مقالات

التيارات الإسلامية ومسائل المواطنة والدولة والأمة… سؤال الأمة

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
الدوحة – قطر

التيارات الإسلامية ومسائل المواطنة والدولة والأمة
سؤال الأمة

بحث مقدم
للمؤتمر العلمي الثاني

الإسلاميون وقضايا الحكم الديمقراطي

إعداد الدكتور:
محمد حبش
مستشار مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان
أستاذ مشارك – جامعة أبو ظبي

6-8/10/2013

التيارات الإسلامية ومسائل الأمة والدولة والمواطنة
سؤال الأمة

مع بداية الألف الثالث عصفت بالبلاد الإسلامية عاصفة التغيير والتحول الجذري، وبدأت كتابة التاريخ على مسار بالغ الاختلاف، وتتالى التحول الدراماتيكي من أفغانستان إلى العراق إلى الصومال ثم توضح المشهد بالربيع العربي العاصف من تونس إلى مصر فليبيا فاليمن وأخيراً سوريا التي تشهد مخاضاً عسيراً للتغيير يعتمد مشهداً دموياً قاسياً، وسط إرهاصات بمشاهد أخرى للتغيير الجذري تبدو ملامحها في العراق مرة أخرى وفي الأردن والبحرين والسودان، ويبدو أنها لن تستثني الخليج العربي.
وتختلف القراءة السياسية اختلافاً جذرياً في قراءة التغيير، بدءاً من الأسلوب الذي تم به تدخلاً خارجياً كما في العراق وليبيا أو ثورة داخلية كما في تونس ومصر أو صراعاً مسلحاً دامياً كما في سوريا، أو إصلاحات سياسية جذرية كما تحاوله المغرب والأردن والخليج العربي، كما تختلف الرؤية في أسباب التغيير الجوهرية التي حملت هذه المجتمعات على اقتحام عاصفة التغيير بكل تحدياتها ومغامراتها.
ولكن القدر الذي لا اختلاف فيه أمام هذه التحولات هو أن التيار الصاعد في إطار سائر هذه التحولات هو التيار الإسلامي، وعلى الرغم من الهوية العلمانية لخطاب فلاسفة هذه الثورات في معظم هذه الدول فقد كان وصول التيار الإسلامي إلى الحكم في مصر وفلسطين والمغرب وتونس وليبيا والعراق من باب تحصيل الحاصل، وهو مشهد مكرس عملياً منذ عقود في السودان وموريتانيا إضافة إلى دول الخليج العربي واليمن وفق تصور مختلف في الشكل.
ولكن الصعود الإسلامي المتفق على حضوره وتأثيره لا يقدم رؤية منسجمة في إطار الحديث عن الأمة والدولة والمواطنة، ويمكن القول إنه في كثير من الأحيان لا يقدم رؤية أصلاً، وإنما يندفع ببريق الشعارات، وأثبتت الاحداث أنه على أتم استعداد للموت حول هذه الشعارات الكبيرة التي تسنهض الماضي الذهبي للإسلام، ولكنه في النهاية لا يحمل مشروعاً واضحاً للحكم، ولا رؤية اتفاقية في تفاصيله.
يعتقد كاتب هذه الأوراق أن الصعود الإسلامي لا ينذر بأي كارثة، وأنه سياق طبيعي للأحداث و أن هذا التيار الصاعد وإن بدا إيديولوجياً صلباً، ولكنه غير مؤدلج في تفاصيل العملية السياسية ومن الممكن تماماً أن يصير إلى خيارات مدنية واقعية تكرس شكلاً مدنياً وديمقراطياً من البناء الاجتماعي، يأذن بالتعدد والتشاركية والمواطنة التامة على الرغم من الشعارات القاسية التي يرفعها التيار الإسلامي في غمار ثوراته.
وبالتالي فإن الغالبيبة العظمى من رافعي الشعارات الثورية الإسيلامية سينخرطون في أحزاب واقعية تؤمن بالتغيير الديمقراطي، وربما تحمل رؤى سياسية متناقضة ولكنها متفقة على احترام الشعار الإسلامي الثوري والتاريخ الإسلامي المجيد.
كما أن الدفاع عن قيم الحرية وتعزيزها هو وحده الكفيل بهذا التحول التاريخي، وإن استمرار الاستبداد وخاصة بصيغته الكليبتوقراطية والأوليغارشية يعني ضرورة تصاعد الشعار الثوري الرافض للديمقراطية والمساواة خاصة المساواة بين الضحية والجلاد.
وإن بقاء تيار إسلامي ينشد الخلافة وفق تصورات السلفية الجهادية أمر مؤكد، ولكنه بعد زوال الاستبداد يمكن أن يتحرك في إطار مجتمع الحريات ولن يتخذ طابعاً دموياً، على الرغم من أنه سيحتفظ بقسوته وإقصائيته وفتاواه وتكفيريته.

وتتولى هذه الورقة مناقشة سؤال الأمة في ضمير الشارع العربي المتحرك في ثورته، وليس سراً انه مسكون بالتوق إلى مشروع الأمة الموحدة القوية القادرة التي كانت خلال قرون طويلة في موقع الريادة في العالم ومن حقها أن تعود كذلك.

تتناول الورقة التي أقوم بإعدادها العناوين التالية:
• تاريخ الجدل في الأمة والدولة والمواطنة
• الصعود الإسلامي وشعار حاكمية الله
• التيار الإسلامي في مثلثه التقليدي: الإصلاحي والمحافظ والراديكالي
• مصطلح الأمة وتعدد مدارس التأويل
سؤال الأمة:
الأمة في محدداتها الست:
• الواقعية السياسية
• الالتزام الايديولوجي
• الاتجاه الإنساني
• الأتجاه المذهبي
• الإقليم السياسي
• الانتماء القومي

الانتماء إلى الأمة بوصفه رافعاً وطنياً وتحررياً وتنموياً
الدولة الحديثة ومبدأ الوحدة الإسلامية
ما هي إسقاطات مفهوم الأمة على المواطنين غير المسلمين في الدولة الحديثة؟
هل يمكن لحزب حاكم أن يقود دولة مستقرة وهو يؤمن بالأمة الإسلامية؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الدراسة.

تمهيد
لعل أشهر تعريف للأمة في التراث العربي ما قدمه المناوي في فيض القدير بأنها جمع لهم جامع من دين أو مكان أو زمان.
وقد اتفق الكل على أن الامة هي جمع لهم جامع ثم اختلفوا في طبيعة هذا الجامع فاتجه الفلاسفة المسلمون إلى اعتماد العنصر الاجتماعي واللغوي في تعريف الأمة، ومن أبرز هؤلاء الفارابي والمسعودي وابن خلدون، فاقتربوا بذلك من معنى «الأمة» المعاصر.
فيما التزم معظم المفسرين والمحدثين والفقهاء الجامع الديني، فاعتبروا الدين أصلاً في تكوين الأمة، ومحوراً لاجتماع أفرادها، بل إن القرطبي وابن كثير ذهبا إلى أن الأمة هي الدين، وهو ما ذخب غليه معظم المفسرين في تأويل الآية الكريمة وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون.
أما موقف الحضارة الحديثة من تعريف الأمة فقد انقسم إلى مدارس متعددة تستبعد كلها العامل الديني في وصف الأمة، وقد أفردت الموسوعة العربية تعريفات طويلة يمكن أن نقتبس منها أهم المدارس الدولية في تفسير مفهوم الأمة:
• المدرسة الفرنسية: هي الإرادة المشتركة.
• المدرسة الألمانية: هي اللغة المشتركة
• المدرسة الماركسية: هي الاقتصاد المشترك
وفي شرح ذلك يقول الفيلسوف الفرنسي رينان: لم تعد هناك جماهير لأمة واحدة تؤمن إيماناً موحداً، وإنما غدا الدين شأناً فردياً، أي إن معنى الأمة ابتعد عن المعنى الديني وأصبح بالتدريج معنى اجتماعياً وسياسياً وإرادياً.
أما في التراث العربي قبل الإسلام فقد استخدم العرب مصطلح الناس دون محددات إيديولوجية، ولم تكن لديهم النزعة الاصطلاحية لتمييز الإيديولوجي من السياسي، وغالباً ما كان المصطلح يتحدد على مبدأ: وبضدها تتميز الأشياء، فيقال العرب والعجم، وعدنان وقحطان، والعرب والبربر، وقد دخل مصطلح الأمة التداول منذ فجر الإسلام، وتكرر في القرآن الكريم بصيغ متعددة: وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، وهي نص تأسيسي للانتماء للأمة التي تعبد إلهاً واحداً وتمييز لها من أتباع الأديان، كما وردت صيغة الأمة في سياق التفضيل: كنتم خير أمة أخرجت للناس.
وليس القصد هنا أن نغرق في الاصطلاح ونحرر مقاصد المعرفين بقدر ما نقصد إلى القول أن مصطلح الأمة في اللغة العربية هو مصطلح إسلامي خالص، نحتته النصوص القرآنية ولم تكن العرب تعرفه من قبل، ولكنه ليس بالضرورة متجهاً إلى محدد ثقافي أو سياسي، وإنما هو واحدة من الأصول التي تحظى بالاتفاق في حدود الشعار، ولكنها تكرس الانقسام في إطار المضمون.
ومع أننا نبحث عن سؤال الأمة في ضمير الثائر العربي، أو في مشروعه وبرنامجه السياسي وليس في التراث، ولكن لا بد من جولة في معاجم اللغة في دلالات لفظة الأمة، حيث تشير معاجم اللغة إلى ستة معان لمصطلح الأمة، وهي:
الأمـة: الطريقة والدين.
والأمة: أمة كل نبي: من أرسل إليهم من كافر ومؤمن، ويقال أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد.
والأمة: هم أهل الاستجابة، فمن دخل في الإسلام فهو من هذه الأمة، ومن لم يدخل فليس منها
والأمة: الرجل الذي لا نظير له؛ ومنه قوله عز وجل: إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله.
والأمة: كل جنس من الحيوان. وفي التنزيل: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم.
والأمة: الحين من الزمن، وفي القرآن الكريم: وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امة.
والأمة: القرن من الناس؛ يقال: قد مضت أمم أي قرون، وهو اسم يطلق على القرون السالفة والأمم الهالكة.

