إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ما الذي يمكن أن نقرأه في شوارب بولتون البلطجية وهو يرفع يده في مجلس الأمن ضد قرار إدانة المجزرة الإسرائيلية في بيت حانون؟
هل نبالغ عندما نتحدث عن الحضارة الأمريكية بأنها حضارة تفتقر إلى الإيمان؟ قد يذهب الواقع إلى حد تكذيبك في هذا الزعم الواهم، فأمريكا لم تتوقف عن بناء الكنائس منذ قرون وفي حي هارلم النيويوركي الخطير زرت كنيسة هائلة تبنى بإمكانيات عجائبية ويصر مهندسوها أنها تحتاج لتكتمل نحو مائة عام، ليس بسبب تعقيدات روتينية (يلبغائية) بل لأنهم أرادوا أن يضيفوا للتاريخ معنى فريداً لدور الكنيسة في الحياة وحضورها في السيرورة التاريخية للقارة الأمريكية، ولكن ما إن تبتعد قليلاً عن أقواس الكنيسة التي لا تزال تحفر فيها مطارق النحاتين، فإنك تكتشف أنه لا يوجد في الكنيسة على الإطلاق أكثر من صحائف خاوية لدور الإنسان في الحياة وخلو العلاقة بين الإنسان وبين الروح، وأكثر من ذلك فإن الصخب المادي الذي يعصف بالأسواق وما فيها من شركات متعددة الجنسيات كاف لفهم ما قاله الأول هنا: إن المسلمين أغرقوا ضريح النبي بالصلوات ولكنهم لم يتبعوا سنته، وربما تورمت أقدامهم وتشققت جباههم في محاريب الصلاة ولكنهم لم يقوموا في العبادة على محراب العمل، وهو معنى نقرؤه بوضوح في خطاب إقبال:
منائركم علت في كل أرض ومسجدكم من العباد خالي
وجلجلة الأذان بكل أرض ولكن أين صوت من بلال؟
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي؟
إنها حكاية الغرب الثاثر يوم استدبر قيم السماء وراءه وراح يلهث في بناء الحياة على أساس من غياب قيم الإيمان الخالدة، فإلى أي مدى كان الإنسان صادقاً في اختياره هذا؟
مع عصر الأنوار قال الغرب بصراحة إنه ماض لتجاوز عصر الآلهة وإن الميتافيزيق ليس إلا بقية من السحر والسيمياء ينبغي أن نناضل للخلاص منها، وبعد قليل وصل نيتشة وأعلن بوضوح لا لبس فيه أن الآلهة قد ماتت, وراح يطالب الإنسان بأن يخرج الآلهة من قلبه, ويقبرها في حفرة عميقة, يوضع على بابها حجر ثقيل, حتى لا تخرج ثانية فتفسد حياة الإنسان.
قد يبدو هذا الخيار مجرد طريقة في تفسير الكون، وثمة من يعتقد أن موقفاً كهذا لا يمكن من خلاله وصف الإنسان بأنه طيب أو شرير، جيد أو سيء، والمسألة في سلوك الإنسان، على حد قول الشاعر العابث: ما دمت محترماً حقي فأنت أخي آمنت بالله أم آمنت بالحجر
ولكن فلسفة تمجيد الإلحاد ما لبثت أن أعلنت عن نفسها بوجهها السافر فإذا هي مباشرة في أزمة مع الإنسان، ومع أن نيتشه دعا إلى موت الإله، والكفر بالسماء، والإيمان بالإله الجديد الذي هو الإنسان الجديد، وتحديداً السوبرمان، ولكنه وجد نفسه مباشرة في صراع ضد الإنسان، وحين طالب بإنتاج السوبرمان على الأرض بمكنة صناعية صارمة لا مكان فيها للعواطف والمجاملات، كان يكشف صراحة عن موقفه من الضعفاء والفقراء الذين يعوقون تقدم الحضارة بأنهم وباء يجب التخلص منه، بل إنه ليدعو المرضى والضعفاء إلى قتل أنفسهم انتحاراً تطبيقاً لمبدئه الذي يقول فيه: مت في الوقت المناسب, أما في حال عدم استجابة الضعفاء والمرضى لدعوته تلك وانتحارهم، فإنه يدعو الأقوياء إلى أن يقوموا بهذه المهمة نيابة عن الضعفاء فيقتلونهم, حتى يخلو المجتمع مما يعوق تقدم الإنسانية إلى تحقيق الإنسان المجاوز للحد، وفي النهاية صرح بدون خوف ولا وجل قائلاً: اقهر الضعفاء! اسحقهم! اصعد فوق جثثهم! إن درهم قوة خير من قنطار حق!! لن نتمكن من بناء الإنسان الجديد إلا إذا كفرنا بالأخلاق والعطف والرحمة !! إن البناء الحضاري الجديد لا بد أن يجرف في طريقه عدداً غير قليل من الضعفاء الذين هم عالة على التقدم البشري.
بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فيما يتصل بالجانب الخلقي, فقد وضع مقياساً للأخلاق ربط فيه بين القوة والفضيلة بصرف النظر عن مجالات استعمالها, فإن القوي عنده له مطلق الحرية في استعمال قوته في كافه المجالات, ولو كان سفك الدماء البريئة, بل إنه يحض الأقوياء على سفك دماء الضعفاء حتى لا يعوقوا مسيرة البشرية إلى الأعلى, كذلك كل ضعف هو رذيلة. بصرف النظر- أيضاً-عن أسباب الضعف, وسواء كانت بفعل الإنسان, أو كان ذلك خارجاً عن إرادته وإمكاناته، وهكذا فقد جزم أن القوة هي الخير وهي الفضيلة، وأن الضعف هو الرذيلة وهو الشر.
وهنا صرح نيتشة بأن الأخلاق هي السم الزعاف في طريق تقدم البشرية، وخص بالذكر مبدأ الصدقة فاعتبره مكراً من الضعفاء لابتزاز الأقوياء، وكان يصرح بأن الضعفاء يسرقون جهد الاقوياء، ولم يتردد في الإيمان بالعرق الأزرق المتفوق وحق النبلاء في التعالي على الناس والتميز عنهم، مستخدماً عبارته الشهيرة: لقد دفع آباؤك ثمناً غالياً لمنحك مجد الدم الأزرق!!
ولكن هل ما نقدمه هنا هو مجرد رؤية سوريالية حالمة مكانها بطون الكتب الفلسفية، ومن غير الوارد على الإطلاق أن تنتقل إلى الواقع المعاش؟
من وجهة نظري فإن ما أقدمت عليه حكومات أوروبية متعاقبة من ممارسة العنف ليس إلا صدى تطبيقياً لهذه الرؤية الفلسفية الصارمة، وهنا بالضبط المكان الذي ندرج فيه الحرب الكونية الأولى والثانية التي اندلعت أساساً بالدافع النازي، وهنا مكان الحديث عن جرائم العصر الكولونيالي وما أفرزه من مظالم وهزائم ومآثم، وهنا بالضبط يكمن السبب الحقيقي وراء قيام الطيار الأمريكي بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي ويقول بعد خمسين عاماً إنني لا أشعر على الإطلاق بالندم لما صنعت، لقد كان ما قمت به ضرورياً من أجل نهضة اليابان!! وهو (مكتور الخير) إذ لم يطالب اليابانيين ببناء تمثال له في ساحة البلدية في هيروشيما!! ووفق هذا التفسير فقط يمكننا أن نفسر قيام الطائرات الأمريكية بقصف المشافي والمساجد والمدراس في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، وحين كنت تراقب القصف الإسرائيلي على مشفى الأمراض العصبية في بيروت كان الطيار الإسرائيلي يفرك كفيه شماتة بالبؤساء، ويقول لأولاده لقد قمت اليوم بشيء مفيد للحضارة!! فالصورة التي رسمتها الفلسفة الإلحادية لا تجعل في الإنسان أكثر من حلقة في سلسلة القطيع الدارويني الذي يقفز الطفرة تلو الطفرة بدون إرادة عاقلة وبدون هدف حكيم، فالحوت يأكل السمك، والذئب يأكل الغنم، والأسد يفترس حمار الوحش، والنسر يفتك بالأرانب، والقط يأكل الفأر، والفأر يأكل الدود، ويتم ذلك كله في لغة الطبيعة المتلازمة مع حركة الحياة، ولا ينبغي أن يكون أي من ذلك محرماً فهذا هو شكل الحياة مذ وعى الإنسان على شروطها، فلماذا يشذ هذا الإنسان المشاغب عن أصول اللعبة!! فلندعه إذن يمارس ما تمارسه الطبيعة، ولنقر بحق الأقوى أن يفتك بالأضعف، فهذه طبيعة الأشياء وعلينا احترام مسيرة التاريخ بهذا الوجه!!
مباشرة فإن أي ثقافة تكفر بالله فإنها ستصل مباشرة إلى الكفر بالإنسان، لأنها حين تغيب قيم الرحمة والعدالة فإنها ستكفر بالتالي بالإنسان، وهنا يصدق القول إذا لم يكن هناك إله فلن يكون هناك إنسان أيضاً!!
وبالقدر نفسه يستوي الكفر بالله مع الإيمان المزيف حين نمضي إلى اتخاذ الإيمان وسيلة لمزيد من الحروب والأحقاد، فالرئيس بوش يغمض عينيه باستمرار مع الناسكين، وخاصة عندما يحضر إليه الرب في البيت الأبيض، والعجيب أن هذا الرب الذي يزور بوش في مكتبه البيضاوي لا يشبه في شيء (الله محبة)، بل هو من نوع يهوه إله الجنود، أو مارش إله الحرب وهو دائم النزق والغضب، وعادة ما بتلقى الناسك في المكتب البيضاوي أوامره الساخطة على هيئة جيوش ونعوش، وفرقاطات ومدمرات، وحروب ومجازر.
أود أن أتساءل بأمانة، وأرجو أن يكون القارئ الكريم شريكي في صياغة الجواب، ما الذي تقرؤه في وجه بولتون السفير الأمريكي في الأمم المتحدة حين يرفع يده في مجلس الأمن لاستصدار فيتو ضد مشروع قرار (مجرد قرار حبر على ورق) يدين قتل الأطفال الأبرياء في بيت حانون!! ما الذي كان يرمز إليه (بمكسورته) اللئيمة؟؟ لا أجد في وصف ذلك أدق من قول علي عزت بيغوفتش: عندما لا يكون في الحياة مكان لله، فلن يكون هناك مكان للإنسان أيضاً!!