Uncategorized

د.محمد حبش-فرنسيس فاندرلخت أيقونة للسلام بين السوريين

مع أنني لا أحب صناعة الرثاء، خاصة في هذا الموسم الرهيب الذي تبسط فيه خيام الرثاء على طول الوطن وعرضه، في الداخل وفي الشتات الذي صار تيهاً بابلياً مراً لا يدري أحد أين ستكون نهايته الكئيبة، ولكن الوقوف عند الأب فرنسيس فاندرلخت تستدعيه أكثر من مناسبة، وأعتقد ان علينا أن نتعلم الكثير من تاريخ هذا الرجل وكفاحه.
لا أستطيع أن أقول عن فرنسيس أنه هولندي إلا على وفق قواعد السياسة الصماء التي تتصرف بلا قلب وتحكم على الإنسان بشهادة ميلاده، فالأب اليسوعي سكن سوريا منذ نحو نصف قرن وقد أقام على ترابها وتحدث لغتها وارتسمت في ملامح وجهه ملامح السوريين من أبناء حمص العتيقة، واختار أن يسكن مع الفقراء والمحرومين والمعذبين فيها.
كان قدومه إلى سوريا عام 1966 ولست أدري أي منا أقام في سوريا أكثر من الآخر، ولكنها بكل تأكيد أطول من إقامة معظم أعضاء ائتلافنا الباسل هم وأولادهم في سوريا، ولو كان فرنسيس في أمريكا لكانت هذه المدة كافية لمنحه الحق بالترشح لرئاسة الولايات المتحدة.
جمعتني بالأب فرنسيس سهرة واحدة في بيت العزيز رفلة كردوس قبل أربعة أعوام، كان عميقا في تساؤلاته عن الله، كانت تساؤلاته غريبة في عالم المنطق اللاهوتي: هل يشعر الله بالسعادة عندما يغفر؟ هل غفرانه صفح وتعالي أم فطرة وفرح، هل له أهداف سياسية في الغفران، وهل يقصد ضمهم إلى جمهوره أم أنه يمنحهم غفرانه ليسعد بسعادتهم؟ هل هي أداة هداية أم أنها محض فطرة بريئة؟ أذكر تماما كيف شدهني بتساؤلاته، وربما كانت أمتع رحلة لي بين عالم اللاهوت والناسوت.
تحدث طويلا عن اليوغا الروحية التي يمارسها في حمص، كات يملأ قلوب مجالسية بالمحبة والأنس، ويأخذ بأيديهم ليطلوا على عالمه الجميل حيث تلتقي الأرواح والقلوب، ويذوب الكل في الوحدة البيضاء، بعد عناء طويل.
حدثته بحماس عن مشهد الذاكرين المولوية الذين لا يتوقفون عن الدوران، في سعيهم للبحث عن الذات الواحدة، حيث تذوب الألوان جميعاً في اللون الأبيض، وتتأكد حقيقة أن الله خلق الكل بقلوب بيضاء وأن السواد والدكنة والظلمة عبث يرسمه الإنسان حتى إذا ما بدأ الإنسان طوافه حول الحق فإن الألوان جميعاً تزول في سبيل الحقيقة الواحدة التي تظهر فيها حقائق الأشياء،
فاجأني بقراءة فصيحة لكلمات الامام ابن عربي:
لقد كنت قبلاً منكراً كل صاحب إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل ملــــة فمرعى لغزلان وديـر لرهبان
وبيت لأوثان وكعبـة طائــــف وألواح توراة ومصحـــف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