ومن نافلة القول أن نشير إلى أن بحثنا هذا غير معني بالتحليل اللغوي أو الفقهي، وإنما هو مهتم بالجانب السياسي للكلمة، ولذلك فإن المقصود هنا هو التعاريف الثلاثة الأولى أما الأنواع الأربعة الباقية فهي ليست محل اهتمام هذه الدراسة.

وفي الحقيقة فإن استخدام لفظ الأمة كان يرادف لفظ الناس، ولم يكن له محدد إيديولوجي قبل الإسلام، ومن العجيب أن مصطلح الأمة لم تستخدمه العرب قبل الإسلام بالمعنى السياسي أو الاجتماعي ولم ترد كلمة الأمة العربية في شعر شاعر جاهلي، ولم ترد في كلام حكيم عربي، وذلك كله يؤصل لحقيقة ولادة هذا المصطلح مع ولادة المشروع العربي النهضوي عبر رسالة الإسلام.
أما إضافة صفة الإسلامية إلى الأمة، فهو من التعابير المحدثة الجديدة، ولا يمكن أن تجد أثراً لهذا المصطلح في التاريخ الإسلامي الأول، فلم ترد كلمة “الأمة الإسلامية” في القرآن ولا في السنة، بل إنني وخلال مطالعة دقيقة للمروي من السنن في التراث فإنني لم أقف أبداً على استخدام لفظة الأمة الإسلامية لا في القرآن ولا في السنة ولا في أعمال الفقهاء، وأول استخدام للفظة الأمة الإسلامية ورد في فيض القدير للمناوي توفي 1620م وإن كانت قد مرت الإشارة إليه عرضاً في تفسير الخازن قبل ذلك.
ويعكس غياب مصطلح الأمة الإسلامية التأكيد على المعنى الواقعي للأمة، حيث لم يكن الانتماء الديني هو الذي يحدد انتماء الناس للأمة أو يحكم البناء السياسي للدولة، خاصة في شريعة جاءت لإعلان الحرية في الدين، لا إكراه في الدين، ولتأكيد حق الناس في اختيار موقفهم السياسي والديني والاجتماعي، وفي هذا السياق ربما كان من أوضح الدلائل على التمييز بين الانتماء الديني والانتماء الوطني ما قررته أول وثيقة بين الرسول وبين أهل المدينة بقوله: وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم أو أثم .
فقد تم التعبير عن المواطنين في المدينة بأنهم أمة واحدة مع الإشارة الصريحة إلى الاختلاف الحاد في الدينين، وخاصة بين العقيدة اليهودية والعقيدة الإسلامية، ومع ذلك ففي سائر روايات هذه الوثيقة كانت تتم الإشارة إلى أن اليهود أمة واحدة مع المسلمين.
ومع أن السياق العام للدولة النبوية يتبنى خيار الدولة الاوتوقراطية، انطلاقاً من استقلال النبوة ومرجعيتها الغيبية، ولكن القيم الإسلامية والتطبيق النبوي والتأكيد المستمر على المساواة وحقوق الأقليات والمرأة وظاهرة النسخ المتكرر في الشريعة، ودور الفقهاء في تقييد المطلق وتخصيص العام وتأويل الظاهر وتنقيح المناط وتخريج المناط والوقف في النص ومبدأ المحكم والمتشابه، كل ذلك من أصول فقهية معروفة يمكن أن تجعل من الشريعة نفسها حاملاً موضوعياً لكثير من قيم التطور والتجديد وكذلك قيم البناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والمواطنة الكاملة.

وتعكس وثسقة المدينة بوجه خاص الحقيقة الواضحة التي تكررت على لسان الرسول الكريم، وهي تؤكد أن الأمة مصطلح يتصل بالعيش المشترك أكثر مما يتصل بالايديولوجيا، وأن الأمة متحد اجتماعي أكثر مما هو متحد ثقافي، وكان هذا الفهم البدهي هو ما يحكم سياسات الخلفاء الذين قربوا خبراء وعلماء من مختلف المذاهب، يشتركون في بناء الدولة في مختلف المناصب، وقد مضى الخلفاء في العصر الذهبي للإسلام إلى إدماج الكفاءات المختلفة في الأمة بغض النظر عن الدين والمذهب، حتى صار الطب يهوديا والفلك صابئيا، وبلغ النصارى أعلى مراتب الدولة، الأمر الذي كان يثير حفيظة الفقهاء، ويمكن الاستئناس هنا بهذه الأبيات التي كتبها الحسن بن خاقان احتجاجاً على الدور المتنامي لليهود والنصارى في مناصب عليا، وذلك في أزهى أيام الدولة الفاطمية، في عهد الخليفة العزيز:
يهود هذا الزمـــــان قد بلغوا …. غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمــــــال عنــدهم …. ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إني نصحت لكم …. تهودوا قد تهود الفلك

ولكن هذه الروح من التسامح والمواطنة المتساوية التي شاعت في العصر الذهبي للإسلام لم تدم كذلك، وبشكل خاص في تداعيات الحروب الصليبية فقد برز دور اعتراضي شديد للفقهاء على هذا الميع في الانتماء للامة او للدولة، وفي مواجهة ذلك فقد ابتكر المتأخرون من الفقهاء صيغة حاصرة مانعة لتحديد معنى الأمة، وقصر مزايا الانتماء للأمة على الولاء الديني دون الولاء الوطني، وقد عبر عن ذلك الموقف ابن تيمية بقوله: إن الأمة نوعان: أمة الدعوة وأمة الاستجابة، ويشتمل مصطلح أمة الدعوة على سائر البشر منذ عصر الرسالة، لأنهم الأمة المقصودة بالدعوة، فيما يختص مصطلح أمة الاستجابة على أولئك الذين اتبعوا الرسول فيما جاء به.
وقد دفعت هذه التصنيفات أن مصطلح الأمة صار ذهنياً على الأقل مرتبطاً بأمة الاستجابة، وشاع تعريف الأمة بأنها تشمل الذين يدينون بالإسلام في كل بقاع الأرض، ولا يتصل بالسكان المحليين الذين ينتمون لدين آخر مهما كانوا منخرطين في الواجب الوطني، ومهما كانوا متفوقين في أدائهم الاجتماعي، وهكذا فإن الصابئة واليهود والنصارى كانوا يشكلون جزءاً مهماً من الحضارة الإسلامية في الكيمياء والفلك والطب، ولكنهم اعتبروا بعد شيوع هذا التصنيف مجرد ذمة أو معاهدين، ولا يشملهم عنوان الأمة، التي صارت تتصل بإضافات تخرجهم بشكل تلقائي: كمصطلح الأمة المرحومة أو الأمة المعصومة أو الأمة الناجية أو أمة محمد.
ويتأكد هذا الواقع من خلال إصرار الفقهاء على أن الشريعة الإسلامية ناسخة لما سبقها من الاديان وهي بهذا المعنى لا تعدو أن تكون ضلالاً وزيغاً يجب تعريته، ولا شك أن هذا الموقف وإن كان جدلاً لاهوتياً ولكنه يفرض آثاراً سياسية وواقعية مرهقة، وهو يتطلب جهوداً طويلة من النضال الثقافي واستحضار ثقافة التسامح والاعتدال والمساواة لرسم ملامح عدالة سياسية، وطمأنة الأقليات.
ويمكننا التأكيد هنا أن فكرة تجاور الأديان وتعاونها وتكاملها معززة ومؤيدة ليس بحكم العقل وحده بل بحكم النص أيضاً، كما هو واقع الفكرة المضادة، والنزاع هنا في التأويل وليس في التنزيل، وحتى نتجنب هنا الجدل اللاهوتي ولا نخرج عن سياق الدراسة فإنني أحيل إلى كتابي: المشترك أكثر مما تعتقد، وقد أفردت فيه طائفة كبيرة من النصوص الدينية من الكتاب والسنة التي تعزز فكرة تكامل الأديان وتصادقها بدل نسخها وإلغائها، ويكفي في هذا السياق أن القرآن أشار أربع عشرة مرة إلى مكانه بين الكتب الأولى بعبارة: مصدقاً لما بين يديه، وهي عبارة استئناف وتعاون وليست عبارة نسخ وإبطال
ومن جانب آخر فإن مفهوم الأمة كان أقل التباساً في عصر الخلافة، حيث كان الجواب البدهي لكل من سأل عن الأمة أنها الأمة التي تنضوي تحت راية الخلافة، وهي راية واحدة في معظم فصول التاريخ الإسلامي، ويمكن بالفعل أن نلاحظ أن الملوك والسلاطين والولاة والأمراء الذين عاشوا في العصر الإسلامي كانوا يلتزمون بالخطبة للخليفة تعبيراً عن التزامهم بالدخول في الأمة، مع أنهم كما في الحالة البويهية والسلجوقية والغزنوية والأيوبية والزنكية كانوا أقوى من الخلفاء، وفي حالات كثيرة كانوا يقومون بتسمية الخلفاء وعزلهم وقتلهم أحياناً، ولكن كانوا يدركون أن ليس من مصالحهم أبداً الخروج من الأمة التي تتحدد بالالتزام بالخلافة وعدم الخروج عن سلطانها.
ولم يسجل تعدد للخلافة إلا في العصر الفاطمي، ولم يكن تعدداً اتفاقياً رضائياً بل كان في الحقيقة تعدداً استئصالياً يتضمن صراحة رفض النمط الآخر إذ لا تتسع الأرض لخلافتين، وإذا بويع لخليفتين فاضربوا رأس أحدهما بالسيف، وفي السياق نفسه وقعت فترة قصيرة من الخلافة الأموية في الأندلس، وكان الانتماء إلى إحدى الخلافتين يعني ضرورة الخروج الكلي من الانتماء للخلافة الثانية، ولم يكن هناك فرص للقاء بين هذه المتناقضات، حيث كان الفصل بينها يتم في غبار الحروب.

