وآخر شهداء النيران الصديقة الطبيب النبيل نبيل دعاس الذي كان آخر صوت للعقل والإنسانية في الحرب المتوحشة واختار ان يبقى في الغوطة الشرقية بين سنان النار ولهيب الحرب حتى أصابته رصاصة لئيمة، وفقدت دوما برحيله آخر طبيب متخصص بالنساء في البلدة المنكوبة.
لم يكن للطبيب النبيل شان بنيران المعارك، لقد أقتنع بأن رسالته هي طبه وعلمه، وأن جهاده في الطب والعافية بمثابة شهادة وفداء يقدمه كل يوم، ولم يكن يعنيه في شيء توحش النظام الذي أدرجه على كافة قوائم الارهابيين المطوبة حيث دأب النظام منذ البداية على إدراج المشافي الميدانية وكودرها الطبية كإرهابيين عملاء يخدمون مشروعاً معادياً لدوره في الصمود والتصدي للمؤامرات الامبريالية والرجعية.
ونبيل دعاس ليس آخر من قتلته النيران الصديقة ولن يكون آخرهم فقد سبقه في الرحيل الموجع كثير وواجه الشيخ رياض الخرقي ذات النار الصديقة وهو يمارس دوره النبيل في ترشيد الثورة وبيان الشرعي واللاشرعي في ممارسات الثوار، ومع أن الشيخ رياض كان من أكثر المؤيدين للثورة وترك وظيفته في الأوقاف والتحق بالغوطة مرشداً وقاضياً، ولكن حين أكثر في اعتراضه على سلوك فصيل ثائر لم يترددوا في جوابه بالرصاص ومضى الشيخ إلى لقاء ربه بالنيران الصديقة إياها.
فهل الرصاص قدر لا بد منه للأمة التائهة في جحيم الحرب وشقائها وبؤسها، وكيف امكن لهؤلاء المحاربين التائهين ان ينسوا حصارهم وعناءهم وبراميل النظام فوقهم وطائرات الروسي وكتائب الإيراني، ثم ينصرف بعضهم لقتال بعض وتصفية خصوماتهم على أخس ما يكون التوحش والجنون؟
لست أدري كيف يشعر شهيد مسرابا وهو ينزف برصاص دوما، ولا أفهم كيف أمكن إقناع العربيني أن يقاتل الدوماني وأن يصطف الناس في لعبة موت عمياء يصدق عليها قول الرسول الكريم لا يدري القاتل لم قتل والمقتول لم يقتل.
وحتى شيوخ الثورة الراسخين في فقه الجهاد كريم راجح وسرور زين العابدين وعصام العطار والشيخ معاذ الخطيب أصدروا بياناً شرعياً ومناشدة مباشرة للمتقاتلين في الغوطة أن يكفوا عن القتال فيما بينهم ويرحموا أهل الغوطة المحاصرين التائهين في كل وجه، ولكن أنى للغرائز الهائجة بشهوة الانتقام أن تنصت لصوت العقل، وأنى للرصاص التائه أن يتوقف عن جنون الموت، ولا زالت أشد أشكال المأساة قهراً تلعلع في مسامع المنكوبين في غوطة دمشق في ظلمات الليل البائس لا يدري القاتل لم يقتل ولا المقتول لم يقتل.
لقد كان التأصيل الشرعي لقيام الثوار بالدفاع عن أنفسهم في وجه توحش النظام هو رد الصائل، وهو موقف فقه معروف يتأسس على قول النبي صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أرضه فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومقتضى رد الصائل هو الدفاع عن النفس من الاعتداء الحال بما يمكن من رد الباغي ووقف عدوانه، ولرد الصيال أحكام كثيرة معروفة في الفقه الإسلامي، وشروط صارمة متشددة أراد بها الفقهاء الاحتياط من شر السلاح، ومنع تحوله بيد المدافع عن نفسه إلى أداة بغي وعدوان، كما هو حال كثير من النوايا النبيلة التي انطلقت لمواجهة الاعتداء ولكنها تورطت فيما نهت عنه، وتحولت إلى السلاح التائه.
ولا شك ان ما نكتبه عن الغوطة هو قدر أسود يتكرر اليوم في كل خنادق الثورة، وهي لعبة لئيمة يمارسها النظام باحتراف ولكننا لا نتعلم شيئاً من درس الحياة هذا، وفي كل يوم ترتسم في سوريا ملامح اصطفافات وتصفيات جديدة لا تعود على أي سوري بأدنى قطرة من خير، وتزيد العناء عناء والعذاب عذاباً والقهر قهراً، وتؤكد أن لا شرف لبندقية، والسلاح أعمى، والقتل لا يدرأ بالقتل، وتنصيب الناس لأنفسهم قضاة وجلادين لا يتصل بالعدالة في شيء وهو إلى سبيل الشيطان أقرب من سبيل الرحمن.
لست أدري إن كانت هذه الكلمات ستبلغ مسامعهم، ولكنها صوت آخر لوقف العنف وكف القتال، والرحمة بأهل الغوطة المحاصرين الذين يهربون منذ خمسة أعوام من موت إلى موت، ويقتلون بالرصاص الصديق والرصاص العدو، على ركام منازلهم وأطلال أحبتهم.
فارحمونا ايها الثائرون، وارحموا الأبرياء في هذه الغوطة المنكوبة وتوقفوا عن العبث بلعبة الموت هذه، واعلموا أنه لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن، وأنه ما من غضب من الله أحرى أن يعجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة من قتل مؤمن، ومن قتل نفساً بغير نفس او فساد فيالأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعا.
لقد امضيت عمري أعارض القتال بكل وجوهه ولم أعد أستطيع أن أطل على منبر إعلامي لأنني بالفعل لم أعد امثل أحداً لا النظام المتوحش القاتل ولا المعارضة المسلحة الثائرة، فالطرفان لا أفهمهما وسأعتصم بمكاني تماماُ في الطريق الثالث الذي لا يؤمن بالقتال ولا الحرب ويختار النضال السلمي إلى النهاية.
هل هناك نيران صديقة ونيران عدوه؟
النار القاتلة ليست صديقاً لأحد، والسلاح أعمى، والسيف البصير حلم من سراب، وفي الزمن السحيق حاول سعد بن أبي وقاص أن يبحث عن السيف البصير وحين امتنع من القتال قال له أصحابه كيف تعتزل الناس ومن ورائك مائة ألف سيف يغضبون لغضبك ويسيرون في ركابك ولا يسألونك فيم غضبت! قال لهم ببراءة: أريد من مائة ألف سيف سيفاً واحداً إن ضربت به المظلوم قطعه وإن ضربت به الظالم لم يقطعه، وحين تبين أن هذا السيف البصير حلم أفلاطوني واهم تولى الرجل ودخل داره وسمر عليه بابه ولم يخرج حتى انتهت الفتنة!
بكل مرارة إن سيف سعد الذي يبحثون عنه لم يخلق بعد.