مقالات

هل يتقدم الخطاب الإسلامي؟

هل نتقدم نحو إسلام حضاري؟ …

هل نسير إلى الامام أم إلى الوراء؟ هل يتطور الخطاب الإسلامي إلى أفق إنساني حضاري؟

من المؤلم ان الواقع لا يزال محبطاً، فلا يزال الخطاب السائد في الوسط الديني يرفض مفردات الحداثة ويعتبر الديمقراطية والحرية والمساواة مؤامرة على الإسلام، ولا يزال يعتبر الأمم المتحدة جهة ماسونية تقوم بتسويق الخطط المعادية للدين،  ولا تزال جسور التواصل مع الحضارة الحديثة تتعرض لمقاومة ضارية من قبل الاتجاهات المحافظة والأصولية التي لا تزال ترى أن أفضل شيء نفعله لمستقبل الأجيال الآتية هي أن نعود بهم إلى الماضي وأن نمنع عنهم نور المستقبل، وأن أهم ما يجب فعله مع الطاقة التي تهب منها رياح الحرية والديمقراطية والحداثة أن نسدها ونستريح.

وفي الأسبوع الماضي أصدرت مشيخة القراء في المنفى بياناً ضارياً تطالب بالهجوم على التيارات التنويرية الحداثية وتهشيم رموزها المتآمرين الذين يعبثون بالثوابت، وبدا واضحاً في خطاب هذه المشيخة أن الثوابت هي الولاء للمسلمين والبراءة من غيرهم، وإلهاب نار الاستعداد للمواجهة الهجومية مع العلمانية والحداثة والتنوير، ووجوب التسليم لرجال الدين ورفض قيم التنوير والديمقراطية والحرية.

ولكن هذا الاعتراف على مرارته لا ينبغي أن يشغلنا عن تطور بالغ الأهمية تشهده المؤسسات الإسلامية الرئيسية التي تحللت من سطوة رجال الدين، وباتت تتخذ مساراً آخر يختلف تماماً عن الخطاب التقليدي السلفي الذي أدى إلى هذا التشظي المجتمعي الخطير.

ونشير هنا إلى أهم مؤسستين إسلاميتين في العالم بدون منازع وهما رابطة العالم الإسلامي التي ترعاها السعودية وتعبر عن صوت الحرمين الشريفين وما ينتظم في سياقها من كبار فقهاء الإسلام وأعلامه، والأزهر الشريف الذي ترعاه مصر بكل ما تعنيه هذه الدولة الجبارة من رمزية في قيادة المجتمعات الإسلامية وتقديم صورة الإسلام للعالم.

فالرابطة التي ذهبت خلال العقود السابقة إلى الاشتباك بضراوة مع التيارات العلمانية وتكفير المذاهب المختلفة اعتقادياً كالشيعة والباطنية والقاديانية وحتى الصوفية تتوجه اليوم إلى أفق مختلف تماماً، وتطلق وفق برنامج واضح خطاباً يكاد يكون متناقضاً مع التوجه التاريخي للرابطة.

والأزهر الذي كانت مناهجه تنص على قتل المرتد والزنديق وتارك الصلاة، يتغير تماماً اليوم، وبات يبشر بلغة تصالحية وفاقية تحترم الأديان والمذاهب، وتؤسس لدولة القانون والمساواة، وإخاء الأديان وكرامة الإنسان.

وحتى لا أتهم بالكلام المرسل فإنني سأنقل للقارئ الكريم هذا المقتبس من مقررات المؤتمر الإسلامي العالمي الذي انعقد بإشراف الرابطة في مكة المكرمة، وحضره 1200 فقيه إسلامي كبير من مختلف دول العالم، ومعظمهم على رأس هيئات ومؤسسات رسمية متخصصة بالشأن الإسلامي، وبعد تحضير استمر شهوراً طويلة وحوارات دامت لعدة أيام أنجز المشاركون وثيقة مكة 2019، التي تعتبر من أكثر الوثائق أهمية في نشر خطاب التسامح والواقعية في المجتمع الإسلامي.

والوثيقة تعبر عن المشاركين بكل تأكيد وبإمكاننا معرفتهم فرداً فرداً ومؤسسة مؤسسة، كما تعبر عن تسعين فقيهاً كبيراً هم أعضاء في المجلس التأسيسي للرابطة ويمثلون أكبر المرجعيات الإسلامية في العالم، ويعتبرون جميعأً موقعين على الوثيقة إلا من أصدر بياناً يتبرا فيه مما فيها، ولم يقم بذلك في الواقع أحد.

May be an image of text

هذه الفقرات من الوثيقة، أقرها الجميع، وهي بكل وضوح تتناقض بالكامل مع الخطاب السابق للازهر والرابطة، وتكشف عن انعطاف حقيقي ومباشر في الوعي بالإسلام شريكاً في الحضارة العالمية وليس وصياً عليها، ودعوة للإقرار بالتنوع الاجتماعي، وإخاء الأديان والمذاهب والمواقف العلمانية وليس القتال ضدها باعتبارها منابر الضلال والكفر، ومن المؤسف ان نعترف أن الخطاب السائد على المستوى الشعبي ووسائل التواصل وكثير من المساجد لا يزال يعتمد الخطاب السائد ويرفض الاعتراف بالتطور العميق الذي أنجزه الفقه الإسلامي في السنوات الأخيرة، والفتاوى التي تحرم ذلك كله لا تزال موجودة أيضاً على وسائل التواصل، وبإمكانك أن تبحث عنها بالحرف كما تبدو في هذه اللوحة مثلاً في موقع فتاوى اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء، وهي تنص على كفر الوثيقة وتكريس النص الإقصائي السائد.

الموقع   http://www.alifta.gov.sa/Ar/IftaContents/Pages/PermFatawa.aspx

قد يقال إنها مطالب السياسة، وما كان لهؤلاء الفقهاء أن يوقعوا إلا بضغط سياسي، ولا أستبعد ذلك بكل تأكيد، ولكنني اعتبرها فرصة نادرة للتطور فلطالما كانت السياسة تمارس العكس، وتتهم كل نافذة مفتوحة على العالم الحر بالتآمر والخيانة.

إنها صورة من صور الجدل في خطاب التجديد والتنوير ولكنها في الوقت نفسه تؤكد أننا أصبحنا على مفترق طريق فاصل، فإما إلى التنوير والحداثة والشراكة مع المجتمعات الإنسانية والوطنية المختلفة، وإما إلى الصدام واستئناف الحرب تحت عنوان الدفاع عن الحق وزهوق الباطل ووجوب استعلاء الدين وهيمنته على الأمم.

Related posts

د.محمد حبش-الانهيار المصرفي العالمي…قراءة من اليسار الإسلامي 21/11/2008

drmohammad

د.محمد حبش- المسيح على القناة العاشرة…لاتصلبوه مرتين 27/2/2009

drmohammad

إرادة الحرب وغرائز السلام – عمر بن عبد العزيز

drmohammad