ومع انتهاء عصر الخلافة ودخول العالم الإسلامي مرحلة الدولة الحديثة فإن الجدل لم ينقطع في سؤال الأمة، وحتى نتمكن من توجيه البحث فقد توجهنا في استفتاء الكتروني أجريناه في مركز الدراسات الإسلامية إلى 100 باحث إسلامي من مشارب متعددة، وقمنا بطرح السؤال التالي:
كيف يقرأ الشارع العربي مفهوم الأمة؟
وتم تحديد ست خيارات لمفهوم الأمة، وهي: اتحاد البلدان الإسلامية، الالتزام الإيديولوجي، الوحدة الإنسانية، الانتماء المذهبي، الإقليم السياسي، الانتماء القومي، وكانت النتائج على الشكل التالي:

ويمكن القول أن هذه القراءة تعكس واقعاً قريبا في صناديق الاقتراع ولكنها لا تعكس بالضرورة نفوذ هذه الآراء وتأثيراتها، فمن المعلوم أن التيار الذي يتبنى تفسيراً إيديولوجيا للأمة سيبدو أكبر من حجمه بكثير نظرا لحماسه واندفاعه للدفاع عن رأيه، وربما قتاله في سبيل إقرار هذه القناعة، في حين أن التيار الذي يتبنى تفسيراً إنسانياً هو بالطبيعة يشكل معارضة ناعمة، لا تعتمد الإثارة ولا المواجهة.

وهكذا فإنه يمكن القول إن الاستخدام السياسي لمصطلح الأمة أصبح يدور بين ستة محددات:
الأول: اتحاد البلاد الإسلامية، وهو اتجاه يعتمد الواقعية السياسية والمقصود هنا أن الأمة تتكون من مجموع البلدان الإسلامية المعروفة في الراهن السياسي، والأمة الإسلامية وفق هذا التعريف تشمل كافة الشعوب التي يدين غالبية سكانها بالإسلام، وهذا المصطلح قريب من استخدام منظمة التعاون الإسلامي حيث أدرجت سبعاً وخمسين دولة، وهي الدول التي تضم أغلبيات إسلامية في سكانها، كما اعترفت من جانب آخر بالدول التي تحتوي على الجاليات الفاعلة التي تعيش في دول غير إسلامية ومن المناسب هنا الإشارة إلى أن أكبر كتلة بشرية إسلامية في العالم لا تعيش في دولة إسلامية وإنما تعيش أقلية ضمن دولة كبرى وهي الهند حيث يعيش فيها نحو مائتان وعشرون مليون مسلم.
وهذا الفهم الواقعي للأمة الإسلامية يعتبر أقرب التصورات حضوراً في ذهن التيارات الإسلامية التي لا تستند إلى إيديولوجية صلبة ويمكن القول إن هذا هو في الواقع موقف معظم حركات الإسلام السياسي، وهو ما تعكسه سياسات الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في الشمال الأفريقي، حيث تتجه تلقائياً لتعزيز علاقاتها مع العالم الإسلامي، وهي في ذلك تتابع السياسات الخارجية التقليدية لبلادها، ولكنها تحمل هذا اللون من العلاقات مزيداً من الحمولة العاطفية وتعتقد أن فقه السياسة الإسلامية يقتضي تقديم العلاقات في هذا السبيل على العلاقات في أي سبيل آخر.
وتقوم منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي سابقاً) بالتنسيق بين الدول الإسلامية وتطرح نفسها منسقاً بين الدول ولا تستطيع وفق ميثاقها القيام بدور مباشر بين الشعوب الإسلامية، كما أنها لا تستطيع أن تتحول إلى منظمة تبشيرية للتعريف بالإسلام أو للدفاع عنه إيديولوجيا، فهذه المسائل محسومة في ميثاق تأسيس المنظمة التي تصر على أنها منظمة سياسية معنية بالتعاون بين الأعضاء المنتسبين إليها من الدول الإسلامية دون التدخل في القضايا الفقهية أو الاعتقادية.
ولكن هذه الحركات الإسلامية مطالبة من شعوبها على الأقل بالاندفاع في تحقيق مزيد من الترابط بين الشعوب الإسلامية وأتوقع أن تقوم خلال السنوات القادمة منظمات وهيئات أخرى على هامش منظمة التعاون أو بدون التنسيق معها تتولى إحياء الروح الإسلامية وتعزيز الارتباط بالأمة الإسلامية.
إن السواد الأعظم من الحراك السياسي الإسلامي أصبح يفكر بمنطق واقعي، ولم يعد الحديث عن الخلافة الموعودة ضمن برامج الحركات الإسلامية الواقعية، وهناك جدل كبير في الشارع الإسلامي حول مشروعية نظام الخلافة كشكل نهائي للحكم، خاصة بعد الثورات الغاضبة المتتالية على حكم الفرد والمآسي المروعة التي خلفتها جراء تمركز السلطة والثروة بيد المستبد.
وهكذا فإن الاتجاهات الديمقراطية في الحركة الثورية العربية ترى في اتحاد البلدان الإسلامية الطموح الأعلى للتكامل الدولي، وترى من المنطقي التواصل باتجاه هذه الغاية، ولكنها مؤمنة بأن هذا التكامل لا يتأتى بقرارات سياسية ثورية، وإنما يتكامل في سياق التطور الطبيعي للعلاقات الدولية، وعادة ما تقوم في خدمة هذا الهدف ببرامج تكاملية وتعاونية مع البلدان الإسلامية، عبر منظمة التعاون الإسلامي أو المؤسسات الإسلامية الدولية المتخصصة.
ومذا فإن ثقافة الوحدة الإسلامية بمعنى الاندماج السياسي تبدو غير واقعية والمطلوب هو العمل باتجاه مشاريع تخدم التضامن والتكافل والتعاون، وليس الوحدة الاندماجية التي تضع الأوطان في كف إرادة سياسية واحدة.

