبد الرحمن الرافعي و احمد شوقي وحافظ ابرهيم ومحمد شفيق غربال ، في إرادة واضحة لتلطيخ رموز النهضة حتى لا يفكر أحد بعد ذلك بالنهضة من جديد.
وشخصيا شهدت في كلية الشريعة حملة مستمرة لتشويه خطاب النهضة قادها الشيخ البوطي في مؤلفاته التي كانت تدرس على طلاب كلية الشريعة ولا تزال الى اليوم، ولم يتورع الرجل في اعتباره منكرا للوحي ماسونيا عميلا للبريطانيين، الى سلسلة اتهامات تناغمت معه فيها عدة دور نشر سورية لنشر أبحاث ودراسات ووثائق تثبت انتماء المدرسة التنويرية للماسونية العالمية، ولا شك أن هذه الحملة قد أثرت بشكل كبير على هدم الجسور بين تيار الإصلاح الديني وبين الجيل الجديد من حملة الشريعة.

إن الرجل الذي تخرج من الأزهر وعاش حضارة الغرب في عواصمها كان من وجهة نظري عصياً على الاستهلاك، وظلت رسالته المكورة في عمامته ترسم ملامح نهضة شرقية إسلامية، ولم يكن أبداً يخفي حزنه لإخفاق المؤسسة الدينية في التجاوب مع إصلاحاته، وقد سجل ذلك في قوله:

ولست أبالي أن يقال محمد أبل أم اكتظت عليه المآتم
ولكن ديناً قد أردت صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم

إننا نشعر اليوم بأن الرجل الذي قاد كفاح الأمة التحرري للنهوض برسالة العقل يواجه اليوم بركام من الريب، ويتم التعرض له غمزاً وهمزاً تحت اسم اتجاه العصرنة والفرنجة، وتتم الإشارة إلى خياراته في الفقه الإسلامي على أنها مواقف معتزلية شاذة لا يرضاها جمهور الأمة ولا علماؤها.، واليوم يواجه الشيخ محمد عبده بالاتهامات المختلفة على أساس أنه كان يغرد خارج السرب، ومن أجل مواجهة خطابه الإصلاحي فإن الاتهامات جاهزة تارة بوصمه بالعقلانية! وكأن استعمال العقل أو الاحتكام إليه سبة يجب تنكبها، وتارة بحجة العلاقة مع الإنكليز مع أنه عاش ستة أعوام بين سجونهم ومنافيهم!!
ومع أن المقال لا يتعدى قراءة التاريخ ولكن بوسعي أن أقول إن إحياء رسالة التنوير التي بدأها الإمام وأصحابه تحتاج لوسائل حقيقية ومنابر مؤثرة، فان المطلوب اليوم هو توفير منابر إعلامية وأكاديمية حقيقية للتنوير الديني لمواجهة خطاب التشدد وإيديولوجياته التي اعتمدت على وسائل الإعلام والمعاهد الدينية ونمت بشكل مريع في غفلة (أو مباركة) من أنظمة الاستبداد التي رأت في الخطاب الديني الأسطوري فرصة جيدة لمواجهة الإسلام السياسي وإخراح الحركة الإسلامية من الحياة السياسية ومنحها البرزخ الوهمي الذي تنشر فيه فكرها ووهمها، وهو تصور انقلب بالسحر على الساحر ودفع هذه الحركات لمزيد من التطرف وأخيراً لإعلان الانطلاق الكبير نحو مشروعهم في استئناف الجهاد وأسلمة العالم على المنطق إياه الذي استعملته جحافل الفتح الأول، وحتى بالأساليب نفسها في الغزو والسبي، الذي تبوأ مكاناً مشروعاً في ضمائر المحاربين بعد عقود من القطيعة التامة عن الواقع مارسه الخطاب الايديولوجي الديني الذي يعيش في الأرض ويحتكم إلى السماء.
إن الظروف الآن مواتية تماما للإصلاح الديني فقد قدم الإسلام الأصولي برنامجه التنفيذي الباطش مطبقاً بدقة ما تعلمه من أفكار، وكانت النتيجة ما تمارسه المحاكم الشرعية التي تلتزم الحاكمية في طالبان والصومال وداعش والنصرة وحتى الفصائل الاسلامية في الجيش الحر، وأصبح العقل الإسلامي الشعبي مدركاً تماماً أن التطبيق الحرفي للدين سيودي إلى الجحيم وأصبحت الآمال أكثر تعلقاً بخطاب ديني إصلاحي يكسر الأيقونات كلها ويعود بالإسلام إلى ما قبل المذاهب وما قبل النص، أو قل إلى النص الإنساني المكي الأول، إلى إسلام الفكرة الأولى في التوحيد والحرية والعدالة والفضائل التي كرستها الفكرة الأولى قبل أن يتم تدوين وحي او كتاب.

Related posts

الدكتور محمد حبش-المؤسسة الدينية في سوريا ومأزق المفتي

drmohammad

د.محمد حبش- التجنيد الإجباري..الإثم المقدس والإنتهاك الأبشع لحقوق الإنسان 2017/01/07

drmohammad

هل اكتمل الإسلام؟

drmohammad

Leave a Comment