بمناسبة إعلان وقف القتال إلا ضد الإرهاب وحواضنه الشعبية
كم أتمنى أن أكتب في التفاؤل ونحن في الساعات الأولى لإعلان كيري لافروف وقف الأعمال العدائية في سوريا، ولكن الاستثناء الملحق بالإعلان والقاضي باستئناف القتال ضد الإرهاب وحواضنه، يجعلنا نتوقع الأسوأ، ونستعد للإحباط وكل ما أملك قوله هو رجائي أن تخيب هذه الطنون، وأن يكون ما أكتبه قراءة ما كان وليس ما سيكون.
لقد أمضيت عمري في محاربة التكفير ورفض قتل المرتد، وكتبت مجلدات طويلة في رفض التكفير وأساليبه ووسائله وأسانيده، وكشفت عن فتاوى التكفير المرعبة عند ابن تيمية وابن عبد الوهاب، ووصلت بالقراء الكرام إلى منبع خطاب التطرف والتكفير، والكتب العميقة التي تؤسس لإقصاء الآخر وإلغائه وإبادته، وكتبت باندفاع وحماس حتى ضد أفكارالإبادة والإقصاء والتهميش التي تطبع تفكيرنا عن عالم الدينونة بعد القيامة.
ولكن الأحداث الأخيرة علمتني أن فتاوى التكفر ليست بالضرورة خطاباً كهنوتياً، وليست شيئا يصنع في تورا بورا ويعلمه المحاربون القساة المسردبون في قندهار ووزير ستان الذين يخططون لتفجير ابراج نيويورك ومترو لندن، إن فتاوى التكفير الأخطر هي تلك التي يصدرها رجال تقدميون يرتدون بزات انيقة، أو رتباً عسكرية عالية، في قصور الحكم الهادئة التي لا تستقبل زواراً ولا كهنة ولا مراجعين ولا محاورين.
فتاوى القتل الأشد قسوة هي تلك التي يصدرها رجال علمانيون ببزات أنيقة وكرافتات وربطات عنق، وعلب سيجار منفوثة، ويطلقون الفتوى تلو الفتوى لابادة قرى بحالها ومشافي ومدارس ومخابز وأسواق، ويتم رفع أسانيد هذه الفتاوى السوداء إلى مصدرين رئيسيين هما قتال الإرهاب ومواجهة المؤامرة.
الفتاوى الجديدة بابادة حلب وتهجير مليون سوري جديد لم تصدر من مشايخ التعصب ولا يمكن ان نرفعها بأي إسناد إلى ابن تيمية أو ابن رجب أو ابن عبد الوهاب، إنها فتاوى من نوع جديد لم يسمع بها السلف ولا الخلف، ويتم اتخاذها في إسناد مسموم تتناوبه موسكو وطهران والقصر الجمهوري حيث يتم اتخاذ قرار باعدام عدة مئات آلاف من السوريين قتلا او تشريدا وتهجيراً، ومستند الفتوى هذه المرة كما يصرح الروس هي أنهم حاضنة للارهاب، وان قطار الموت سيستمر ضد كل بلد أو قرية أو مدينة يدخلها ثائر معارض يحمل السلاح ضد الدولة.
لا يرفع لافروف اسانيده الى البخاري ومسلم ولا ينتظر تأييد ابن تيمية ولا يزعم أنها من فقه السلف أو فقه الخلف، وحتى فتاوى حسون المجانية بسحق البلدات الثائرة لا تعنيه في شيء وربما لم تترجم له إلى الروسية ولم يطلع عليها، ولا أعتقد أنه يتحمل النظر إلى خطيب جامع الأموي وهو يبايعه على الموت، ولا يقرا فتاويه الفاجرة من التراث الأصفر والمناهج الرديئة، ويكفيه أخلاقياً ان يستخدم عبارة إنهم الحاضنة لمنظمات أطلق عليها مجلس الأمن الأسود وصف الإرهاب، وأنه لا ينفع معها إلا الإبادة، وأن الضحايا الأبرياء هم أضرار جانبية لا بد منها لا تؤثر على الهدف الأخلاقي المبرر لإبادة العنف.
سيكتب التاريخ ان العالم كله ذهب لمواجهة خطاب التطرف ومن أجل ذلك قام بالغوص في كتب ابن تيمية وابن القيم وابن رجب، وتم اعتقال المئات من الخطباء والوعاظ الذين عثر في مكتباتهم على كتب ابن تيمية، وتم تجرديهم من حقوقهم المدنية تحت عنوان الاشتباه بالتطرف، وأن فرعاً أمنياً سورياً أصدر بالفعل مذكرة اعتقال بحق ابن تيمية وأطلق رجاله للبحث عن هذا الشيخ الإرهابي المتخفي بين الغوطة الشرقية وبنش وكفرنبل…
ولكن التطرف الأسود الذي كان سبب دمار سوريا وتحطيمها بناية بناية وداراً داراً وزنقة زنقة، ودمار مساجدها ومشافيها ومدراسها كان لا يرتدي عمامة ولا قفظاناً، ولم يكن يطلق لحية مرعبة، ولم يكن يرتدي الزي الافغاني، بل كان في الواقع يرتدي البدلة العسكرية الروسية الأنيقة، ويحلق لحيته وشواربه وحواجبه أيضاً كل يوم بالشفرة البريطانية والمعجون الفرنسي، ويلتقط أمام الإعلام صور ابتساماته اللئيمة، ثم يبدأ مشواره الدونكيشوتي في مطاردة الإرهاب وإصدار الفتوى تلك الفتوى في إبادة القرى والمدن الثائرة، وإيقاع أشد الضربات وحشية وحيوانية بالأبرياء.