ويراهن كاتب هذا المقال على أن الشارع المسلم الثائر مهما كانت شعارات ثورته فهو في النهاية سيتوجه واقعياً وفق هذه الرؤية، وسيرى في التكامل مع العالم الإسلامي طموحاً طبيعياً وبرنامجاً واقعياً، وهو مستعد لتفهم التدرج والانتقائية في تحقيق هذه الأهداف الكبيرة خاصة إذا توفرت قيادات دينية موثوقة مؤثرة على درجة من الوعي السياسي وفهم بصير بالعلاقات الدولية.
والشرط الوحيد لتحقق ذلك واستمراره هو توفر قدر معقول من العدالة الاجتماعية، والمساواة في الفرص، وبدون ذلك فإن الهرب سيكون بشكل مستمر نحو الشعار الثوري وبالتالي نحو ميتافيزيق من البناء السياسي للدولة، وهو ما ينذر بكل تأكيد بأفدح الأخطار.
ولعل أقرب الأدلة على هذه الحقيقة هو النتائج التي آلت إليها الثورات العربية في الشمال الأفريقي، ومع أن الثورة كانت تستعمل الشعار الإسلامي، ولكن الشباب الإسلامي الثائر، الذي كان في صناديق الاقتراع أكثر عدداً أو على الأقل أكثر تنظيماً من سائر التيارات الأخرى رضي من زعمائه السياسيين إدخال هذه الشعارات إلى مطبخ السياسة، وهذا الشباب هو مادة الثورة وبنيتها الحقيقية، ويتقبل الإسلاميون اليوم في مصر اتفاقيات كامب ديفيد بالواقعية السياسية رغم استمرارهم بالشعارات المنددة بها، كما يتقبلون العلاقة المصرية الروسية وإن تقدمت على العلاقة المصرية الأندنوسية أو الباكستانية، وذلك بالواقعية السياسية، ولا يبدو مطلب قطع العلاقات مع إسرائيل أو أمريكا جدياً في الشارع المصري، بقدر ما هو طهرانية شعارية ثورية، والأمر نفسه في تونس فهناك وعي بالحاجة إلى العلاقة المتوازنة والقوية مع فرنسا قبل التفكير ببناء تحالفات أو تشاركات باكستانية أو ماليزية أو نيجيرية، وهذا الفهم يتشارك فيه الشارع الإسلامي بقدر تشارك الشارع العلماني، ولأجل ذلك فالسياسة الخارجية ليست في مصر ولا تونس ولا ليبيا في عناوين المظاهرات للحكومات الإسلامية من النهضة أو الإخوان، كما أن هذه العناوين لم تكن أصلاً في أولويات الشعار الثوري.

الثاني: الالتزام الايديولوجي، والأمة الإسلامية وفق هذا التعريف هي الجماعات الإسلامية التي تتبنى خيار حاكمية الشريعة سواء كانت تعيش في دول إسلامية أو دول غير إسلامية، وهذا الخيار الراديكالي يتأجج عادة في كل صراع، ويهمد في حالات السلم، وهو مرجع الحركات الإسلامية في فهمها لصورة المجتمع الإسلامي الرشيد.
ويقفز هذا التعريف فوق الجغرافيا والتاريخ والسياسة، ويحتكم إلى حسم إيديولوجي صارم، وإن كان يقدم بعض التنازلات في إمكانية وجود الآخر غير المسلم ضمن الأمة بصفة ذمي أو معاهد.
ومن العسير أن تتم مناقشة أبناء التيارات الراديكالية بمنطق الدولة الحديثة أو المواثيق الدولية، حيث تعتبر مسائل الحكم عندهم من المحسوم بالنص، ولا فائدة من أي حوار يرجى ما لم يكن معززاً بأدلة النص الديني وبراهينه، ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون.
وقد ظهر هذا التفكير منذ منتصف القرن الماضي وتبناه حزب التحرير الذي أصبح بسرعة الحزب الممنوع في كل البلاد العربية لتناقض رؤيته تناقضاً تاماً مع الدولة الحديثة، ولكنه على ذلك وجد موطئ قدم له في الأردن حين اختار النضال السلمي لتحقيق الخلافة، ولكن هذه الأفكار انتشرت بقوة مع مطلع القرن الجديد على يد تنظيم القاعدة والتنظيمات التي تفرعت عنه، واتخذت القاعدة من هذه الأفكار منطلقاً لبرنامجها في القتال العسكري لإقامة الدولة الإسلامية، ولا يرى هؤلاء معنى للأمة الإسلامية إلا عبر القتال في سبيل الله لإدخال الناس في الدين الحق.
أما حركة الإخوان المسلمين فإنها انشطرت فكرياً إلى مدرستين مختلفتين في هذه المسالة، فبينما قدم حسن البنا رؤيته للجماعة الإسلامية على أنها شريك للقوى الإسلامية المجتمعية في الأمة ينشط في الحقول الاجتماعية والسياسية والخيرية ويسعى إلى قيام دولة الإسلام في إطار واقعي يتعايش مع المحيط، ويمكن أن يتساوق تفسيره للأمة مع الفهم الوطني للمصريين، فإن سيد قطب أعاد صياغة فكر الحركة على أساس نفي وجود الأمة أصلاً، تأكيد وجودها بالقوة ونفي وجودها بالفعل، فلا وجود لمسلم خارج بيعة الجهاد، وهي مسؤولية تاريخية لإخراج العالم من الظلمات إلى النور، وفي كتابه جاهلية القرن العشرين يصرح محمد قطب أن الأمة الإسلامية التي ننشدها قد انتهت منذ سقوط الخلافة، ويكرس الكتاب كله للتأكيد على أن الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم هو واقع الجاهلية التي كانت قبل النبوة، بل إن السيد قطب نفسه ذهب في قراءته للواقع السياسي للعالم إلى حد القول بأنه لا وجود للأمة المسلمة اليوم والمسلمون هم مجرد أشخاص يحبون أن يكونوا مسلمين ولن تقوم لهذه الأمة قائمة حتى تلتزم شعيرة الجهاد لقتال الناس وإعادتهم إلى الدين.
وهكذا فإنه يمكن القول إن الاتجاه الذي تبنته حركة الإخوان المسلمين تاريخياً انشطر بشكل واضح إلى موقفين، بين فكر البنا وفكر سيد قطب، فقد اختار البنا العيش مع المجتمع والعمل مع الأمة، فيما نص السيد قطب على أن الأمة الإسلامية غير موجودة وأن علينا القتال لإعادة الأمة إلى الإسلام الذي خرجت منه منذ قبلت الاحتكام إلى شريعة أخرى غير القرآن.
ولعل أوضح تعبير عن هذا الفهم لمصطلح الأمة هو ما حرره سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن:
المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية .. تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته.. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا. …
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين؛ وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام.. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله بذلك المدلول، ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول.. …
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون، إن الإسلام بيّن والكفر بيّن.. الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله بذلك المدلول، فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو؛ فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين.. المجرمين.. وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين.
أجل.. يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوقها غبش، ولا يميعها لبس. فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم “المسلمون”، وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم “المجرمون”.. كذلك فإنهم لن يتحملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملة وقومهم على ملة، وأنهم في دين وقومهم في دين: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}
وقد كتب الشيخ القرضاوي تعليقاً على هذا النص: النص من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تعليق؛ فالكاتب ينظر إلى مسلمي اليوم نظرته إلى مشركي العرب في الجاهلية تماما عند البعثة، لا فرق بين هؤلاء ولا أولئك، إلا أن هؤلاء يسمون أنفسهم مسلمين وهذه لا تغني عنهم شيئا، ولهذا كان على أصحاب الدعوة الإسلامية أن يدعوا الناس إلى اعتناق العقيدة أولا، حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد أنهم مسلمون!