فرنسيس كان واحداً من الذين يؤمنون بالإنسان العالمي، إنه ابن الكوكب، وبلاد الله أوطاني، والإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، إنها في العمق قراءتي لخلاص الإنسانية وبناء العالم الجديد.
فرنسيس كان من ذلك النوع من المبشرين الذين يؤمنون بالفعل بالفداء والتضحية وإلا فإنه لا يوجد أي سبب منطقي يحمله على البقاء في حمص بعد أن اجتاحتها أفظع عواصف الموت، وتقرر أن المقاعد المتبقية هي فقط للراحلين إلى العالم الآخر.
وحين كان السوريون عندما يرقبون الخارجين من المدينة المحاصرة من الجياع، العائدين من مقابر الموت، كانوا يسعدون برؤية وجه فرنسييس وهو يطل بين الحين والآخر ليقول للعالم نحن بخير والرب مش ناسينا.
هل كان فرنسيس يتوقع أن يحظى في دار الآباء اليسوعيين بحمص بسياحة لا تتوفر في أمستردام أو روتردام؟ مستحيل ..
لم يكن ذلك الكاهن الهولندي ينتظر شيئا من حمص، أمراؤها وأغنياؤها ووجهاؤها قد رحلوا من زمن، وهي رحلة بدأها الحماصنة منذ أكثر من قرن حين رحلوا إلى العالم الجديد في البرازيل، واليوم مضت الدفعة التالية من أبناء حمص إلى ذلك المغترب البعيد حيث لا خوف من الفوضى الخلاقة الهائمة في الشرق الأوسط، ولكن فرنسيس قرر أن يبقى في أحياء حمص العتيقة مع من تبقى من فقراء المسلمين والمسيحيين، وأن لا تعدو عيناه عنهم، ومعظمهم لا يجد نفقة السفر، ولو أنهم وجدوها لأمكنهم الوصول إلى خيام الزعتري أو عرسال حيث يجد السوريون بعض أمان فقدوه، ويحلمون بالأمل في عالم جميل.
ليس فيما أكتبه عن الرجل أي مبالغات، أما منطقي الفلسفي فهو يتطابق معه بالمطلق، ولكن دعني أعترف أنني لا أملك شجاعته، ولا يبلغ التهديد الذي أخرجني من بلدي عشر التهديد الذي كان يلقاه كل يوم، ولكن تسمر في هذه الأرض، ولم يكن يقود مقاومة تحررية ولا لجنة شعبية، لقد كان يعيش متعة التحرر في فؤاده ويراهن أنك تستطيع أن تجعل العالم جميلاً رغم أنه لم يعد فيه شييء جميل.
بالتسبة للسوريين أعتقد أن الأب فرنسيس سيكون أيقونة للحياة والأمل، لم يكن هناك أي شك في أنه سيلقى حتفه على يد الغضب الهائج، فللنظام أسبابه وللثوار أسبابهم ولقطاع الطريق واللصوص أسبابهم، ولكن الرجل قدم لوناً فريداً من السمو الإنساني لا يرقى إليه، أحد لقد اختار بالفعل ان يكون أصدق من قرا في سوريا قول الله: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لاقتلك إني أخاف الله رب العالمين.
في سلوك رجال كهؤلاء يمكنك أن تفهم كلام الحكماء الذين كتبوا في الإخاء والحكمة، لا توجد حرب مقدسة، ولا مجد لقاتل ولا شرف لبندقية، وأن السلاح بكل اشكاله كفر بالإخاء الإنساني، وهو إلى رسالة الشيطان أقرب منه إلى رسالة الرحمن.
إني أعلم أن هذه الأفكار الغاندية لا تحظى اليوم بأدنى شعبية في سوريا، بل إنها تعود على المبشرين بها بالاتهام المباشر بالتقاعس والخذلان، وربما إلى العمالة والتآمر وما يتلوها من فتاوى التكفير والقتل، وبالتالي الشعارت الجديدة الأبلغ في اللؤم والكراهية، تم الدعس!!.
هل تجيب هذه المقالة عن السؤال البدهي: من قتل فرنسيس فاندرلخت؟ وهل تم اعتقاله أو الانتقام منه؟ بالطبع لا، فالعدالة في سوريا مؤجلة، ولكن المؤكد ان الرجل حشد عدداً من الأعداء الذين لم يعودوا يحتملون أن يقف المرء في الحياد، وهو موقف أعلنه الأسد منذ عامين عندما قال: لا مكان للحياد ولا للوسطية، إما معنا أو مع الإرهاب، ويؤلمني أن أقول إن خطايا النظام أصبحت أيضاً تقاليد يتبناها قدر غير قليل من كتائب الثوار.
ذات يوم سيضع السوريون البندقية، ويفتحون موائد الحوار للقاء والمصالحة، وسيدرك الذاهبون إلى الموت في سبيل المشاريع المتصادمة أن فاندرلخت كان أيقونة إخاء ومصالحة ، نحتاج أن نعيد كتابتها في مناهجنا، لنعيش في روح هذا النوع من الرجال الذين عاشوا وماتوا بالمحبة، ولم يكن لثقافة الكراهية أي سلطان على أفئدتهم البيضاء.
قناعتي أنه لن يكون لسوريا خلاص حتى ينشأ جيل جديد بهذه الروح وبهذه الإنسانية، إنها ليست مهمة سهلة، بل ربما غير ممكنة في هذه الأيام الرديئة، ولكنها ستظل نداء أهل الحق في هذا العالم الصاخب حتى يأتي جيل جديد يؤمن بالله ويؤمن بالإنسان.

Related posts

الإنسانية قيم مشتركة

drmohammad

المقتولون بالردة

drmohammad

drmohammad

Leave a Comment