لا أعتقد أن بوتين يحمل فلسفة محكمة، ولا ينطلق من رؤية معززة بالأدلة، ولم يقدم نفسه للعالم فيلسوفاً تتهدل حواجبه من طول التأمل وترتعش عيناه من عناء القراءة، ولكن في الواقع كان أسوأ تطبيق لفلسفة نيتشة فيلسوف السوبرمانية الباطشة، وكأن فيه نزلت كلمات زارا العائد من مناجاته في جبل الهول:
اقهر الضعفاء .. اسحقهم اصعد فوق جثثهم، لن نستطيع أن نبني السوبرمان الجديد الا بعد التخلص من الفقراء والضعفاء، ان الاخلاق هي العقبة الاكثر ضررا في وجه التطور الحضاري.
يجب أخلاقياً أن نساعد الضعفاء والفقراء وذلك بطريقة واحدة فقط وهي أن نوفر لهم موتاً سريعاً ومريحاً، وأن نمنعهم من الإنجاب لأنهم يعيدون إنتاج جيل من الضعفاء والمهزومين، فقط المصارعون والملاكمون هم من ينبغي أن يتزوج وينجب.
الفقراء ماكرون وانتهازيون انهم يتصنعون العجز والضعف ليأكلوا ما جمعه الأغنياء بعرق جبينهم وكد يمينهم!!
أما الأقوياء والأرستقراطيون فإنه يتوجه إليهم بالقول: لا تتنازل عن مكاسبك، لا تكن كالأبله الذي تخدعه الدموع والآهات والجثث المسحوبة من تحت الأنقاض وجثث الغرقى الهائمين على وجوههم في أطراف الأرض، فهي دموع تماسيح، وهؤلاء الضحايا فاشلون لم يفهموا نبل مقاصدنا في تحريرهم وتطويرهم، ولا يتقنون السباحة في الهرب منا، (وكان عليهم أن يتعلموا السباحة) إياك أن تتخلى عن مكانك من أجل أوهام أخلاقية… لقد دفع اباؤك ثمنا غاليا من اجل دمك الازرق!!
الثقافة التي كانت سببا جوهريا في صعود النازية وعقيدة الشعب المحتار وبالتالي تسببت في اكبر حرب عالمية في التاريخ تتكرر اليوم، وتأتي دولة عظمى لتقول للمستبد الحاكم بالحديد والنار اياك ان تتوقف، فالنضال الحضاري الجديد يتناقض كلياً مع الأخلاق والعاطفة، أما الإنسانية فهي مكر الفاشلين ضد الناجحين، والخائبين ضد الظافرين، ولا مكان لبضاعة الدموع والحق والقهر، في سوق الحديد والنار.
يمكن ان نعالج التشدد الاسلامي بنصوص الكتاب والسنة وفهم ائمة التنوير في التاريخ الاسلامي، ونصوص القرآن الأخرى التي تدعو الى السلم والموادعة والمصالحة، ولكن كيف يمكنك ان تقنع هذا الغول الروسي الكافر بكل دين أن يتوقف عن جرائمه خاصة وأن عمائم الفتنة لا تزال تتقاطر على سفارته في دمشق تشكر رجاله الأشاوس وتناديه على منبر الأموي بالقائد الفذ حامي الملة والدين وسلطان المؤمنين وقاهر المرتدين!!
يشاهد العالم مئات الضحايا المدنيين ينتشلون من تحت الأنقاض وآلاف الموتى الذين تغص بهم حجرات الموت وعنابره، وبعد ذلك كله يخرج ميدفيديف ليقول بدم بارد انه لا توجد أدلة على وجود ضحايا مدنيين بين القتلى، وعلى العالم أن يفهم أن هؤلاء الأطفال الذين تنتزع جثثهم تحت الانقاض هم ارهابيون او مشروع ارهابيين وان العدالة تقتضي مواجهتهم بهذا الموت ولا معنى لوخزة الضمير الخرافية….
التكفير وفتاوى القتل ليست اختصاص الفقهاء لقد قامت مدرسة التكفير السياسي برايات حمراء لئيمة لا تستبعد احدا من دواوينها اللئيمة
لقد اصبح واضحا اننا نفرط في جلد الذات حين نحمل الكارثة للتكفير الاسلامي، ونعجز عن مواجهة لون اخر من التكفير اشد لؤما وشرا من تلك الاشرطة المسربة عن داعش، ومع ان ذبح انسان كذبح الانسانية جميعا كما يقول القران، ولكن ضحايا داعش ضد أعداء محددين استهدفتهم خلال سنتين من القتل الرهيب يحصدها الروسي في أسبوع واحد ضد البريء والمسالم والناطر والعابر من المنكوبين الذين رفضوا الخروج من ديارهم والذهاب الى المجهول.
لقد افرطنا في جلد الذات وصار من العدل والعقل ان نشير الى المصدر الاشد لؤما لفتاوى التكفير والذبح التي تصدر من القاعات الباذخة في موسكو وتوقعها إرادات شريرة تتقن المشي في باحات الكرملين التاريخية على البسط الحمراء، في أجواء غاية في الأناقة والترتيب تخفي في ثنايا ذلك كله قرارات التدمير والتهجير والإبادة المتوحشة.