وهكذا فإنه ليس سراً أن التيارات الراديكالية لا ترى في سؤال الأمة إلا توجهاً صارماً نحو التيارات التي تلتزم الدعوة إلى حاكمية الشريعة، وتستيقظ فكرة الأمة عند هؤلاء في لحظة من التاريخ المجيد، راشدية أو أموية أو عباسية، أما في العصر الحاضر فإن الأمة هي تلك الحركات الإسلامية التي تلتزم حاكمية الشريعة، وهي تيارات تؤمن بالتغيير المسلح، ولكنها أيضاً تؤمن بفكرة الخلية النائمة، وعادة ما تقود نشاطاتها في الأفق الذي يسمح فيه الواقع والظروف بالعمل الجهادي، ومن المؤكد أن الأمة التي ينشدها هؤلاء هي أمة ملتزمة بحاكمية الشريعة، وفيها قدر محدود من فقه أهل الذمة، فهي ليست فكرة إبادية أو استئصالية بالمعنى المادي، ولكنها في النهاية ستؤدي إلى الاستئصال الفكري والعقدي.
ويبقى خيارها نحو الأمة المنشودة خياراً غير واقعي، وهي تصطدم بالضرورة بجميع الكيانات الوطنية، وتدعو إلى استباحتها ولا تؤمن بالحواجز السياسية ولا بالاتفاقيات الدولية وتعيش قطيعة كاملة مع الثقافة الديمقراطية.
ولا بد هنا من الاعتراف بأن الفقه الإسلامي الذي يتم تدريسه في المعاهد الدينية حتى اليوم لا يزال ينقل عن فقهاء المذاهب هذا التوجه نفسه، وهو يتضمن أشد الآراء الراديكالية تطرفاً، ففي المذهب الشافعي مثلاً تؤمر الأمة بالجهاد لإدخال الناس في الدين الحق، ويقبل من النصارى واليهود حصراً أداء الجزية مقابل العيش بأمان في الدولة الإسلامية، ولكن هذه الجزية على سبيل المثال لا تقبل من النصارى العرب الذين يخيرون بين الإسلام وبين القتل!!، كما أنها لا تقبل من غير أهل الكتاب اليهود والنصارى وهؤلاء يخيرون بين الإسلام والقتل ، ووفق هذا فإنه يمكن أن تنشا علاقات مؤقتة فقط مع الشعوب الكافرة وهو ما يشمل عير المسلمين كافة، حيث يتعين العمل على قتالهم في النهاية لإدخالهم في الدين الحق!!.
وفي هذا السياق عرف ابن قدامة الجهاد بأنه: جهاد الكفار وهو دعوتهم إلى الدين الحق، وقتالهم إن لم يقبلوا.
أما الأمم التي لا تدين بدين سماوي فيجب قتالها حتى النهاية لتترك أوثانها وأصنامها وتدخل في الإسلام، ويشمل ذلك الصين واليابان وسائر الشرق الأقصى كما يشمل أيضاً بلدان أفريقيا حيث الديانات الأرواحية.
ويجب القول إن هذه النصوص التي أنقلها هنا في غاية القسوة والراديكالية ليست اختيار الفئات الراديكالية وحدها، إنها في الواقع طبيعة الفقه الديني السائد في العصور الوسطى إسلامياً أو مسيحياً صليبياً، وهذه ليست آراء الخوارج أو فرسان الهيكل وحدهم، إنها موقف الفقهاء الرسميين في عصر كانت العلاقات الخارجية لا تتحدد إلا في الحروب الفاصلة، وهناك مسؤولية مباشرة على النظام التعليمي الديني، الذي يتولى إعادة تدريس النصوص القديمة على ورق جديد دون مواجهة فكرية حقيقية تستند إلى أصول الدين الكبرى من العدالة والتسامح والرحمة، وتستجيب للتطور الحضاري الذي تجاوز مبدأ الناس على دين ملوكهم وصولاً إلى منطق القرآن الكريم: لا إكراه في الدين.
وفي مثال صارخ على هذا المنطق جاء التطبيق الذي مارسته حركة طالبان صورة طهرانية لتطبيق هذه الأفكار، تطبيقاً لما تعلمه الطلبة نقلاً عن فقهاء الشافعية والحنفية والحنابلة الذين هم أئمة السنة في العالم الإسلامي خلال التاريخ، واستيقظت من جديد فكرة تشطير العالم إلى فسطاطين دار حرب ودار إسلام، ولم يجد هؤلاء في دار الإسلام أكثر من الأقاليم التي خضعت لحاكمية الله وفق الرؤية الطالبانية، وقد أدى التطبيق الفج للموروث الثقافي في هذا الجانب إلى مواجهات تطورت إلى حروب شاملة وغضب عالمي ومواجهات معروفة عادت بأفدح الخسائر على الشعب الأفغاني المنكوب وعلى العلاقات الإسلامية الدولية عموماً.
كما صدرت في المقابل مواقف استنكار قوية قام بها فقهاء العالم الإسلامي المشهورين، عبر مؤسسة الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأكدت هذه المواقف أن تصرف حركة طالبان مرفوض دينياً مع أنه كان في الواقع تطبيقا صارماً للنص بدلالاته اللغوية وفق قواعد الأصوليين، وأكد الفقهاء أن هذه الاختيارات تعكس ظروفاً تاريخية محددة ولا تعكس بالضرورة روح الشريعة في التسامح والحكمة والرحمة.
وحتى لا نكثر من الاستدلال وتقديم الشواهد فإنه يكفي أن نشير الى أن أشهر كتاب على الإطلاق يدرسه طلبة العلوم الإسلامية في العالم الإسلامي هو الأربعون النووية الذي يشتمل على أربعين حديثاً اعتبرها النووي أصل الشريعة، يتصدرها حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله.
ومقتضى الحديث وجوب قتال الناس حتى يدخلوا في الإسلام، وقد قام الفقهاء بدور تصحيحي جزئياً، وأوردوا تأويلات كثيرة في مواجهة ظاهر هذا النص، واعتبر هذا النص خاصاً بظرف معين في عصر الرسالة، وتم تخصيص لفظ الناس بأولئك المحاربين الذين يقاتلوننا على ديننا.
ومن المؤسف أن قيادات الاعتدال الإسلامي لم تفعل شيئاً مع الكتب والمناهج المقررة في المعاهد الدينية التي لا تزال إلى الآن تدرس خيارات قديمة للشافعية والحنابلة تكرس هذه النظرة التكفيرية للمسلمين، والنظرة العدوانية ضد غير المسلمين، ولا شك أن بقاء هذه النصوص يتناقلها جيل عن جيل دون تدخل ثقافي ومواجهة معرفية يعتبر خللاً كبيراً في التوجيه والتعليم.
وبالجملة فإن سؤال الأمة لدى التيارات الراديكالية يتناقض كلياً مع الدولة الحديثة كما يتناقض مع التيارات الإسلامية المعتدلة التي تؤمن بالتواصل مع سائر الشعوب الإسلامية فيما لا ترى السلفية الجهادية وجهاً لوصف هؤلاء بالمسلمين حتى يلتزموا حاكمية الشريعة ويعلنوا الولاء والبراء.

الثالث: الاتجاه الإنساني:
يختار هؤلاء أن الأمة هي الأسرة الإنسانية، ولا يحظى هذا الخيار بشعبية تذكر بين الفقهاء في الإسلام ولكني أجزم أن هذا الفهم يعكس موقف تيارات كبيرة في العالم الإسلامي، وبشكل خاص تلك التي تكن احتراماً خاصاً للديمقراطية وتتبنى العلمانية في نظام الحكم، وهي بشكل عام ثقافة صوفية ترتكز على عقيدة الإخاء الإنساني، وانتساب الخلق إلى الله انبثاقاً وفيضاً، وفق منطق: الخلق كلهم عيال الله، وفي نظري فإن التيار الصوفي مدعو بقوة لإعادة صياغة خطابه، وتقديمه في إطار رؤية سياسية واجتماعية، لأنه في الواقع خطاب جزء كبير من الشارع الإسلامي بما فيه التيارات السياسية المعتدلة بل والعلمانية المؤمنة.
لقد ظهرت هذه الأفكار تاريخياً في غمار الحركات الصوفية ولكننا نخطئ حين نظن أن هذه الأفكار ليس لها رصيد اجتماعي كاف، بل إنها كانت في الحقيقة تصورات سلمية واسعة الانتشار تنشط في ظروف الاستقرار والهدوء، وتنسحب مباشرة لدى أي اشتباك عنيف، وبالبداهة فإنها لم تكن شعارات ثورة بالمعنى التقليدي، وإنما كانت شعارات سلام، ويجب إدراك الحجم العاطفي الكبير الذي يسكنه أئمة الفكر الإنساني في المخيلة الشعبية لدى التيارات الإسلامية، كجلال الدين الرومي ومحي الدين ابن عربي وابن سبعين وغيرهم، وبعيداً عن الفتاوى المتكررة بتكفيرهم فإنهم حافظوا على مكانتهم في قلوب المسلمين، وفي سوريا على سبيل المثال فإن ضريح محي الدين بن عربي يعتبر مزاراً لأهل الشام، وربما كان أكثر ما يلهب مشاعر الناس بالحب والعرفان، وفي حين يقوم التكفيريون بتسميته الشيخ الأكفر فإن السائد في الثقافة الشعبية وبالطبع لدى التيار الصوفي والعرفاني تسميته بالشيخ الأكبر، واليوم فإن حياً من أكبر أحياء دمشق يسمى باسم حي الشيخ محي الدين عرفاناً بدور الشيخ ورسالته الإنسانية الكبيرة، ولا تزال هتافات الثورة السورية تلهب الحماس بذكر الشيخ محي الدين رجل العرفان والبرهان والحكمة والمحبة.
ولعل الشيخ ابن عربي كان أسبق فلاسفة الإسلام في إعلان أن وطني العالم وديني الحب، وذلك في قصيدته الشهيرة:
لقد كان قلبي منكراً كل صاحب إذا لم يكن يدني إلى ينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل ملة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

وفي تركيا يعتبر ضريح مولانا جلال الدين في قونية واحداً من أكبر معالم التأثير العاطفي في الشارع التركي، وعند قبره يقام سنوياً حفل هائل لممثلين عن أديان العالم من مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وكونفوش وزرادشتيين، ولا يزال فكر الشيخ والمثنوي الذي كتبه في العرفان أكبر أشكال التأثير الروحي في تركيا، ويمكن القول بدون مبالغة إنه يعتبر ملهماً للحركة الإسلامية في تركيا التي نجحت في التساوق مع المشروع العلماني لأتاتورك، ونجحت بالتالي في تقديم نموذج للدولة الإسلامية الواقعية الناجحة.
ولا يختلف فقه الأمة ومشروعها عند رومي عنه عند ابن عربي، ويتولى الحكيم الكبير في كتابه المثنوي الذي يضم ثمانية وأربعين ألف بيت من الشعر، ويتغنى به تيار عريض من العرب والترك والعجم، وكان يرتل عقب الصلوات حتى سمي قرآن العجم، ويقدم الحكيم الكبير رؤية للإخاء الإنساني الواقعي، من خلال تطوافه الدائم بين حكم الأديان واقتباسه من الفلسفات الشرقية خصوصاً ما يكرس عقيدة الإخاء الإنساني.
وقد تولى أئمة التصوف تاريخياً الدفاع بطرق مختلفة عن ثقافة الإخاء الإنساني والأمة الإنسانية الواحدة، ولعل من المفيد أن نشير هنا إلى موقف جريء أورده الإمام الغزالي في كتابه التفرقة بين الإيمان والزندقة، وفي مواجهة الرواية المشهورة التي تشير إلى انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة هالكة كلها في النار إلا الفرقة الناجية، اختار الغزالي رواية غير معروفة، وهي كلها في الجنة إلا واحدة!!
ومع أننا غير معنيين هنا بمناقشة الروايات وأسانيدها ولكن من المهم أن نقرا تلك النزعة الإنسانية التي كانت تتملك خطاب إمام كبير كالغزالي حتى يقف وقفته هذه في مواجهة الموروث الثقافي الإقصائي.
إن تأثير بن عربي في الشام وجلال الدين الرومي في العراق لا يقل عن تأثير الجيلاني في العراق والسيدة رابعة في مصر والشاذلي في تونس وابن مشيش في المغرب وهي محض أمثلة لرموز التأثير الروحي والعاطفي فى الشعوب الإسلامية.
بل إن الأمير عبد القادر الجزائري وهو أشهر قائد سياسي ثوري واجه الاستعمار الفرنسي اختار أن يأوي في آخر حياته إلى ضريح الشيخ محي الدين ابن عربي حتى دفن عنده حسب وصيته، واشتهر عنه شعره الذي يحاكي به رؤية ابن عربي وجلال الدين:
ففي نوره من كل ما يأمل الورى ,,,,,,, فمن شاء قرآنا ومن شاء فرقانا‏
ومن شاء توراة ومن شاء إنجيلا ,,,,,,, ومن شاء مزمارا زبوراً وتبيانا‏

إن هذه التوجهات الروحية والعاطفية ترسم صورة أخرى للأمة، تتجاوز السياسة والإيديولوجيا، وتستند إلى القدر المشترك من الإيمان، ومن المؤسف أنها لم تتجل في برامج سياسية، ولا تزال إيديولوجيا الحركات السياسية الإسلامية عموماً متأثرة بالتيار السلفي، مع أن الشعوب الإسلامية عموماً تعيش الحياة الصوفية في برامجها وشعاراتها وأفكارها المتعددة.
وفي الحقيقة فإننا نواجه هنا عناء منهجياً حين نمنح هذا التوجه الصوفي بعداً سياسياً، ومن العسير أن نقول إن أصحاب ثقافة الإخاء الإنساني من فلاسفة التصوف كان يتجهون للتأسيس لفهم للأمة يتجاوز كل محددات الدين والجغرافيا، بل إنه من العسير تماماً أن نظن أنهم كانوا يدركون ذلك، ولكن في المؤدى فإن القوم تجاوزوا القيد الديني والوطني والتاريخي لبناء الأمة عبر التركيز المطلق على إخاء الإنسان للإنسان، وبناء مملكة جديدة للعالم على منطق الخلق كلهم عيال الله.
وقناعتي أن هذا الجانب من الخطاب الصوفي مدعو أن يقدم نفسه في أطر سياسية واقعية، قد تكون هي الأنسب والأصلح للثورات العربية في بلدان تعج بالمتداخل الديني والمشترك الروحي، ولا أشك أنها تقدم بدائل عملية لعقيدة الإقصاء الديني التي تظهر تلقائياً في شعارات الثورات العربية، ويمكن أن تتحول بسهولة إلى مخاوف تهدد الأقليات وتهدد التطور الحضاري للبلاد.

الرابع: الانتماء المذهبي: وتكون الأمة الإسلامية هنا هي المذهب، ومع أن هذه التسمية كانت إلى عهد قريب مستهجنة ولكن الحرب العراقية الإيرانية، فرضت هذا الواقع في محيط كبير في المجتمعات الإسلامية، ومع أن المقاومة الشيعية في لبنان أسهمت في تأجيل الانشطار التاريخي، ولكن المواقف الأخيرة في ثورات الربيع العربي وبشكل خاص في الثورة السورية وانخراط الشيعة في محاربة الثورة السورية فرضت من جديد قسمة الأمة المذهب، وأصبح من الواقعي تماماً الحديث عن أمتين: سنية وشيعية، وتضاءل بالتالي الأمل في العودة بهما إلى سياق الأمة والواحدة.
ومن المؤلم القول بأن هذا اللون من التصنيف الآن يزداد انتشاراً في إطار الطائفتين معاً بعد تناقض المشروع السياسي الإيراني مع البرامج الوطنية للربيع العربي، وما تلا ذلك من مواجهات طائفية دامية.
إن التصنيفات الثنائية موجودة باستمرار في المجتمع الإسلامي صوفية وسلفية، وأصولية وعلمانية، وظاهرية ومؤولة، ولكن هذه التصنيفات لم تبلغ حد تشطير الأمة وفق ما كرسته القسمة الشيعية السنية وما تلاها من انشطار مجتمعي رهيب.
ولا شك أن هذا اللون من الانشطار المقيت يعتبر عامل هدم حقيقي في الدول التي تعاني من هذا الانقسام، إن الإيديولوجيا قد تكون ظاهرة توحد في المجتمعات التي تقوم على بنية دينية محضة كالكيان الاسرائيلي مثلاً، فيما هي أكبر أمراض الدولة الحديثة، خاصة أن هذا اللون من الشقاق لا يوفر أي بيئة عيش كريم للطائفة المغلوبة، حيث تروج ثقافة الإلغاء والتكفير والإقصاء حتى الغاية.
ولا شك أن ما سجل في السنوات الأخيرة من تنامي المشروع المذهبي سنياً أو شيعياً يدق ناقوس خطر حقيقي لانهيار ثقافة الأمة الواحدة، وهو بما يحمله من رصيد كراهية وإقصاء لا يشبه في شيء ثقافة الأمة التي تقوم على مبدأ أمة بين الأمم، تتجاور وتتعايش، أما الأمة السنية أو الأمة الشيعية فهي أمة مسكونة بهاجس استئصال الآخر المختلف وهو هاجس مدمر لأي كيان وطني.

الخامس: الإقليم السياسي: ووفق هذا الاختيار فإن الأمة هي الوطن السياسي والشعب الذي يعيش في ذلك الوطن، وهذا التقسيم يتماهى في مفهوم الدولة الحديثة، ويتبنى توحيد الرؤية بين الشعب والأمة في إطار الوحدة السياسية، ويطالب الناس بالانكفاء إلى الحدود في الراهن السياسي والاكتفاء بالأمة في هذا الإطار، وهذا التيار له مؤيدون في الدول الإسلامية الكبيرة كتركيا وأندنوسيا ونيجيريا، حيث يروج الحديث عن الإسلام الأندنوسي والإسلام التركي، ويتم تعزيز خصائص هذا اللون وتمييز هذا الشعب بظروفه التاريخية والاجتماعية عن بقية الشعوب الإسلامية، وهذا الفهم لا يقنع التيار الإسلامي التواق إلى رؤية أمة عظيمة مترامية الأطراف كان يجمعها ذات يوم علم الخلافة، ومن العسير أن يتقبل الحدود التي فرضتها اتفاقيات سياسية معروفة عقب الخروج من العصر الكولونيالي.
وعلى الرغم من أهمية هذا الفهم ولكنه ليس سؤال الأمة الذي تتجه هذه الدراسة لمناقشته، ومن الممكن أن نجيب عليه عند سؤال الدولة.
السادس: الانتماء القومي: تبنى المشروع القومي العربي شعار الأمة العربية الواحدة، ورأى فيها الأفق الأكثر قدرة على تحقيق أحلام العرب وآمالهم وقدراتهم، ولا شك أن الانتماء القومي حظي بتأييد كبير في الشارع العربي عقب انتهاء الاستعمار، ولم يكن هذا اللون من الانتماء غريباً على الواقع السياسي، فقد كان لغة التحرر الأوروبي خلال القرن التاسع عشر، كما حظي الخطاب القومي بشعبية واسعة في العواصم العربية، وكان لتبني مصر المشروع القومي بزعامة عبد الناصر، وتالياً البعث العربي تأثير كبير في نهوض أدبيات الأمة تأسيساً على الانتماء القومي.
ولكن المشروع القومي مني بسلسلة من الإخفاقات، لعل أولها انفراط قيادته الوحدوية بعد رحيل عبد الناصر، والنزاع الأبدي بين البعث العراقي والبعث السوري، وبالتالي عجزه عن تحقيق حلم الوحدة العربية، وتكرست القطيعة بشكل خاص بين دعاة الوحدة العربية أنفسهم، وفشله المريع في إنجاز مشروع التحرير.
وقد تعرضت فكرة الأمة العربية الواحدة إلى تحديات خطيرة واشتعلت عدة حروب في المنطقة كان العرب يتوزعون على جانبيها كالحرب العراقية الإيرانية وتحرير الكويت واحتلال العراق، وكذلك الانقسام العربي في القضية الفلسطينية وانقسام الفلسطينيين أنفسهم، والحرب الأهلية في لبنان وأخيراً الحرب الدامية في سوريا.
كما إن قيام كيانات عربية إقليمية كمجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي ومجلس التعاون العربي، وهي مشاريع إقليمية كانت أكثر واقعية وفاعلية، كل ذلك أدى إلى تراجع المشروع القومي العربي وانكفائه، ومن الملاحظ أن ثورات الربيع العربي سجلت تراجعاً حاداً في الشعار القومي، ولم يعد شعار الأمة العربية الواحدة يشد الجماهير الثائرة، التي اختارت في سؤال الأمة شعارات قطرية أو إسلامية.
وتعتبر المكتبة القومية غنية بالتحليل التاريخي والسياسي والواقعي لمبدأ الأمة العربية، وواقعية هذا الشعار، وأنا أشارك هذه القناعة، وأعتقد أن ما نشهده اليوم من تردي الواقع القومي، وضمور المشاعر القومية مرتبط بالظروف السياسية الراهنة أكثر من ارتباطه بجدية الفكرة وواقعيتها، وأعتقد أن مجد المشروع القومي لم يافل بعد، وقناعتي أن هذه العودة مرتبطة بالتصالح مع المشاعر الإسلامية والحيلولة بين التناقض الموهوم باستمرار بين المشروع القومي والمشروع الإسلامي.
إن الانتماء للأمة العربية لا يتناقض ولا يتصادم مع الانتماء للأمة الإسلامية، ومن الممكن لجيل الربيع العربي أن يحمل في جوانحه التوق نفسه للمشروعين ليس على أن أحدهما بديل للآخر، ولكن على أساس الحاجة المؤكدة إلى الارتباط بالعمق العربي والمتحد الثقافي الإسلامي.
ولكن هذا التلازم بين العربي والإسلامي يتصل فقط بالتيارات المنفتحة المؤمنة بدور قومي إلى جانب الدور الديني، ولا سبيل لفهم ذلك في إطار التيارات الاستئصالية قومياً أو دينياً.
غير أن من المؤكد أن عاطفة الشارع الإسلامي تجاه بناء الأمة ووحدة الأمة وانتصار الأمة لا تزال تتنامى صعوداً، كل في قراءته وفهمه ومن المنطقي أن يتجه أي تيار إصلاحي إلى العناية بهذه المشاعر الملتهبة وتحويلها إلى طاقة بناءة وإيجابية.

والسؤال الآن: هل يمكن بناء الدولة الحديثة تحت شعار الأمة السائد في الحركة الإسلامية أم يتعين إلغاء هذا الشعار والدعوة إلى كلمة الشعب؟ وبعبارة أخرى: هل يستقيم مفهوم الأمة الإسلامي العابر للحدود في نظام دولي يقوم على وحدات الدول؟
للأسف إن الجواب الذي قدمته الأنظمة العربية الثورية خلال العقود الماضية كان المواجهة مع الشعار الإسلامي تحديداً، واعتباره تفريغاً للشعور الوطني من مضمونه، بل إن الارتباط بالأمة الإسلامية صار في المشروع القومي العربي ارتهاناً للخارج، وتطبيقاً لأجندات خارجية، وقد تعامل العراق البعثي بمنتهى القسوة مع التواصل مع الأمة الإسلامية في إيران باعتباره مشروعاً فارسياً صفويا، ويتعامل البعث السوري اليوم بمنتهى القسوة مع التواصل مع الأمة الإسلامية في تركيا باعتباره مشروعاً عثمانياً استعمارياً.
وهذا الفهم هو اليوم في أشد تماهيه في الراهن السياسي السوري على وجه التحديد وبعد أن أعلنت منظمة التعاون الإسلامية إدانة السلوك الاستبدادي للنظام فإن شعارات التواصل مع الأمة الإسلامية اصبحت تعتبر شعارات معادية ومشبوهة لدى النظام السوري.
بل إن الانتماء للأمة العربية في البعث العربي أصبح محل ريبة وتحفظ، خاصة بعد موقف الجامعة العربية وعلى الرغم من رسوخ شعار الانتماء القومي في كل أدبيات البعث العربي، وتكريس التدريس الوطني خلال نصف قرن للحديث عن الوحدة العربية ورفض التجزئة القطرية ولكن الشعور القطري يطغى اليوم على أي انتماء والكتابات القطرية تملأ الصحف السورية ويزداد اتجاه عام لرفض أي ارتباط بالأمة العربية بل واعتبار هذا الارتباط ارتهاناً للخارج بعد الموقف الذي اتخذته الجامعة العربية ضد النظام السياسي السوري.
كتب محرر في جريدة الوطن السورية الحكومية قبل شهور: أكبر كذبة تعلمناها على مقاعد الدراسة هي بلاد العرب أوطاني…. الحقيقة هي بلاد سوريا أوطاني……
فيما انصرفت الكتابات الملتزمة بالوحدة العربية إلى الحديث عن الأمة في الذاكرة والتاريخ، ونفيها تماما على أرض الواقع.
إن المطلوب هو دراسة سبر عميق لمدى ارتباط الشارع الثائر بمصطلح الأمة، والتصالح معه وطنياً بحيث يتم ضخ المشاعر الملتهبة التي يبعثها هذا الشعار في إطار إيجابي، طاقة بناءة، بدل التعامل السلبي الذي قام به المشروع القومي ضد هذه الشعارات والذي أدى تلقائياً إلى القطيعة الفكرية بين المشروع القومي والوطني أيضاً وبين المشروع الإسلامي، وأعاد الحدود الدموية بين منطقتي الصراع.
إن مفهوم الأمة اكتسب حمولة إيديولوجية تاريخية، كرست الاستعلاء، وتم التعبير عنه بعبارات دينية: خير أمة أخرجت للناس، الأمة المعصومة، الأمة الخاتمة، الأمة المرحومة، الأمة الناجية، الأمة المختارة، وغير ذلك من صيغ التمجيد التي تبدو ضرورية لشحن عواطف الانتماء، وتجييش المشاعر، ولكنها تؤدي دوراً عكسياً في العلاقات الدولية، وكذلك العلاقات بين الشعوب، التي تقوم أساساً على مبدأ المساواة، ولا تقبل هذا اللون من النرجسية، فلكل أمة مفاخرها ومآثرها، وليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، وقناعتي أنه آن الأوان لنواجه هذه الثقافة الاستعلائية، التي تحول دون استفادتنا من التجارب العالمية على أساس أننا أصحاب فرادة في كل شيء، وهنا يتعين علينا أن نعمل من أجل أمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، وهذا اللون من الكفاح الثقافي سيواجه بضراوة من قبل دعاة المشروعين، ولكن لا مندوحة من هذه المواجهة التي سبق إليها المفكر الإسلامي الكبير محمد الغزالي في كتابه: حصاد الغرور.
إن التواصل مع الأمة الإسلامية ينبغي أن يكون ضمن برامج حقيقية من التكامل والمصالح المشتركة، وهناك فارق كبير بين استثمار العلاقات العاطفية للاندفاع نحو التعاون والتكامل، وبين الوقوف عند هذه العلاقات العاطفية والتطواف في فلكها ومحورها، ويجب القول إن العلاقات التاريخية بين بلدان العالم الإسلامي حققت ازدهاراً واقعياُ وليس مجرد مشاعر عاطفية، وفي طريق الحرير على سبيل المثال الذي كان يصل بين تركيا والصين بلغ حجم القوافل ثمانية آلاف بعير، تجوب العالم الإسلامي وتتبادل نوادر البضائع، وكانت الرحلات تتواصل من شرق العالم الإسلامي إلى أقصاه دون حاجة لإجراءات حدودية أو قومية، وقد تحقق خلال التاريخ اندماج هائل على مستوى المصالح المشتركة بين الشعوب الإسلامية.
إن ثقافة الوحدة الإسلامية بمعنى الاندماج السياسي تبدو غير واقعية وعلينا أن نكف عن هذا اللون من الأحلام في ظل الواقع الدولي الجديد، ولكن قراءة تجارب العالم الوحدوية والتعاونية ضمن كيانات سياسية منفصلة تعتبر الشكل الأمثل للتواصل بين بلدان الأمة عربية أو إسلامية، وبهذا الصدد فإن علينا أن نشير أنه حتى الآن لم توفق البلاد العربية ولا البلاد الإسلامية في إنجاز عملة موحدة أو مناهج دراسة موحدة أو قوانين موحدة حتى في الجوانب التي تتطلب اتفاقاً ومنع ازدواج ضريبي، وإزاء هذه الحقيقة المرة فإن المطلوب هو العمل باتجاه مشاريع تخدم التضامن والتكافل والتعاون، وليس الوحدة الاندماجية التي تضع الأوطان في كف إرادة سياسية واحدة.
ولا شك أن الأمة الإسلامية وفق رؤية تكامل البلدان الإسلامية وتعاونها، لا يشكل أي تهديد للدولة الحديثة، أياً كان نظامها السياسي، إلا إذا كان برنامج النظام السياسي يهدف إلى قطيعة معرفية واجتماعية مع القيم الإسلامية والتحاق هائم بالفرنجة والتغريب، بل إن هذه الروح الشعبية التواقة إلى الوحدة الإسلامية هي قيمة مضافة، تدعم التوجه السياسي الصحيح للبلدان الإسلامية.
ويجب أن نتذكر أيضا أن الأمة الإسلامية لا تتوقف عند حدود الدول الإسلامية المنضوية تحت منظمة التعاون الإسلامي، بل هي ممتدة في سائر دول العالم عبر الجاليات التي تقوم بدور محوري في دعم قضايا المسلمين وتعزيزها، وهنا يفترض أن ينهض كيان مؤسساتي دولي على غرار منظمة التعاون الإسلامي يتولى توحيد جهود الجاليات وتوفير دور سياسي ملائم لحضورها وتأثيرها في العالم.
إن الحضور المعنوي للأمة الإسلامية في ضمير الشارع العربي لا يشكل أي وهن أو تهديد للدولة الحديثة، ونحن هنا نتكلم عن تيار الواقعية السياسية الذي يشكل السواد الأعظم من الحركات الإسلامية، ولا نتكلم عن التيار الراديكالي المتمرد على الدولة الحديثة، وهو تيار محدود ولا فرص له إطلاقاً في اللعبة الديمقراطية، ولكنه من جانب آخر خطير ومدمر، خاصة حين تتم معاملته ببطش واستئصال، ولكن القدر المتفق عليه هنا هو أن خطره على المجتمع الإسلامي برمته أكثر من خطره على الأقليات، لأنه يسوي بين الجميع في عقيدته بوجوب الحاكمية وكفر من يرفضها.
وقناعتي أن الأحزاب السياسية التي تتنكب الوحدة الإسلامية وتصر على استدبارها بدعوى الالتزام بالدولة الحديثة ترتكب خطأ قاتلاً، وتهدم النسيج الاجتماعي التاريخي للأمة، وتؤجج ظروف الصراع، وأن كلمة السر في التعامل مع هذه المشاعر اللاهبة نحو الوحدة الإسلامية هي الاحترام، وبالتالي فإن هذا الاحترام هو الذي سيوفر للقيادة السياسية التعامل بواقعية وعقل، وفي الوقت نفسه تقدير الشارع الثائر.

خلاصة البحث
قصدت هذه الدراسة إلى استقراء النتائج التالية:
• صعود التيار الإسلامي نتيجة طبيعية في إطار المواجهة المريرة مع تيارات الاستبداد الفردي والطائفي والحزبي والفئوي.
• التيار الإسلامي الصاعد يدين بالولاء لشعارات الدولة الدينية والخلافة والدولة الراشدية، ولا يلتزم (في إطار الشعار الثوري) خيار الدولة الديمقراطية وشرطها.
• إن الشعارات الثورية لا تعكس بالضرورة ملامح المشروع السياسي الذي سينخرط فيه الإسلاميون بعد الخلاص من الاستبداد.
• إن الصراع على تفسير الدولة الإسلامية وتفاصيلها سيتخذ بعد الخلاص من الاستبداد طابعاً مدنياً وفق الخيارات الديمقراطية.
• إن الغالبيبة العظمى من رافعي الشعارات الثورية الإسيلامية سينخرطون في أحزاب واقعية تؤمن بالتغيير الديمقراطي، وربما تحمل رؤى سياسية متناقضة ولكنها متفقة على احترام الشعار الإسلامي الثوري والتاريخ الإسلامي المجيد.
• إن بقاء تيار إسلامي ينشد الخلافة وفق تصورات السلفية الجهادية أمر مؤكد، ولكنه بعد زوال الاستبداد يمكن أن يتحرك في إطار مجتمع الحريات ولن يتخذ طابعاً دموياً، على الرغم من أنه سيحتفظ بقسوته وإقصائيته وفتاواه وتكفيريته.
• إن الدفاع عن قيم الحرية وتعزيزها هو وحده الكفيل بهذا التحول التاريخي، وإن استمرار الاستبداد وخاصة بصيغته الكليبتوقراطية والأوليغارشية يعني ضرورة تصاعد الشعار الثوري الرافض للديمقراطية والمساواة خاصة المساواة بين الضحية والجلاد.
• أن السياق العام للدولة النبوية يتبنى خيار الدولة الاوتوقراطية ولكن القيم الإسلامية والتطبيق النبوي على الرغم من ذلك يمكن أن تكون حاملاً موضوعياً لكثير من قيم البناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والمواطنة الكاملة.
• إن الجدل الاعتقادي في نسخ الأديان بالرسالة الخاتمة مستمر، وله بلا شك ظلال سياسية وواقعية مرهقة، خاصة في سؤال الأمة والدولة والمواطنة، وهو يتطلب جهوداً طويلة من النضال الثقافي لرسم ملامح عدالة سياسية، وترسيخها وطمأنة الأقليات.
• إن مفهوم الأمة اكتسب حمولة إيديولوجية تاريخية، كرست الاستعلاء، وتم التعبير عنه بعبارات دينية: خير أمة أخرجت للناس، الأمة المعصومة، الأمة الخاتمة، الأمة المرحومة، الأمة الناجية، الأمة المختارة، ويتعين علينا أن نعمل من أجل أمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم.
• إن ثقافة الوحدة الإسلامية بمعنى الاندماج السياسي تبدو غير واقعية والمطلوب هو العمل باتجاه مشاريع تخدم التضامن والتكافل والتعاون، وليس الوحدة الاندماجية التي تضع الأوطان في كف إرادة سياسية واحدة.
• إن مبدأ الأمة الإسلامية وفق رؤية تكامل البلدان الإسلامية وتعاونها، لا يشكل أي تهديد للدولة الحديثة، أياً كان نظامها السياسي، إلا إذا كان برنامج النظام السياسي يهدف إلى قطيعة معرفية واجتماعية مع القيم الإسلامية والتحاق هائم بالفرنجة والتغريب، بل إن هذه الروح الشعبية التواقة إلى الوحدة الإسلامية هي قيمة مضافة، تدعم التوجه السياسي الصحيح للبلدان الإسلامية.
• إن الأمة الإسلامية لا تتوقف عند حدود الدول الإسلامية المنضوية تحت منظمة التعاون الإسلامي، بل هي ممتدة في سائر دول العالم عبر الجاليات، وهنا يفترض أن ينهض كيان مؤسساتي دولي لتوفير دور سياسي ملائم لحضورها وتأثيرها في العالم.
• إن القدر المتفق عليه هنا هو أن خطر التيارات الراديكالية على المجتمع الإسلامي برمته أكثر من خطره على الأقليات، لأنه يسوي بين الجميع في عقيدته بوجوب الحاكمية وكفر من يرفضها.
• إن الأحزاب السياسية التي تتنكب الوحدة الإسلامية وتصر على استدبارها بدعوى بناء الدولة الحديثة ترتكب خطأ قاتلاً، وتهدم النسيج الاجتماعي التاريخي للأمة، وتؤجج ظروف الصراع، وإن كلمة السر في التعامل مع هذه المشاعر اللاهبة نحو الأمة الإسلامية هي الاحترام.

Related posts

كورونا.. دعوة للوعي

drmohammad

نحو لغة إنسانية في ترانيم الدعاء

drmohammad

ميلاد مجيد! المسيح المكرَّم… تراث سورية العتيق

drmohammad

Leave a Comment